القرار الأميركي بشأن القدس والموقف الفلسطيني

U.S. President Donald Trump meets with Palestinian President Mahmoud Abbas during the U.N. General Assembly in New York, U.S., September 20, 2017. REUTERS/Kevin Lamarque

حيثيات القرار ومشكلاته
مسؤولية القيادة الفلسطينية
الموقف الفلسطيني اليوم 

شكّل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب اعتبار الولايات المتحدة للقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، تحدياً جديداً للقيادة الفلسطينية، أي لرهاناتها الخائبة على عملية التسوية، وعلى خيارها المتعلق بالمفاوضات لإقامة دولة فلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة، رغم أن ذلك لن يأتي بأي جديد فيما يخصّ الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وفي بلدان اللجوء والشتات.

أي أنه لن يغيّر من وضعه شيئاً كشعب يكابد -منذ سبعة عقود- الاحتلال والحصار، واللجوء والتشتّت المجتمعي، والحرمان من حقه في تقرير مصيره، والتطور المستقل في وطن أسوة بغيره من الشعوب، بسبب إسرائيل وسياساتها الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية.

حيثيات القرار ومشكلاته
وعلى وجه الخصوص؛ فإن هذا القرار لم يأت بجديد على صعيد سياسة الولايات المتحدة المعروفة بدعمها اللامحدود لإسرائيل منذ قيامها، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، ناهيك عن ضمانها لأمنها وتفوقها في الشرق الأوسط.

هذا مع إدراكنا أن الجديد في الأمر يتعلق بانكشاف المراهنة على دور مزعوم للولايات المتحدة في دعم عملية "السلام" الفلسطينية/الإسرائيلية، وسقوط الأوهام المتعلقة بقيامها بدور الراعي أو الوسيط النزيه والمحايد في تلك العملية.

قرار ترمب لم يكن مفاجئاً، إذ كان الكونغرس الأميركي اتخذ قراراً (عام 1990) نصّ على نقل سفارة الولايات المتحدة من "تل أبيب" إلى القدس المحتلة، وتم تجديده في عهد كلينتون (1995). ويتضمّن القرار ثلاثة بنود؛ أولها، بقاء القدس موحَّدة غير مجزأة. وثانيها، الاعتراف بها عاصمة لـ"إسرائيل. وثالثها، يُلزم الإدارة الأميركية بنقل السفارة الأميركية إليها في الوقت الملائم

وربما يجدر التذكير هنا بأن هذا القرار لم يكن مفاجئاً، إذ كان الكونغرس الأميركي اتخذ قراراً (عام 1990) نصّ على نقل سفارة الولايات المتحدة من "تل أبيب" إلى القدس المحتلة، وقد تم تجديده في عهد الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون (1995). ويتضمّن القرار ثلاثة بنود؛ أولها، بقاء القدس موحَّدة غير مجزأة. وثانيها، الاعتراف بها عاصمة لـ"إسرائيل. وثالثها، يُلزم الإدارة الأميركية بنقل السفارة الأميركية إليها في الوقت الملائم.

وفي حينه أجاز الكونغرس إمكانية تأجيل هذه الخطوة ستة أشهر كل مرة، بناءً على طلب مسبق يقدمه الرئيس إلى الكونغرس، بداعي حماية مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة، الأمر الذي حال دون تنفيذ هذا القرار في عهد كلينتون، وجورج بوش الابن، وباراك أوباما.

بيد أن القرار المذكور بات يقف اليوم في مواجهة مشكلات عدّة؛ أهمها: أولاً، أن هذا القرار يبعث برسالة إلى الفلسطينيين وإلى العالم بإعلان فكّ الولايات المتحدة علاقتها بعملية التسوية، وتبنيها مطالب إسرائيل، وتالياً التخلي عن دور الراعي النزيه، وهو ما ينسحب على كافة قضايا الحل النهائي الأخرى المتعلقة باللاجئين والحدود والمستوطنات، رغم محاولات ممثلة الولايات المتحدة التخفيف من ذلك في خطابها بمجلس الأمن (8/12).

ثانياً، يضع القرار المذكور الولايات المتحدة في موقف يتعارض مع قرارات المجتمع الدولي، الصادرة عن مجلس الأمن الدولي وعن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي لا تجيز احتلال أراضي الغير بالقوة، وتعتبر احتلال إسرائيل (في 1967) للأراضي الفلسطينية (الضفة وغزة والقدس) غير شرعي.

وتقضي هذه القرارات بأنه لا يجوز تغيير أوضاع هذه الأراضي من أية ناحية، ناهيك عن أنه يتعارض مع القرار 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة (1947)، والخاص بتقسيم فلسطين واعتبار القدس منطقة دولية خاصة، لاسيما أن هذا القرار شكّل مع القرار 194 (1949) الخاص بحق العودة للاجئين الفلسطينيين الأساسَ للقرار الدولي بالاعتراف بإسرائيل في الأمم المتحدة (قرار رقم 273 /1949).

فقد تم ذلك الاعتراف بموجب هذين القرارين، علما بأنها الدولة الوحيدة التي اعترفت بها الأمم المتحدة على هذا النحو، أي بشكل مشروط. وقد اتضّح ذلك في اجتماع مجلس الأمن (يوم 8 ديسمبر/كانون الأول الجاري) الذي خُصّص لمناقشة قرار ترمب، إذ كان الموقف الأميركي معزولا وموضع مساءلة، بل إن الدول الصديقة لأميركا -ولاسيما بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا– عبرت عن ذلك علنا.

مسؤولية القيادة الفلسطينية
من جهتها؛ فإن القيادة الفلسطينية تتحمّل مسؤوليتها عن وصول الأمور إلى ما وصلت إليه -في شأن قضية القدس وعملية التسوية والموقف الأميركي- من عدة جوانب. أولها، قبول هذه القيادة تأجيل البتّ في مصير القدس لدى توقيعها اتفاق أوسلو (1993)، مع قضايا أخرى جوهرية (اللاجئين والحدود والمستوطنات).

وهو الأمر الذي سهّل لإسرائيل انتهاج سياسة الأمر الواقع لتكريس الاحتلال والتهويد والاستيطان في الضفة والقدس خاصة، هذا مع تهربها من الاستحقاقات المطلوبة منها في هذه العملية المستمرة منذ ربع قرن.

ثانيها، توقيع الاتفاق المذكور رغم وجود قرار الكونغرس الأميركي المذكور بشأن القدس، أي أنه كان بإمكانها الضغط على واشنطن لإلغاء هذا القرار من أساسه. وثالثها أن إسرائيل عملت -منذ انهيار مفاوضات كامب ديفد 2 (عام 2000)، واندلاع الانتفاضة الثانية– على كل ما من شأنه التضييق على الفلسطينيين.

القيادة الفلسطينية تتحمّل مسؤوليتها عن وصول الأمور إلى ما وصلت إليه -في شأن قضية القدس وعملية التسوية والموقف الأميركي- من عدة جوانب، أحدها قبولها تأجيل البتّ في مصير القدس لدى توقيعها اتفاق أوسلو، مع قضايا أخرى جوهرية. وهو الأمر الذي سهّل لإسرائيل انتهاج سياسة الأمر الواقع لتكريس الاحتلال والتهويد والاستيطان في الضفة والقدس خاصة

فهي أولاً، حدّت من وصول فلسطينيي الأراضي المحتلة إليها. وثانياً، قامت باحتلال بيت الشرق وكافة مؤسسات السلطة الفلسطينية، التي كانت تعطي انطباعا بوجود عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية (اتصالات مع مبعوثي وقناصل الدول ووسائل إعلام ومشاريع). وثالثاً، وسّعت مجال القدس بضم الأراضي المجاورة، وبناء الجدار العازل الذي يفصلها عن المناطق الفلسطينية المحاذية، إلى جانب الطرق الالتفافية والأنفاق والجسور، هذا ناهيك عن تعزيز الاستيطان في المدينة.

وفي مقابل؛ واصلت القيادة الفلسطينية -رغم كل ذلك- عملية المفاوضات من وقت إلى آخر، من دون أن تقرن ذلك بشرط وقف إسرائيل الاستيطان ووقف بناء الجدار الفاصل ووقف تهويد القدس.

ظلت مدينة القدس -لاسيما منذ احتلال شطرها الشرقي (1967)- تتمتّع بمكانة متميّزة في إدراك واهتمام الفلسطينيين وحركتهم الوطنية، باعتبارها رمزاً تاريخياً ودينياً ووطنياً في آن واحد، وقد جاء ذلك في مجمل الوثائق الرسمية الصادرة عن منظمة التحرير والفصائل والهيئات الفلسطينية، وضمنها "إعلان الاستقلال" الذي أعلن فيه المجلس الوطني الفلسطيني "قيام دولة فلسطين… وعاصمتها القدس الشريف"، (الدورة 19 بالجزائر 1988).

وفي هذا الإطار؛ شمل التعاطي الفلسطيني مع قضية القدس ثلاث مسائل: الأولى، تتعلق باعتبار القدس مدينة مقدسة يقع فيها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، وكمدينة مقدسة لكل الأديان السماوية.

والثانية، تتعلق بالبعد الوطني/السياسي؛ إذ يتكثف الصراع في هذه المدينة التي تعتبرها إسرائيل عاصمة لها، لاسيما مع محاولاتها تغيير طابعها الديمغرافي، وتغيير معالمها وتعزيز الاستيطان فيها، فيما يمكن تلخيصه في الصراع على كل شبر فيها (لاسيما المدينة داخل السور).

والثالثة، في الجانب الحقوقي المتعلّق بكشف سياسات إسرائيل ومقاومتها، بخصوص مساعيها الدؤوبة للتضييق على فلسطينيي القدس لتهجيرهم منها، والسيطرة على بيوتهم وأراضيهم، وتبنيها سياسة هدم المنازل.

الموقف الفلسطيني اليوم
كان أعلى تجليات الكفاح الفلسطيني من أجل القدس الانتفاضةُ الأولى (1987ـ1993)، إذ أضحت بمثابة عاصمة فعلية للفلسطينيين ومركزاً قيادياً لانتفاضتهم، لاسيما مع وجود القيادة الفلسطينية الرسمية حينها في الخارج، ومع بروز شخصيات مقدسية ذات مصداقية كان على رأسها المرحوم فيصل الحسيني.

وقد برز في تلك الفترة مركزان لعبا دوراً كبيراً في الانتفاضة؛ الأول هو المسجد الأقصى، إذ باتت صلاة الجمعة -التي كان يحتشد فيها مئات ألوف الفلسطينيين- بمثابة واحدة من أهم مظاهر الانتفاضة ورفض الفلسطينيين للاحتلال، والتحريض على المقاومة.

والثاني "بيت الشرق"، الذي كان بمثابة مركز توجيه للانتفاضة ومعبّر عن الفلسطينيين في الأرض المحتلة، إذ بات مقراً يزوره وزراء أجانب وسفراء وقناصل ومراسلو وسائل إعلامية.

إن واقع الفلسطينيين لن يتغير بقرار ترمب، فهم لن يرحلوا عن أرضهم بسبب هذا القرار، ولن يضعف إيمانهم بقضيتهم وبحقوقهم المشروعة، وباعتبار فلسطين أرضهم ووطنهم، ولن يفتّ ذلك في عزيمتهم على مواجهة السياسات الإسرائيلية بإمكانياتهم الخاصة -ووفقاً لقدرتهم على التحمل- على نحو ما فعلوا في الانتفاضات المتكررة

وبديهي أن نتذكر هنا أن "هبة النفق" (1996) حدثت بسبب قيام إسرائيل بإجراء حفريات تحت المسجد الأقصى، وأن الانتفاضة الثانية (2000ـ2004) اندلعت إثر انتهاك أرييل شارون حرمة المسجد الأقصى (أواخر سبتمبر/أيلول 2000)، كما شهدت القدس هبات شعبية عديدة كانت أهمها الهبة التي حصلت في يوليو/تموز الماضي، لصد محاولات إسرائيل فرض إجراءات أمنية في المدينة المقدسة وفي الحرم القدسي الشريف.

وفي التاريخ الفلسطيني حصل مثل ذلك عام 1929 فيما عُرف بـ"ثورة البُراق"، إذ شهدت القدس وباقي المدن الفلسطينية مواجهات دامية بين الفلسطينيين والمستوطنين الصهاينة المتطرفين، الذين اعتبروا أن حائط البراق (الجزء الجنوبي من الجدار الغربي للقدس) -الذي يسمونه "حائط المبكى"- ملكهم وأنه جزء من "هيكل سليمان"، وقد نجم عن تلك المواجهات مصرع 116 من الفلسطينيين مقابل 133 يهودياً.

أيضاً، حصلت مجزرة في باحات المسجد الأقصى لدى محاولة مجموعة من المستوطنين اقتحام المسجد الأقصى (أكتوبر/تشرين الأول 1990)، لوضع حجر الأساس لبناء ما يسمونه "الهيكل الثالث" بحماية قوات الجيش الإسرائيلي، حيث تصدى لهم الفلسطينيون، مما أدى إلى مصرع 21 منهم.

لعل أفضل ما كان يمكن للقيادة الفلسطينية أن تقوم به رداً على القرار الأميركي المذكور، بدلاً من الخطاب الهزيل لمحمود عباس (رئيس المنظمة والسلطة وحركة فتح)، والذي لا يتناسب مع تضحيات الفلسطينيين وكفاحهم المديد؛ هو إعلان إفلاس اتفاق أوسلو والتحلل منه بعد أن تحللت منه إسرائيل منذ 2000، إثر انهيار مفاوضات كامب ديفد.

وكان حري بمحمود عباس الإقدام على انتقاد هذا الاتفاق الناقص والمجحف، الذي تتحمل القيادة مسؤولية التوقيع عليه. أيضا، كان بإمكان أبو مازن أن يصارح شعبه بما حصل، وأن يعترف بحال العجز، لعل ذلك يكون مقدمة لاستنهاض همم الشعب الفلسطيني للدعوة إلى إستراتيجية جديدة وخيارات سياسية جديدة ومغايرة.

خيارات تتأسس على استعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لطابعها كحركة تحرر وطني، والتخلص من طابعها ووظائفها كسلطة، وإعادة بناء الكيانات الفلسطينية (أي المنظمة والسلطة والفصائل) على أسس وطنية ونضالية وتمثيلية وديمقراطية. أما عملية التسوية والمفاوضة، فإن في تطبيق القرارات الدولية ما يعوض عنها، بدون أوهام أو مراهنات أخرى خاسرة.

وعلى أية حال؛ فإن واقع الفلسطينيين لن يتغير بقرار ترمب، فهم لن يرحلوا عن أرضهم بهذا القرار، ولن يضعف إيمانهم بقضيتهم وبحقوقهم المشروعة، وباعتبار فلسطين أرضهم ووطنهم، ولن يفتّ ذلك في عزيمتهم على مواجهة السياسات الإسرائيلية بإمكانياتهم الخاصة -ووفقاً لقدرتهم على التحمل- على نحو ما فعلوا في الانتفاضات المتكررة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.