"ثري بيلبوردز".. كيف عكس رغبة الانتقام لدى الأم المكلومة؟
خلال الحرب العالمية الثانية ولتشجيع العمال ودعم العمل الجماعي، طلبت شركة "وستنغهاوس" من المصمم هوارد ميلر تصميم ملصقات تظهر كيف يمكن للعمال وإدارة المصانع التعاون معا لتحسين الإنتاج. واحد من هذه الملصقات يظهر امرأة تغطّي رأسها بمنديل أحمر وترتدي بدلة العمل الزرقاء اللون، وهي تشمّر عن كمّ القميص رافعة قبضتها إلى الأعلى، وفي كعب الملصق خطّت عبارة "نستطيع فعلها".
لم يشتهر الملصق كثيرا خلال الحرب، لكن في العام 1980 بدأ استخدام الملصق من جديد، وفي السنوات القليلة اللاحقة تغيّر معنى تصميم ميلر، وصار رمزا نسويا تستخدمه العديد من المجموعات النسوية حول العالم بأشكال مختلفة (1). بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاما في بلدة متخيّلة تدعى إيبينغ في ولاية ميزوري في أميركا، ارتدت ميلدريد هايز الثياب نفسها خلال حربها على قسم الشرطة في البلدة بحثا عن العدالة لابنتها المغتصبة والمقتولة.
يبدأ فيلم "ثلاث لوحات إعلانية خارج إيبينغ ميزوري" للمخرج البريطاني مارتين ماكدونا بعد سبعة أشهر على مقتل أنجيلا هايز على يد مجرم ما زالت شرطة البلدة عاجزة عن القبض عليه أو تحديد هويته على الأقل. يحوّل الموت القاسي لأنجيلا والدتها ميلدريد إلى امرأة غاضبة، غير قادرة على تجاوز الموت المفجع لابنتها دون الانتقام وتحقيق العدالة.
قسوة الموت إلى جانب شجارها مع ابنتها قبل موتها مباشرة، يحيلان ميلدريد إلى ما هي عليه، ولا تجد أمامها سوى جهة واحدة تلقي عليها المسؤولية: شرطة البلدة، ممثلة في رئيسها الضابط ويلوبي. تستأجر ميلدريد ثلاث لوحات إعلانية تكتب على كلّ واحدة منها جملة واحدة: "اغتصبت وهي تموت"، "والقاتل ما زال طليقا"، "كيف ذلك أيها الرئيس ويلوبي؟".
تعزز هذه الصراعات الرغبة والإصرار لدى ميلدريد على المواجهة، كامرأة وكأم مفجوعة عصية على الانكسار، لا تذرف دمعة واحدة طوال مدة الفيلم. من الجهة الأخرى تبرز شخصية الشرطي ديكسون الانفعالي الذي يعيش مع والدته. ينتقل ديكسون من حالة نفسية إلى أخرى، من ضابط شرطة كسول يقضي وقته في قراءة الكوميكس وأكل الكوكيز إلى شرطي عدواني يعتدي على السود ويرمي الناس من النوافذ. يعيش ديكسون بدوره صراعه الخاص مع ذاته ومع ميلدريد.
في النهاية، يبقى المحرك الرئيسي للأحداث المتتالية والمفاجئة والمتصاعدة هو غضب ميلدريد، وهو ما يعبّر عنه المخرج صراحة في إحدى المقابلات بالقول: "قوة الإرادة والغضب والألم، كانت موجودة قبل أن أكتب الصفحة الثانية أو حتى سطرا واحدا من الحوار. بمجرد أن تبدأ مع شخص قوي ومستفز، تصير كل المشاهد التالية حول كيفية تفاعل الناس الآخرين مع ذلك" (2). كل حدث جديد يكشف جوانب مختلفة في شخصية ميلدريد والشخصيات الأخرى، دون أن يقوم المخرج بمحاكمات أخلاقية لهم. يجري كل ذلك في مزيج غريب، جدي بقدر ما هو مضحك، متشابها في ذلك مع أفلام الأخوين كوين (3).
على الرغم من ذلك، أشار ماكدونا في مقابلات متعددة إلى أن سيناريو الفيلم كان جاهزا في الفترة نفسها التي أنهى فيها كتابة سيناريو "سبعة مرضى نفسيين". الأمر الذي يؤكده الممثل كالب لاندري جونز في إحدى المقابلات بالقول إن ماكدونا كتب السيناريو قبل ثمانية أعوام تقريبا (4).
بكل الأحوال، نحن أمام شخصية نسوية بطريقتها الخاصة، تواجه الجميع بحثا عن العدالة، عارفة في الوقت نفسه كيفية ضرب كل شخص تعتبره مسؤولا عن عدم تحقيقها حتى الآن. هي تصرخ على ضباط الشرطة ولا تتحرج من شتمهم، تضرب الأولاد في المدرسة، ولا تتورع عند إحساسها بالضيق وانغلاق الأفق من إشعال مبنى بزجاجات المولوتوف. هذا الإصرار على بلوغ هدفها ومحركه المتمثل بالغضب ينزع عنها حالة مثالية أو طهرانية (لم تدعيها أساسا) ويورطها في مجموعة من الأفعال المؤذية للآخرين.
الطريف في الأمر أن الممثلة كادت أن ترفض الدور، لعدم اقتناعها أن امرأة في آخر الخمسينيات يمكن أن تكون والدة لمراهقين تحت العشرين، لولا تدخل زوجها المخرج جويل كوين (6). قدّمت مكدورمان أداء استثنائيا أعاد إلى الأذهان أداءها دور الشرطية مارج غندرسون في فيلم الأخوين كوين "فارغو" ومنحها جائزة غولدن غلوب لأحسن ممثلة رئيسية.
كلمة فرانسيس مكدورمان بعد فوزها بجائزة الغولدن غلوب عن دورها في الفيلم
قدّم سام روكويل أيضا، في ثاني تعاون له مع ماكدونا، دورا فارقا في مسيرته نال عليه جائزة غولدن غلوب لأفضل ممثل مساعد. يشير روكويل في إحدى المقابلات إلى أنه لطالما رغب بأداء دور ضابط شرطة، وأنه لهذه الغاية أمضى وقتا مع ضباط شرطة ورافقهم في جولاتهم وخلال أوقات مناوباتهم.
كلمة سام روكويل بعد فوزه بغولدن غلوب أفضل ممثل مساعد عن دوره في الفيلم