شعار قسم ميدان

مجتمع الشعراء الموتى.. أوجه متعددة لفردانية الإنسان

midan - R-cover

"ثمة طريقان يمتدان بين الأشجار، وأنا اخترت الطريق الأقل اختيارًا."

روبرت فروست – الشاعر الأمريكي

 

يحكي فيلم مجتمع الشعراء الموتى، "Dead poets society" قصة ستة مراهقين في مدرسة "ويلتون" الصارمة المعروفة بتميزها، تنقلب حياتهم رأسًا على عقب؛ عندما يصبح "جون كيتينج" معلم الأدب الإنجليزي لفصلهم؛ وهو رجل غير تقليدي، ومتمرد على أساليب التعليم القديمة. يحاول "كيتنيج" تعليم طلابه أن يجد كل واحد منهم "صوته الخاص"، وأن يعبر عن نفسه. تحت إشراف كيتينج، يتعمق الطلبة في عالم الشعر الإنجليزي، ومعه ينفتحون على عالم جديد من استكشاف أنفسهم، وأحلامهم، وشغفهم..

(imdb.com)
(imdb.com)

يحاول الفيلم استكشاف مفهوم الفردانية، تُواجه الشخصيات مواقف عديدة، تعرض المفاهيم الأساسية للوجودية، يصطدم أبطال الفيلم بأشكال من التعارض بين رغباتهم الذاتية، وبين ما تفرضه سلطة لا يريدون الخضوع لها، هذه السلطة قد تكون الأسرة، أو قواعد المدرسة الصارمة، أو عادات المجتمع. يمكن إذن  تصنيف الفيلم؛ باعتباره "ما بعد حداثي"؛ لا يحب كل أشكال السلطة، ويتجه بالأفراد نحو ذواتهم؛ ليدركوا كنهها ويعبّروا عنها.

 

يبدأ الفيلم بمشهد الطلاب يرتدون جميعًا زيًا موحدًا، خلف الأسوار العالية والبوابة الحديدية للمدرسة الصارمة، يجب على الجميع أن يرتدوا الزي نفسه، ويتبعوا القواعد نفسها: "التقاليد، الشرف، الانضباط، التميز.." لا يخضع الطلبة لسلطة مدرستهم فقط؛ لكنهم أبناء عائلات نبيلة؛ أنفقت الكثير حتى يصل أبناؤها إلى هذا المكان، وكل عائلة لها تصورها الخاص عمّا يجب أن يكون عليه شكل حياة ابنها.  

 

والد الطالب "نيل" رجل عسكري شديد الانضباط، ولديه خططه الطموحة لحياة ولده؛ على "نيل" أن يتفوق في المدرسة، ثم يلتحق بجامعة هارفارد، ثم يدرس الطب. يقرر والد "نيل" كل ما يتعلق بابنه، يفاجئه في المدرسة، ويخبره أنه لن يكون من ضمن من يعدون الحفل السنوي للمدرسة هذا العام، يتفق الأب مع المعلم على ما سيفعله الابن، وليس على "نيل" سوى التنفيذ.

 

يتم تقديم "تود" للطلاب بتعريفهم بأخيه المتميز. طوال حياته يعيش "تود" محاطًا بظلال تميز أخيه، ومحاولة أهله أن يجعلوه نسخة منه، مثقلًا بتوقعاتهم ومقارناتهم؛ وشيئًا فشيئًا يتعلم "تود" أن يخجل من ما هو عليه، وأن لا يعبر عن نفسه، إنه يؤمن تمامًا أن ما بداخله لا يستحق كشفه أو التعبير عنه؛ وحين يطلب "كيتينج" من الطلاب أن يستغلوا أيامهم، يكتب "تود" على ورقة بخط كبير: "استغل يومك"؛ لكنه يمزقها فورًا، إنه ليس قادرًا على التعبير عن نفسه حتى على ورقة.

 

لكن المعلم "كيتينج" يحاول إخراج "تود" من عزلته، ويجره للتعبير عن نفسه مرة تلو المرة؛ ليتمكن أخيرًا من المشاركة الاعتيادية في الفصل، ومخاطبة زملائه وأساتذته، هكذا يصبح له أخيرًا "صوته الخاص".  

 

يستمر "تود" في التحول، في عيد ميلاده، يرسل له والداه نفس الهدية التي أرسلت له العام الماضي، والتي لم تعجبه العام الماضي أيضًا؛ ربما كانت لتعجب أخاه؛ لكنها لا تعجبه، إنها طقم أدوات مكتبي. هذه المرة يرفض "تود" أن يتأقلم مع شيء لا يحبه، وبدفعة صغيرة من صديقه "نيل"، يقرر أن يلقي بالهدية من فوق سور المدرسة، نفس السور الذي كان يفترض أن يحصر الطلبة بداخله؛ ليأخذوا جميعًا شكل القالب المعدّ لهم.

يساعد وجود البشر الإنسان على اكتشاف نفسه وفهمها؛ لكن في عالم مؤطر بقواعد لا يمكن الخروج عنها؛ يتعلم الناس أن يُخرجوا بعضًا من مشاعرهم فقط، وأن يظل الباقي بالداخل.
يساعد وجود البشر الإنسان على اكتشاف نفسه وفهمها؛ لكن في عالم مؤطر بقواعد لا يمكن الخروج عنها؛ يتعلم الناس أن يُخرجوا بعضًا من مشاعرهم فقط، وأن يظل الباقي بالداخل.
 

"نوكس" طالب آخر، يبحث عن "صوته الخاص" في محاولة الحصول على قلب "كريس" الفتاة التي فتنته من نظرة واحدة، لا يعبأ "نوكس" بعلاقة عائلته وعائلة الفتاة، ولا بحواجز أخلاقية؛ مثل كون الفتاة مرتبطة بالفعل، إنه فقط ينفذ تعليمات معلمه بشكل حرفي؛ يسرح في خيالاته عن "كريس" التي خلقها في رأسه، يكتب شعرًا رومانسيًا عن فتاته "ذات الشعر والوجه الذهبيين" ثم يهرب ليلقيه أمامها، فيما كاد أن يودي بحياته؛ لكنه ينجح في النهاية في الحصول على اهتمام منها؛ ليطرح السؤال الأبدي عن حدود الحكمة والمغامرة، واحتمال الواقع للخيال.

 

لا يستطيع الأشخاص التعبير عن أنفسهم إلا حينما يفعلون هذا أمام آخرين، في الحقيقة يساعد وجود البشر الإنسان على اكتشاف نفسه وفهمها؛ لكن في عالم مؤطر بقواعد لا يمكن الخروج عنها؛ يتعلم الناس أن يُخرجوا بعضًا من مشاعرهم فقط، وأن يظل الباقي بالداخل، يتحين فرصة للخروج. تظهر الفرصة أمام "نيل" حين يكتشف أمر "مجتمع الشعراء الموتى" الذي كان "كيتنيج" عضوًا فيه، يتحمس لإحياء طقوسه؛ محاولًا البحث عن "صوته الخاص" في وجه حياته.

 

بذل "نيل" جهدًا كبيرًا لإقناع أصدقائه بفكرة الكهف، ومساعدتهم في الانضمام؛ يبدو أنه أكثر الطلبة حماسًا لتعلميات "كيتينج" وأكثرهم فهمًا لها، حاول جعل الأمر مناسبًا حتى لـ"تود" الخجول، وكسر مخاوفه، مع ذلك؛ لم يستطع "نيل" أن يجد "صوته الخاص" أمام أبيه ليقنعه بحلمه الكبير أن يصبح ممثلًا، في الواقع لم يتمكن "نيل" من إيجاد صوت لنفسه؛ إلا حينما كان على خشبة المسرح؛ يمثل شخصًا آخر.

 

بعد مسرحية "نيل" الوحيدة، يعيد الأب ابنه للمنزل بحسم، في المنزل تجلس والدة "نيل" في شحوب وقلق، وحدة الإضاءة خلفها تشبه تلك التي يستخدمها ابنها في الكهف، وهي تدخن -تمامًا- مثلما كان الطلاب يفعلون في اجتماعاتهم، إنها ربما تمارس طقوسها الخاصة في محاولة التعبير عن نفسها؛ لكنها لا تقول شيئًا.

 

بعد صفعة من القرارات الصادمة من الأب؛ ينظر "نيل" نظرة واحدة طويلة في عيني أبيه، كانت كافية ليدرك أنه غير قادر على المواجهة، أو أن محاولاته ستبوء بالفشل لا محالة؛ بعد فقدان الأمل، لا يحتاج نيل (الفتى محب الشعر، مرهف الحس، و الممتلئ بالحياة) وقتًا طويلًا ليقرر أن الحياة إما أن يُستخرج منها عبقها حتى آخر قطرة، أو أنها لا تستحق عناءها أصلًا.

 

يفتح "نيل" نافذة غرفته، ويلقي نظرة يائسة على الامتداد الرحب اللانهائي أمامه، والاحتمالات اللانهائية للحياة، ما أقربه منها وما أبعده عنها، يقرر أن يكون آخر ما يستنشقه من هواء، ذاك المحمل بالحرية؛ وليس العطن المحبوس مثله في غرفته، ثم يستخدم سلاح والده، السلاح الذي ربما أراده الأب حماية لإطار حياته الصارمة؛ ليهرب من هذا الإطار الضيق إلى الأبد.

 

رحيل "نيل" يترك إدارة المدرسة في موقف حرج؛ لتقرر تحميل "كيتينج" المسؤولية وطرده من المدرسة، هكذا تقضي الإدارة على احتمالات التغيير الذي ربما كانت لتشهده المدرسة، وتحاول أن تعيد الطلاب جميعًا لما كانوا عليه؛ من التزام بالقواعد، وحتى حصة الإنجليزية التقليدية.

 

يلتزم الطلاب بالحصة؛ لكن هذه المرة يأتي الرفض من "تود"، من بين الطلاب جميعًا، يقف هو على مكتبه للتعبير عن امتنانه لمعلمه، الرجل الذي جعل له صوتًا مسموعًا، وأهداه ذاتًا يقدرها؛ يلحق طلبة آخرون بتود؛ لكن الفصل مازال ممتلئا أيضًا بـ"الآخرين" بعضهم يخفض رأسه ربما خجلًا، ويحاول البعض أن يتجاهل ما يحدث. لكن؛ لو لم تعد الأمور إلى ما كانت عليه؛ فهل يستطيع الإنسان أن يهرب من كل أشكال السلطة إلى الأبد؟ هل يستطيع إنسان أن يحقق "فردانية" خالصة أصيلة؛ تنبع من ذاته، وذاته فقط؟

 

في الواقع؛ حين يطلب المعلم "كيتينج" من طلابه أن ينظروا للحياة نظرة مختلفة بالوقوف على مكتبه؛ فإنه ربما ينقلهم من النظرة السائدة التي لم يختاروها إلى نظرته هو التي لم يختاروها أيضًا. حتى حينما يؤسس الطلبة "مجتمع الشعراء الموتى" ليعبروا عن أنفسهم؛ فإنهم ببساطة يجدون أنفسهم أتباعًا لشخص واحد، زميلهم "تشارلي" صاحب الشخصية القيادية، الذي يقرر أنه المسؤول عن المجتمع، والذي يُحضر فتيات للكهف؛ دون أن يسأل أحدًا منهم عن رأيه، والذي يكتب مقالة في مجلة المدرسة عن الكهف؛ دون أن يعرف أحد منهم بذلك.

 (صورة من الفيلم)
 (صورة من الفيلم)

داخل الكهف، ثمة صراع غير مرئي، هذه المرة صراع على التعبير عن الذات، لفتية يجربون -لأول مرة- الخروج عن "المألوف" لكنهم -حتى في خروجهم عن المألوف- يتبعون شخصياتهم، أسرى جيناتهم، يظل القيادي قياديًا، والخجول خجولًا؛ ليتشكل "المألوف" القديم بأشكال جديدة.  

 

في الواقع؛ يدور الصراع على التعبير عن الذات حول الرغبة في الحصول على القبول والاهتمام من الآخرين، فهل يمكن للإنسان أن يكون متفردًا طالما بقي هشًا ضعيفًا أمام الوحدة التي لا يملك إلا أن يعاني منها؟  حاول "نيل" ضم زملائه إلى مشروعه؛ لأنه لم يتحمل أن يكون وحيدًا فيه؛ لكنه لم يستطع تحقيق الهدف الأساسي من هذا المشروع، وهو أن يتمكن من التعبير عن نفسه في وجه مشاكله.

 

البشرية مسرح هائل لتناقض كبير، يتمثل في كون البشر جميعًا متشابهين تمامًا ومختلفين تمامًا، جميعهم يشعرون بالوحدة، ويرغبون في الاهتمام، ويبحثون عن رفيق وسند، وجميعهم له ظروفه الخاصة، حياته وأقدراه، جيناته وجوهره الأصيل.

 

إن كل إنسان غريب ومختلف بالفعل، وربما لا تتطابق حياة مع حياته؛ لكن طالما بقي كل إنسان في حاجة ماسة لجماعة يعبر عن نفسه من خلالها، ويجد نفسه فيها؛ هل يمكن انتظار وجود عدد كبير من "المتفردين"؟!

المصدر : الجزيرة