كيف تكتشف أبرز الخدع السياسية التي تُستخدم يوميا "للنصب عليك"؟

إذا أردتَ أن تُنمّي تفكيرك النقدي وأن تتدرّب على كشف المغالطات المنطقية فعليكَ متابعة النقاشات السياسية، خاصة تلكَ التي تجري بين أتباع الأحزاب المختلفة؛ لأنّك ستتعلّم عن طريق مراقبتك لهذه النقاشات كيف يستخدمُ النّاس استدلالات غير ذات صلة بالموضوع، لإثبات صحّة آرائهم وقناعاتهم، خاصّة إذا لم يكونوا يمتلكون الأدلّة والمعلومات الكافية.

 

ولا شك أن الأمثلة التاريخية للاستدلالات المنطقية الخاطئة، كثيرة. أحد الأمثلة مذكور في القرآن، حين استدلّ قوم النبيّ نوح على بُطلان دعوته وعدم صحّتها من خلال الإشارة إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي لأتباع النبيّ، فقالوا في سورة هود: {وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي}، أي أنّ كبار القوم وشرفاءهم لم يتّبعوك، ولو كان ما تدعوا إليه صوابا لاتّبعكَ ذوو السُّلطة والجاه، وهذا -كما ستتعلّم من قراءتكَ لهذا المقال- يعكس الانحياز إلى السُّلطة، وهو اعتقاد النّاس أنّ الرأي الأصوب والأصحّ هو الرأي الذي يصدر عن ذوي المكانة والسُّلطة. وقد تستخدم السُّلطة نفسها هذا الانحياز، فتخبر النّاس بأنّها أعلمُ منهم وأكثر فهما منهم، ولهذا فهي ستختار بالنيابة عنهم، ولهذه الفكرة جذور تاريخية أيضا، فقد أخبر فرعون قومه كما ورد في سورة غافر: {ما أُرِيكم إلا ما أرى وما أهديكم إلّا سبيل الرشاد}.

 

تؤدي الدعاية الإعلامية ذات الأهداف السياسية، دورا أساسيا في تأليب الرأي العام وتوجيه النّاس وآرائهم وشحنهم بالعواطف والانفعالات من خلال ما تعرضه عليهم من حقائق، ويجدر بالذكر هنا أنّ خيانة الحقيقة لا تكون فقط من خلال الكذب، ولكن من خلال تجزئتها، فعَرْض أجزاء مُختارة بعناية من الحقيقة كفيلٌ بتشويه الحقيقة كاملة، فالانتقاء والاجتزاء شكل من أشكال التضليل، وكذلك التغطية الإعلامية الأُحادية عامل أساسي في تشكيل قناعات الناس واستقطابها باتّجاه واحد فقط.

في موضع آخر، بإمكانكَ أن ترى انحياز النّاس لآراء مَن يُحبّون، فهُم إذا أحبّوا فُلانا صدّقوا كلامه دون تمحيص، وإذا كرهوا آخر، كذّبوا كلامه ولو كان صوابا ومَبنيا على دراساتٍ علمية. فما الانحيازات المعرفية؟ وكيف يستخدم السياسيون هذه الانحيازات للتلاعب بآراء النّاس وكسب تأييدهم؟ وكيف تستغلّ وسائل الإعلام فهمها لنقاط الضعف البشرية كي تقوم بتعبئتهم برأي مُعيّن أو موقف ما؟ وكيف أحمي نفسي من الوقوع في فخّ الانحيازات النفسية والمعرفية؟ هذا ما ستتعرّف إليه عند قراءتكَ هذا المقال.

الانحياز المعرفي.. ما هو؟ ولماذا يحدث لنا؟

يجد الإنسان نفسه أعزل أمام كمّ هائل من المعلومات والحقائق التي يتلقاها يوميا، يتحتم عليه اتخاذ أحكام وقرارات (سواء كانت واعية أو غير واعية). ولأن الإدراك البشري يتمتع بقدرات محدودة للتعامل بشكل صحيح مع جميع المعلومات المتاحة ومعالجتها، اكتشف الباحثون أن البشر يتخذون قرارات بالاعتماد على بعض الإستراتيجيات المبسطة، أو اختصارات ذهنية تسمى الاستدلال(1).

 

تاريخيا، طوّر العقل البشري الانحيازات النفسية بوصفها آلية سريعة لاتّخاذ القرار للتعامل مع البيئة المعقدة المحيطة بقراراتنا. تتشكّل انحيازاتنا بشكل طبيعيّ لغايات بقائية، وعادة ما تتشكّل انحيازاتنا عبر الخبرة السابقة والحالة الفسيولوجية والشخصية، والمشاعر والانفعالات والعواطف. قد تفيد الانحيازات في الظروف اليومية التي تحكمها قيود زمنية، أو عند مواجهة نقص أو زيادة في المعلومات المتاحة أمامنا، أو عندما لا يكون هناك حل مثالي واضح وتبدو الأمور معقّدة أكثر من اللازم. لهذا، تؤدي الانحيازات دورا إيجابيا في أساسها وفي نطاق ضيّق من الحالات اليومية والمتكرّرة(2).

"التحيّز المعرفي" هو خطأ منهجي في التفكير يحدث عندما يقوم الشخص بمعالجة وتفسير المعلومات في العالم من حوله، ويؤثر على القرارات والأحكام التي يتخذها.

لكنّ الانحيازات قد تؤدي أيضا إلى أخطاء في الاستنتاج(3)، وقد تكون عَطَبا تفكيريا إذا سمحنا لأنفسنا بالاستناد عليها في حياتنا اليومية وفي قراراتنا المهمة والمصيرية، وإذا ما رفضنا في كلّ مرّة أن نبذل جُهدا لتقصّي الحقائق ومحاربة أهوائنا ومقاومة اللذّة الداخلية التي تلحّ علينا بقبول وسماع ما نُريد سماعه بالأساس.

 

"التحيّز" أو "الانحياز" هو الميل التلقائي، وكما جاء في "الوسيط" فقد استُخدمت كلمة تحيز بمعنى الانضمام في الرأي وتبني رؤية ما، ما يعني رفض الآراء الأخرى(4). يَرِد ذلك في الجزء الأول من كتاب "إشكالية التحيز.. رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد" الذي حرره "د. عبد الوهاب المسيري". وفي التعريف الدارج، "التحيّز المعرفي" هو خطأ منهجي في التفكير يحدث عندما يقوم الشخص بمعالجة وتفسير المعلومات في العالم من حوله، ويؤثر على القرارات والأحكام التي يتخذها(4).

 

يقدم لنا باستر بنسون، مؤلف كتاب "لماذا نصرخ؟"، تفسيرا لعلة الانحياز، بأنها رغبتنا في فهم العالم، حاجتنا إلى أن نكون واثقين من قدرتنا على إحداث تأثير وأن نشعر بأن ما نقوم به مهم. يمكن تصنيف هذه الثقة على أنها ثقة مفرطة، لكننا بدونها قد لا نتصرف على الإطلاق، بالإضافة لضرورة التعامل مع كم المعلومات، وتصنيف أدمغتنا للمعلومات بحسب أهميتها، وعليه يكون ما سنحاول تذكره وما سننساه(5).

هل نملك السيادة على تصوراتنا وقناعاتنا؟

"العقل من الداخل يبدو كبرلمان داخل الإنسان، تتصارع فيه الأفكار والمشاعر في السيطرة، كلّ طرف منهما يحاول الهيمنة عليك وعلى قراراتك على الدوام"

(ستيفن بنكر، "كيف يعمل العقل؟")

اهتم "بيتر هاليغان"، وهو أستاذ علم النفس العصبي في جامعة كارديف، و"ديفيد أوكلي"، الأستاذ الفخري في علم النفس؛ بدراسات علم الأعصاب الإدراكي الحديثة، باستخدام التنويم المغناطيسي(3)، لتظهر الدراسات التي استخدمت التنويم أن مِزاج الشخص وأفكاره وتصوراته يمكن أن تتغير بعمق عن طريق الإيحاء، ليخلصا إلى احتمالية مفادها أننا لا نختار أفكارنا أو مشاعرنا بوعي، وإنما ندركها. قناعاتنا إذن ليست راسخة كما نتصور، وتتحكم فيها انحيازات قد تأخذ أشكالا عديدة:

 

  • الانحياز التأكيدي (Confirmation Bias):

يميل الأشخاص إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد قناعاتهم، وإغفال أو رفض المعلومات المتناقضة. يتفاعلون مع الأحداث والقصص الإخبارية بطريقة تؤكد معتقداتهم وتدعم أفكارهم الحالية، ما يجعلهم صارمين في آرائهم السياسية(11). وهو ما يتفق مع تجارب عالم النفس المعرفي "بيتر كاثكارت واسون" الذي أجرى عدة تجارب في الستينيات وانتهى بقوله إن هذا التحيّز قد يقف عائقا بيننا وبين النظر إلى الأحداث بموضوعية. يساعد الانحياز التأكيدي أيضا على تكوين وإعادة تأكيد الصور النمطية المكونة عن الأشخاص، فنذكر ونكرر المعلومات المتوافقة مع الصورة النمطية، ونسهو عن المعلومات غير المتسقة مع قوالبنا النمطية. وينسحب هذا الانحياز العاطفي حتّى على عيوب النّاس وميزاتهم، وينطبق على هؤلاء قول الإمام الشافعي في أبيات قصيدته:

وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ

وَلَكِنَّ عَينَ السُّخطِ تُبدي المَساوِيا

مثال: أثير جدل حول قانون تشريعي يسمح للمواطنين باقتناء السلاح، لنفترض أن "دانا" معارضة لتلك القضية، لذلك فإنّ ما ستفعله دانا هو البحث عن قصص إخبارية ومقالات رأي تؤكّد الحاجة إلى فرض قيود على ملكية السلاح، وعند سماعها قصصا عن إطلاق النار في وسائل الإعلام، ستفسرها بطريقة تدعم معتقداتها الحالية بأنّ كلّ هذا يحدث لغياب تشريعات تجرّم اقتناء السلاح. بينما يعارض "خالد" بشدّة تدخّل الدولة للسيطرة على السلاح ومنع اقتنائه، فيبحث عن مصادر إخبارية تتوافق مع نظرته، وعندما يصادف قصصا إخبارية عن إطلاق النار، فإنّه سينكر ادّعاءات النّاس بأنّ سبب هذه المشكلات هو السماح للمواطنين باقتناء السلاح، بطريقة تدعم وجهة نظره الحالية(11).

 

يتسلل الانحياز التأكيدي ليشمل نواحي أخرى خلاف معتقداتنا الشخصية، مؤثّرا أيضا على أدائنا الوظيفي والمهني. يورد "بيتر جراي" في كتابه "علم النفس" مثالا على أثر الانحياز النفسي على مهنة الطبيب (9): يشخّص طبيب مريضا، يسأله عن تاريخه الطبي للتأكّد من فرضيته، عوضا عن البحث عن أدلّة تدحضها، ومن ثَم يتوصل إلى استنتاج مُبكّر إلى أنّ المريض مصاب بالمرض الذي توقّعه هو منذ البداية.

يشمل هذا الانحياز قرارات سياسية وعسكرية كُبرى، فمن أجل اجتياح العراق، سعى السياسيون البريطانيون إلى فرض العديد من الأدلّة المتوهّمة وغير الكافية لتبرير إرسال الجنود البريطانيين إلى العراق وللحصول على شرعية سياسية، فمنذ سنوات، أعلن "جون تشيلكوت"، رئيس اللجنة البريطانية المكلّفة بالتحقيق في ظروف وملابسات التدخّل البريطاني في حرب العراق عام 2003، أنّ المبرّرات البريطانية لفترة ما بعد اجتياح العراق "كانت غير مناسبة على الإطلاق"، وأنّ الاجتياح حدث بشكل سابق لأوانه وقبل استنفاد كل الفرص السلمية التي كانت متاحة في ذلك الوقت(10)(11).

 

جاء احتلال العراق بذريعة امتلاكه أسلحة دمار شامل، لكن ما توصّل إليه "شيلكوت" أنّ رئيس الوزراء البريطاني السابق "توني بلير" وضع محاولة الحفاظ على العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدّة فوق كلّ شيء، وأنّ نظرته لخطوة الحرب آنذاك لم تَخْلُ من الانحياز العاطفي وغير العقلاني، إذ أسقط "بلير" الدلائل التي تخالف اعتقاده ورفض مراجعتها أو التحقّق منها، ليحسم موقفه في النهاية حين كتب للرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش: "سأكون معك، مهما يكن"(10). قادت تلك الدوافع الواهية إلى مكابدة العراق خسائر بشرية قُدرت بمليون قتيل ومصاب وملايين المشردين، وأحكَمَ العنف الطائفي قبضته على البلاد، وتدمّرت معظم البُنية التحتية للبلاد بفعل ذلك.

 

  • انحياز التغطية (Coverage Bias):
ما حدث من تباينات ردود أفعال إعلامية حين ترشّحت "سارة بالين" لمنصب نائب المرشح الجمهوري جون ماكين 2008، يعد مثالا على انحيازات التغطية.

هو شكل من أشكال التحيّز الإعلامي يغطى فيه بعض السياسيين أو الموضوعات بشكل غير متناسب من حيث كمّية العرض المُوجّه وحجمه وكثافته. على سبيل المثال، كشفت إحدى الدراسات أن البرامج الإخبارية المحلية كان تركيزها مُنصبّا على إظهار صور المجرمين الأميركيين من أصل أفريقي، والتقليل المتعمّد من إظهار المُجرمين الأميركيين البيض. ما يحدث بسبب هذه التغطية الإعلامية الانتقائية هو حصول وعي ضمني لدى المُشاهدين بأنّ السود هُم دائما الجُناة، والبيض هُم في الغالب مجرّد ضحايا. مثال آخر على هذا النوع من الانحيازات، ما حدث في عام 2008 حين ترشّحت "سارة بالين" لمنصب نائب المرشح الجمهوري جون ماكين، إذ ركّزت بعض المقالات على مؤهّلاتها بوصفها رئيسة مستقبلية محتمَلة، أو سجلّها في القضايا(12)، لكن كتابات أخرى لم تلبث أن تساءلت عن أحقيتها في الترشح لمنصب؛ نظرا لأن لديها أطفالا، ومن ثم تطرقت لتفاصيل حياتها الشخصية والخاصّة.

 

في سياق آخر، حلّل بحث من جامعة جنوب فلوريدا التغطية الإعلامية لحظر السفر الذي فرضه الرئيس "ترامب" عام 2017، ليتضح أن وقت الذروة غطت وسائل الإعلام الأحداث من خلال وجهات نظر مختلفة تماما، اختلفت لهجة كل مذيع وطريقة صياغة الحقائق وزاوية التناول، لتُقدَّم القضية بشكل متوافق مع أجندة حزبية معينة(18).

 

وفيما يلي نتائجُ مسحٍ يُظهِر كيفية توزّع المُتابعين على المواقع والمنصّات الصحافية ومصادرهم الإخبارية بحسب توجّهاتهم السياسية، ما يعكس أنّ البشر ينزعون إلى تلقي المعلومات من المصادر التي تؤكّد توجّهاتهم الحزبية والأيديولوجية المُسبقة.

  • انحياز التجزئة (Concision Bias):

العرض الانتقائي للمعلومات بطريقة مقصودة تؤدّي إلى تأجيج مشاعر مُعيّنة وإلى تشكيل مواقف قاصرة بناء عليها. فمثلا، نَشْر الإعلام لجزء مقتطع من المقاطع الصوتية الخاصّة بأحد المسؤولين السياسيين من شأنه تحريف السياق بأكمله.

 

بدون السياق المناسب، يمكن أن تصبح القضايا متعدّدة الأوجه شديدة الاستقطاب، وقد تصبح سببا للانقسام أو ترسيخ واستحضار صور ذهنية أساسها معلومات تفتقر إلى الاكتمال. يستعرض الدكتور "عبد الوهاب المسيري" مثالا في الجزء الثاني من كتاب "إشكالية التحيز.. رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد"(5)، فواقعة الإبادة النازية ليهود أوروبا التي يُطلَق عليها "الهولوكوست"، أي المحرقة، تستدعي معنى ذهنيا يعكس أن اليهود وحدهم ضحايا العدوان الألماني النازي. تلك الإبادة لم تكن استثنائية بالنظر إلى إبادات تعرضت لها الأمريكتان وأفريقيا، ولم يكن اليهود وحدهم ضحايا الهولوكوست، فهناك السلاف والغجر وذوو الاحتياجات الخاصة الذين صُنِّفوا آنذاك "مادة بشرية غير نافعة".

  • انحياز السلطة (Authority bias):

الثقة غير العقلانية في كلّ ما يأتي مِن أشخاص ذوي نفوذ أو مناصب رفيعة، والامتثال إلى حديث أصحاب السلطة، وتقدير آرائهم، والتأثّر بها، والاعتقاد بأنّها صواب فقط لأنّها تصدر من أشخاص ذوي مناصب وسُلطة عالية.

"لقد كُنتُ أُطيع الأوامِر – I was only following orders"

(أدولف آيخمان)

مثال: كان "أدولف إيخمان" ضابطا في القوات الألمانية الخاصة، وأحد كبار المسؤولين عن إبادة اليهود وحرقهم، عندما اقتيد لمحاكمته حَرَصت "حنة أرندت" أن تكون هناك، ووثّقت تفاصيل المحاكمة في كتابها الذي نشر عام 1963 بعنوان "أيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر"(13). يتضمن الكتاب سلسلة من المقالات كتبتها بتكليف من مجلة النيويوركر (The New Yorker)، انتقدت فيها الطريقة التي حاكمت بها إسرائيل "إيخمان"، والطريقة التي صورت بها المتهم. رفضت حصره في صورة الوحش والقاتل المعادي للسامية التي حاول الادعاء رسمها له، لأن "أرندت رأت شيئا مختلفا، رأت نوعا جديدا من مرتكبي المذابح الجماعية، لا تحركه دوافع خبيثة أو قاتلة، ولا يدرك خطورة أفعاله"(13)، شخص أراق الدماء، سحق إنسانيته وتملص من جرائمه مرجعا الشرور إلى ذوي السلطة العليا. لا تبرئ "أرندت" "إيخمان" من جريرته، لكنها تشير إلى أنه أشبه بالموظف الذي يؤدي عملا أمره به رؤساؤه، شرّه ينطوي على تفاهة.

 

يلعب انحياز السُلطة أيضا نهيا وأمرا بالخوض في القضايا أو التفكير فيها أو مجرّد نقاشها، وفي هذا أمثلة كثيرة من السياق العربي.

 

  • تأثير الهالة (Halo effect):

في عام 1920، صاغ عالم النفس الأميركي "إدوارد لي ثورندايك" المصطلح ليشير إلى نوع من التفاوت في الحكم الفوري على الآخرين. يؤثر انطباعك العام عن الشخص على شعورك وتفكيرك في شخصيته، ينطبق هذا تحديدا على جاذبيته التي تؤثر على كيفية تقييم صفاته الأخرى. استندت ملاحظات ثورندايك على ضباط الجيش في تجارب شملت رتب المرؤوسين هناك(14)، حيث كان يُنظر إلى المرؤوس الطويل والجذاب على أنّه الأكثر ذكاء، كما صُنّف على أنّه أفضل بشكل عام من الآخرين. هكذا وجد ثورندايك أن المظاهر الجسدية هي الأكثر تأثيرا في تحديد انطباعاتنا العامة عن شخصية شخص آخر.

 

حجر الأساس لنظرية "ثورندايك" هو أنّ الأشخاص يميلون إلى تكوين انطباع عام عن شخصية أو خصائص شخص ما بناء على سمة واحدة، وهذا يمكن أن يؤدي إلى تعميم تصورات إيجابية أو سلبية تجاه الشخص نفسه. تطوّرت نظرية ثورندايك من قبل عالم نفس آخر يدعى "سولومون آش" الذي افترض أنّ الطريقة التي يشكل بها الناس آراء أو صفات عن الآخرين تعتمد بشكل كبير على الانطباع الأول.

  • سادسا: انحياز التأطير (Framing bias)

"الطريقة التي تُعرض بها المعلومات تُحدِّد الموقف الذي ستتّخذه منها"

يحدث انحياز التأطير عندما يتخذ الناس قرارا بناء على طريقة تقديم المعلومات، عوضا عن الاستناد إلى الحقائق نفسها. ويمكن أن تؤدي الحقائق نفسها المقدمة بطريقتين مختلفتين إلى إصدار أحكام أو قرارات مختلفة، وإلى الشعور بمشاعر مختلفة.

 

إليكَ المثال الآتي، استخدام العبارة "تبلغ نسبة البقاء على قيد الحياة بعد شهر واحد من الجراحة 90%" أكثر طمأنة من نظيرتها التي تقول "تبلغ نسبة احتمال الوفاة خلال شهر واحد من الجراحة 10%"(15)(16)، بالرغم من أنّ كلا المعلومتين متماثلتان من جهة علمية ومنطقية، فإنّ الإنسان لا يرى سوى الصياغة التي تُعرَض له.

آثار الانحيازات النفسية والمعرفية على حياتنا اليومية

"من الصعب علينا إصلاح الأخطاء التي نعجز عن رؤيتها"

(دانيال كانيمان)

أن تكون إنسانا يعني أن تكون متحيزا، وإن تعاطفك مع قضية -مهما بلغت حدّتها- مرهون بمدى ما يتشاركه أطرافها المعنيون معك من السمات المجتمعية أو القومية أو الدينية، والآراء السياسية. وقد لا نصل إلى مرحلة من التحرّر المُطلَق من انحيازاتنا، لكنّنا على الأقلّ مطالبون بتقليل سطوتها علينا ومقاومتها قدر الإمكان. تنعكس الانحيازات النفسية والمعرفية على حياتنا اليومية بعدّة طرائق: اتّخاذ قرارات خاطئة، إطلاق أحكام مُجحفة بحقّ الآخرين، التورّط بجدالات مستنزفة وسقيمة، بالإضافة إلى حرمان أنفسنا من التطوّر والنماء.

 

منذ 60 عاما، نفذت واشنطن عملية عسكرية عرفت بـ"غزو خليج الخنازير" لقلب نظام الحكم في كوبا والإطاحة بزعيم الثوار الشيوعيين "فيديل كاسترو" الذي تمكن قبل عامين من الواقعة هو والثوار من الاستيلاء على السلطة، كُلّلت مساعي واشنطن بالإخفاق، وعُزِي الفشل إلى التفكير الجماعي؛ لإغفال مسؤولين إجراء تحليل بسيط للقوة العسكرية لـ"كاسترو"(11). تداعيات الغزو كانت كارثية، ونطق الرئيس "كينيدي" كلماته بكل استغراب: "كيف يمكن أن أكون بهذا الغباء؟!".

 

يتوافق الأفراد مع معايير المجموعة إلى حد مذهل، فأعضاء حزب سياسي ترتبط هويتهم بأدائهم في الانتخابات، يمكن أن يتعزز لديهم إحساس قوي بالانتماء إلى المجموعة. ليس ذلك إلا جزء متأصل من السلوك البشري، فمن منظور تطوري، كان من الضروري أن تكون جزءا من جماعة من أجل البقاء على قيد الحياة. ويخبرنا علم الأعصاب الحديث أننا نمتلك آليات قوية لتشجيع فكرة الجماعة، ولدينا حذر وخوف من الإقصاء الاجتماعي. فعندما يخالف شخص الرأي المتفق عليه، يُقيّمه الدماغ بأنه خطأ، ويخلق حافزا قويا لاتباع النهج المتفق عليه.

كيف نقاوم انحيازاتنا النفسية؟ وكيف نتحرّر من سيطرة التفكير المُنحاز؟

"منذ المرة الأولى التي علمت فيها عن التحيز التأكيدي، كنت أراه في كل مكان"

(جون رونسون)

عند اصطدام شخص بمعلومات أو مواقف جديدة لا تتوافق مع ما يؤمن به، يحدث لدى المرء تنافر معرفي مصحوب بتوتر وانزعاج داخلي، تستلزم تلك التوتّرات إمّا تغييرات في السلوك أو تغيير أحد المعتقدات الحالية أو إضافة اعتقاد جديد، أو تجاهل التناقض، لكن الأخبار الجيّدة هُنا(7) هي أنّ مُجرّد الوعي بالانحيازات والتفكّر فيها قد يُحدِث فارقا في مدى خضوعنا لها ومدى انزلاقنا إليها، فحين تتعرّف على الانحيازات فسرعان ما ستبدأ بملاحظتها. وفيما يلي بعض الخطوات التي ستُعينك على التحرّر من سطوة الانحيازات المعرفية، والتي ستقلّل من فُرَص الوقوع بفخاخها:

  • كُن أكثر انفتاحا

تفهّم فكرة "الاختلاف"، أحيانا الآخر ليس أفضل أو أسوأ منك، أحيانا هو فقط "مختلفٌ عنك"، أحيانا أنتَ لستَ أفضل أو أسوأ من أحدهم، لكنّك مختلف، والناس تختلف، لذلك لا تعتبر كلّ اختلاف مصدرا للتهديد أو مصدرا للشرّ.

  • سافر وسافر وسافر

سافر إن كنتَ تملك خيار السفر، لا شيء أدعى لاتّساع الآفاق التفكيرية للإنسان مثل السفر، عاشر أقواما بثقافات وعادات طعام وأنماط معيشية مختلفة عنك، دون أن تتنازل عن هويتك.

 

  • لا تبحث عمّا تريد سماعه

تابِع الأشخاص من ذوي التوجّهات المختلفة، لا تجعل حسابك على منصّات التواصل عبارة عن غرفة صدى لأفكارك فحسب، اقرأ حتّى وأنتَ تشعر بالانزعاج، لا تغلق الفيديو منذ بدايته لأنّه لَم يعجبك، واستمرّ بقراءة ما يزعجك.

 

  • نوِّع مصادر المعرفة

نَوِّع مصادر وسائل الإعلام التي تتابعها، وتابع الصحافة العالمية المشهورة من الأطياف والتيّارات المختلفة، وتأكّد من مصادر المعلومات ومدى موضوعيتها وانحيازها.

  • تساءل عن النقيض الممكن

حين ترى ظاهرة وتقول بصوت مرتفع: "بالطبع، هذا مؤكّد، لقد علمت"، يجب أن تراجع نفسك، عليك أن تتساءَل ليس عمّا حدث، ولكن عمّا كان من الممكن أن يحدث ولم يحدث، بهذه الطريقة تُقاوم انحيازاتك المعرفية.

 

  • لا تثق في كلّ ما تراه

أعطِ نفسك فرصة قبل أن تبدأ بإطلاق الأحكام، تأنَّ وانتظر اكتمال المعلومات وصدور المزيد من الأخبار، وقبل أن تتداول الخبر كما هو، تساءل إن كان هناك مستفيد يستثمر في جهلك وفي سرعة تداولك للأخبار.

 

  • لا تنسَ مراجعة الماضي

لا تتعامل مع الماضي على أنه مصدر معرفي خامل، راجع نفسك، تذكّر تلك المرّات التّي اتّهمتَ فيها أحدا وكُنتَ مُخطئا، تساءل عن الدوافع التي دفعتك للاتّهام في بادئ الأمر.

____________________________________________

المصادر:

  1. كتاب التفكير السريع والبطيء دانيال كانيمان، ترجمة: شيماء طه الريدي، محمد سعد طنطاوي
  2. Cognitive Biases and the Human Brain
  3. What if consciousness is not what drives the human mind?
  4. كتاب إشكالية التحيز رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، الجزء الأول، تحرير: د.عبدالوهاب المسيري
  5. The Importance of Cognitive Bias in Experience Design
  6. Is Cognitive Bias Affecting Your Decisions?
  7. How understanding our psychology can stop us falling into the bias trap
  8. 6 Cognitive Biases That Make Politics Irrational | HuffPost Canada Politics
  9. Examples and Observations of a Confirmation Bias
  10. Tony Blair’s Iraq Legacy – The Cairo Review of Global Affairs
  11. 11 cognitive biases that influence politics
  12. The Impact of the Media | American Government
  13. كتاب ايخمان في القدس تقرير حول تفاهة الشر، حنة آرنت، ترجمة: أ. نادرة السنوسي
  14. What Is the Halo Effect?
  15. Framing Effect Definition (5 Examples and 4 Types)
  16. ?How Do Framing Effects Impact Your Political Behavior
  17. Cognitive Biases Defined: 7 Examples and Resources 
المصدر : الجزيرة