شعار قسم ميدان

لِمَ ارتعبت دولة الاحتلال الإسرائيلي من عرض فيلم فرحة على نتفليكس؟

"في الحصار، تكونُ الحياةُ هِيَ الوقتُ

بين تذكُّرِ أَوَّلها

ونسيانِ آخرِها…

الحياة..

الحياة بكاملها،

الحياة بنقصانها،

تستضيف نجوما مجاورة

لا زمان لها..

وغيوما مهاجرة

لا مكان لها..

والحياة هنا

تتساءل:

كيف نعيد إليها الحياة

يقولُ على حافَّة الموت:

لم يَبْقَ بي مَوْطِئٌ للخسارةِ:

حُرٌّ أَنا قرب حريتي

وغدي في يدي…

سوف أَدخُلُ عمَّا قليلٍ حياتي

وأولَدُ حُرّا بلا أَبَوَيْن،

وأختارُ لاسمي حروفا من اللازورد"

(من قصيدة "حالة حصار"، الشاعر الفلسطيني محمود درويش)

تعد "ثيمة" البطل الناجي من الكارثة، سواء بإرادته أو رغما عنه، واحدة من أشهر الثيمات القصصية في السينما والأدب، ولعل أشهر نماذجها في الأدب العربي شخصية "عاشور الناجي" التي أوردها الأديب المصري الشهير جمال محفوظ في روايته الحرافيش، حيث اختبأ عاشور من الوباء الذي رآه في منامه يجتاح القاهرة في الصحراء بصحبة زوجته وابنه، وعاد ليجد العالم الذي يعرفه وقد انتهى وتلاشى.

لكن بطلتنا هنا لم تذق طعم النوم، ولم يكفل لها مخبؤها راحة الجهل، ففي ظلمة الاختباء وصلت لها أصوات الانفجارات والصراخ، وأصوات الجنود المهددين بمكبرات الصوت، وروائح البارود والقنابل، ومن فرجة الباب الضئيلة التي تخفي أكثر مما تظهر، استطاعت "فرحة" أن ترقب مشهدا واحدا اختصر الفظائع التي لم تتمكن من مشاهدتها بأم عينيها.

على الرغم من أن العرض الأول للفيلم الأردني "فرحة" جاء في الدورة الـ46 لمهرجان تورنتو السينمائي الدولي لعام 2021، قبل أن يعرض بعدها في عدد من المهرجانات الدولية في السويد وإيطاليا والولايات المتحدة والسعودية ومصر، وعلى الرغم من أنه ليس الفيلم الأول الذي يستعرض أحداث النكبة، فإن عرضه مؤخرا على شبكة نتفليكس بداية من ديسمبر/كانون الأول الحالي هو ما أثار موجات كبيرة من الغضب والانتقادات في دولة الاحتلال، لم تقتصر على المتابعين فقط، بل امتدت أيضا إلى عدد من المسؤولين الإسرائيليين الذين وصفوا عرض الفيلم الأردني على منصة نتفليكس بأنه "يهدف إلى التحريض ضد الجنود الإسرائيليين"(1).

فقد صرح وزير الدفاع الإسرائيلي السابق أفيجدور ليبرمان أنه "من الجنون أن تقرر نيتفليكس بث فيلم هدفه خلق ذريعة كاذبة والتحريض ضد الجنود الإسرائيليين"، كما اقترح سحب تمويل إسرائيل لمسرح السرايا فى بلدة يافا ذات الأغلبية العربية، وذلك بعد قيام المسرح بعرض الفيلم. أما إيتمار بن غفير، عضو الكنيست الإسرائيلي والمرشح الوزاري في حكومة بنيامين نتنياهو المنتظَرة، فقد وصف الفيلم بأنه "فيلم التحريض الأردني الذي يثبت مدى النفاق في العالم تجاه إسرائيل". أما وزير الثقافة والرياضة "هيلي تروبر" فقد وصف الفيلم بأنه يصور "الأكاذيب والافتراءات"، وأن عرضه على مسرح إسرائيلي "وصمة عار". كما ظهرت حملات منظمة ضد الفيلم من متابعي منصات التواصل الاجتماعي في دولة الاحتلال(2)(3)، بالإضافة لمحاولات تسعى لخفض تقييم الفيلم على موقع "IMDB".

أن تشهد الكارثة من شق الباب

(مواقع التواصل الاجتماعي)

الفيلم الأردني "فرحة" من تأليف وإخراج دارين سلام، وبطولة: كرم الطاهر وأشرف برهوم وعلي سليمان. تدور أحداثه في عام 1948 في إحدى القرى الفلسطينية، متناولا أحداث النكبة التي أدت إلى تشريد أكثر من 800 ألف فلسطيني، وأودت بحياة أكثر من 15 ألفا، لكنه يركز على البطلة الصغيرة "فرحة" ابنة مختار القرية، التي تبلغ من العمر 14 عاما.

فتاة طموحة ومحبة للقراءة، تسعى لتغيير حياتها، وتطمح للانتقال إلى المدينة بصحبة صديقتها "فريدة" كي تستكمل تعليمها في المدرسة، بدلا من المصير التقليدي الذي ينتظر الفتيات عادة بالزواج المبكر. يرفض أبوها في البداية خوفا عليها، لكن سرعان ما يقتنع، إلا أن فرحتها لا تستمر سوى أقل من يوم، إذ تنهار أحلامها جميعا في لحظة عندما يهاجم جنود الصهاينة قريتها.

يقرر والدها أن يخبئاها في بيت المونة (مخزن الطعام) ويغلقا عليها الباب من الخارج. ومن هذا المخبأ نراقب ما يحدث مع "فرحة" دون أن نرى شيئا، نحن فقط نسمع ما يدور بالخارج، عبر شريط الصوت ترسم لنا أصوات العويل والصراخ، وأصوات القنابل، وصياح الجنود عبر مكبرات الصوت؛ صورة كارثة إبادة جماعية لا نراها. ومن شق صغير في الباب تشهد "فرحة" على جريمة قتل، تتم بدم بارد، حيث قادت الصدفة أسرة فلسطينية من طفلتين وأب وأم على وشك الولادة للجوء للمنزل، ساعد الرجل زوجته لتلد طفلها، وبينما ظنت "فرحة" أن في ذلك أملا لها لتحريرها من مخبئها، هاجم الجنود الصهاينة الأسرة، لتشاهد وهي تكتم أنفاسها كيف قتلوا الأب والأم والطفلتين بدم بارد رميا بالرصاص، وتركوا الرضيع على الأرض كي يموت بعد سويعات قليلة من ميلاده، دون أن تتمكن في مخبئها خلف الباب الموصد من إنقاذه أو مساعدته.

لأن الواقع دائما أقسى

جدير بالذكر أن أحداث الفيلم مأخوذة من حكاية واقعية، بطلتها الحقيقية تحمل اسم "رضية"، والتي تمكنت من النجاة والانتقال إلى سوريا، لتروي حكايتها لفتاة أخرى صادقتها هناك، والتي صادف أن تكون والدة مخرجة الفيلم وكاتبته "دارين سلام". تأثرت دارين بالقصة بشكل كبير، وظلت محفورة في ذاكرتها، حتى قررت أن تخرجها على الشاشة.

حرصت المخرجة على تصوير الفيلم في مواقع تمنح المشاهد طابع القرى الفلسطينية القديمة، وقد صُوّر بالكامل في الأردن في محافظات عمّان وعجلون والبلقاء. بشكل عام، كانت المشاهد الخارجية للفيلم قليلة، فقد دارت أغلب أحداثه داخل المخبأ في بيت المونة، لتصبح مشاهده الخارجية مجرد خلفية باهتة للأحداث تأتي فقط لتشكيل إطارها الزمني والمكاني، فنحن نرى في افتتاحية الفيلم مشهدا للقرية، حيث تجمع الفتيات الثمار، بينما "فرحة" تجلس منزوية للقراءة، ذلك المشهد الذي يخيم عليه ضحك الفتيات وبهجتهن الصاخبة يتناقض بشكل صارخ مع مشهد النهاية الذي تظهر فيه القرية وقد دمرت تماما وخلت من الحياة.

غير أن أحلام الفتاة ورغبتها الجامحة في التعليم وكل الاحتمالات التي أجهضتها النكبة هي أمور تناولها الفيلم على عجالة وبنوع من السطحية، دون أن ينجح في جعلنا نستشعر الصراع الحقيقي، ومن ناحية أخرى لم يصور الفيلم من أحداث النكبة سوى مشهد وحيد من خلف ثقب في الباب؛ ما حصر الفيلم في منطقة غائمة. ومع الأسف، رغم قوة الحكاية المطروحة ومدى دراميتها، فإن الفيلم جاء مخيبا للآمال بعض الشيء على المستوى الفني.

اعتمد الحوار على جمل قصيرة ومقتصدة، حاولت أن ترسم بأقل قدر من الكلمات العلاقة بين الشخصيات، سواء فرحة وأبوها والتوتر القائم بينهما والجدل ما بين رغبتها في التعلم وخوفه عليها، وأحلامها التي جاءت في حوارها مع صديقتها فريدة، والتي لم يمنح الفيلم أي أبعاد لشخصيتها، فجاءت كأنها مجرد صحيفة خالية تسطر عليها البطلة أحلامها. أغلب الشخصيات الثانوية عموما جاءت مسطحة كأنها مجرد أطر أو محفزات لتحريك الأحداث، حتى العلاقة بين الأب وفرحة لم تهتم المخرجة بمنحها عمقا يمنحها مصداقية أكبر.

اختارت المخرجة تصوير أغلب الأحداث في المخبأ، وهو ما يشكل تحديا كبيرا للغاية، خاصة في فيلمها الطويل الأول. بين جدرانه حوصرت البطلة وحدها في ظلام شبه تام، لا يكسر وطأته سوى ضوء قنديل شحيح، سرعان ما نفد زيته، وبصيص نور يتسرب من كوة صغيرة قريبة من السقف اضطرت الفتاة لسدها كي لا يتسرب لها دخان القنابل والبارود.

مشاعر الخوف والرعب والانتظار والاحتياجات الأساسية للطعام والماء وقضاء الحاجة، كلها أشياء حاصرت البطلة الصغيرة في مساحة ضيقة للغاية. وقد نجحت المخرجة في نقلها باعتمادها في أغلب المشاهد على استخدام كادرات قريبة ضيقة وخانقة، تحاصر فيها البطلة، تماما كما حوصرت بالخوف والوحدة داخل مخبئها.

مغامرة ناجحة

الفيلم الأردني "فرحة" من تأليف وإخراج دارين سلام. (مواقع التواصل الاجتماعي)

إن اختيار المخرجة لطرح أحداث النكبة من منظور مختلف يعد مغامرة إخراجية ابتعدت فيها عن الطرح السياسي وركزت على القصة الشخصية للطفلة التي تترك عالم الطفولة، وقد اختارت المخرجة أن توصل ذلك المعنى بشكل حرفي، حيث تنتقل الفتاة إلى مرحلة البلوغ عندما تفاجئها دورتها الشهرية داخل المخبأ، وكأن في ذلك رمزا صارخا لانتقالها من براءة الطفولة إلى النضج عبر قسوة التجربة. كل ذلك في إطار مكاني ضيق للغاية، وإيقاع بطيء وثقيل بقدر ثقل الكارثة.

ورغم ذلك يحسب للفيلم مغامرته، ولعل ذلك أحد أسرار النجاح الكبير الذي حققه على المستوى النقدي، فقد رشح بشكل رسمي لتمثيل المملكة في الدورة الـ95 لجوائز الأوسكار عن فئة الأفلام الروائية الطويلة. وقد حصل الفيلم على عدد كبير من الجوائز، من بينها 3 جوائز في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في دورته الـ6: جائزة الاتحاد الأوروبي لأفضل فيلم يورومتوسطي يتناول قضايا المرأة، وجائزة بهيجة حافظ لأحسن مخرجة، وجائزة نادية لطفي لأفضل ممثلة وحصلت عليها كرم الطاهر بطلة الفيلم.

في مواجهة الهجوم الصهيوني على الفيلم، أصدرت المخرجة دارين سلام بالمشاركة مع المنتجتين ديما عازار وآية جدانة بيانا صحفيا قلنَ فيه: "تعرض فيلمنا لهجوم عنيف من قبل المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين ووسائل الإعلام الإسرائيلية وكذلك من قبل أفراد إسرائيليين على وسائل التواصل الاجتماعى ومنصات أخرى، ونحن فريق عمل الفيلم ندين جميع الاتهامات لتشويه سمعة [فرحة]، والحملة المنظمة ضد الفيلم على موقع [IMDb.com] لخفض تقييمه، ومحاولات وقف عرض الفيلم على مسرح سرايا يافا، فضلا عن الدعوة إلى إلغاء اشتراكات شبكة نتفليكس منذ بدء عرض الفيلم على المنصة".

وأضاف البيان: "إن الحملة ضد الفيلم تهدف لإسكات أصواتنا كعرب وكمخرجات أفلام لتجريدنا من إنسانيتنا ومنعنا من سرد قصصنا وروايتنا، لكن كل الحملات لن تمنعنا من هدفنا وعرض قصة الفيلم لتصل للجماهير فى جميع أنحاء العالم"(4).

____________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة