الكشف عن سر الهجرة الملحمية لسكان وادي النيل قبل 10 آلاف سنة

تؤشر الدراسة إلى طبيعة العلاقة بين الإنسان والبيئة المحيطة، فعلى اختلاف الظرف البيئي، تظل تلك التغيرات ذات أثر كبير على البشر.

تصميم يوضح طبيعة البيئة في فترة الأمطار الشديدة، حيث حدثت الفيضانات وانتشرت المستنقعات (عبد الله زكي)

تمكن فريق دولي بقيادة باحث مصري من إعطاء تفسير لحالة هجرة ملحمية قام بها سكان وادي النيل قبل حوالي 10 آلاف سنة، حيث ابتعدوا عن محيط النهر العظيم لمدة قاربت 3 آلاف سنة، ثم عاد البشر مرة أخرى إليه.

في تصريحه للجزيرة نت -عبر تطبيق زوم- يقول عبد الله زكي -الباحث بقسم علوم الأرض في "جامعة جنيف" (University of Geneva) السويسرية وهو المؤلف الرئيس للدراسة الجديدة- "أفادت الأبحاث السابقة في هذا النطاق بأن سكان وادي النيل قد هاجروا بعيدا عن النهر في الفترة ما بين 10 آلاف و500 سنة و7 آلاف و300 سنة مضت، ولم تكن أسباب هذه الهجرة معروفة".

صورة من الأقمار الصناعية للأنهار المتحفرة في المنطقة الحدودية بين مصر والسودان (عبد الله زكي)

إلى موقع بحيرة ناصر

وبحسب الدراسة -التي نشرت في دورية "كواتيرناري ساينس ريفيو" (Quaternary Science Reviews)- فإن سبب هذه الهجرة كان ارتفاعا كثيفا في كميات ومعدلات الأمطار، ما أدى إلى فيضانات كبيرة من نهر النيل ونشوء مستنقعات واسعة، فاضطر سكان واديه للهجرة.

وللتوصل إلى تلك النتائج، لجأ هذا الفريق إلى المنطقة الحدودية الواقعة بين دولتي مصر والسودان (بحيرة ناصر)، واهتم الباحثون بدراسة 6 من من الأنهار المتحفرة الموجودة هناك، وهي آثار أنهار كانت تجري في هذه المناطق، ثم جفت في وقت ما لسبب أو لآخر.

يقول زكي في تصريحه للجزيرة نت "كبداية، كان من الضروري أن نؤكد أن المياه -التي كانت تجري في هذه الأنهار خلال الفترة الزمنية- محل اهتمامنا".

وللوصول إلى تلك النتائج، استخدم الفريق تقنيتين لتأريخ بعض الرواسب المتبقية في هذه الأنهار، والتي كانت تجري بها مع المياه، وهما تأريخ الكربون المشع وتأريخ التألق، وكلاهما أشار إلى أن المياه جرت بالفعل في هذه المناطق في الفترة من 15 ألف إلى 5 آلاف سنة، ما يعني أن الهجرة حدثت والمياه تجري بهذه الأنهار.

من اليسار لليمين، المواقع التي عاش فيها البشر قبل المطر الكثيف، ثم هجرتهم أثناءه ثم عودتهم (عبد الله زكي)

معدلات غير طبيعية

وبحسب الدراسة، فقد لجأ الفريق بعد ذلك إلى حساب كمية المياه التي تمر خلال مقطع محدد من كل من تلك الأنهار في فترة زمنية محددة، الأمر الذي يمكن أن يؤشر بالتبعية إلى كمية الأمطار الساقطة على تلك المناطق.

و"للتوصل إلى تلك النتائج قمنا بقياس حجم وسمك عدد من الرواسب الصخرية التي حصلنا عليها من تلك الأنهار، الأمر الذي يعطينا انطباعا عن معدل المطر الذي حرك تلك الرواسب داخل الأنهار قديما"، كما يقول زكي في تصريحه للجزيرة نت.

وقد أظهرت الحسابات أن معدلات سقوط الأمطار في تلك الفترة كانت بين 55 و80 مليمترا لكل ساعة، بجانب ذلك استخلص الباحثون معدلات السقوط السنوية للأمطار في تلك المناطق ووجدوا بالفعل أنها كانت أكبر من المعتاد قبل وبعد هذه الفترة بـ3 إلى 4 أضعاف.

كانت المنطقة التي نعرفها الآن باسم الصحراء الكبرى أكثر تعرضا للأمطار من الوقت الحالي (عبد الله زكي)

مهاجرو المناخ

يقول زكي للجزيرة نت "كان ذلك خلال ما يسمى بالحقبة الأفريقية الرطبة، حيث كانت المنطقة التي نعرفها الآن باسم الصحراء الكبرى أكثر تعرضا للأمطار من الوقت الحالي"، وسبب هذا التغير في مناخ تلك المنطقة كان متعلقا بتغيرات دورية تحدث كل عدة عشرات الآلاف من الأعوام في مدار الأرض.

في تلك الأثناء، وعلى مدى حوالي 3 آلاف سنة، كانت المناطق المحيطة بوادي النيل غير مضيافة للناس فهجروها، وبعدها انخفضت معدلات الأمطار شيئا فشيئا، وعاد الناس للسكنى بالقرب من نهر النيل مرة أخرى.

و"تؤشر دراستنا إلى طبيعة العلاقة بين الإنسان والبيئة المحيطة به، الأمر الذي لا شك يدفعنا لتأمل مشكلة الاحترار العالمي الحالية" كما يقول زكي في ختام حديثه مع الجزيرة نت، مضيفا أنه على اختلاف الظرف البيئي، تظل تلك التغيرات ذات أثر كبير على البشر.

ما يقوله زكي مرصود بالفعل، وحاليا يتسبب احترار المناخ العالمي في هجرة ملايين المواطنين عن بيوتهم، بسبب نقص الماء أو تلف النباتات بسبب ارتفاع معدلات الحرارة أو الفيضانات، حتى إن المتخصصين في هذه النطاقات يمتلكون اصطلاحا الآن للتعبير عن هذه الظاهرة، وهو مصطلح "مهاجرو المناخ".

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية