25 عامًا بين قصص الحياة والموت.. العراقية نيكار محمد ضمن أكثر النساء تأثيرا في العالم

نيكار 1
نيكار محمد رئيسة قسم الممرضات في مستشفى الحروق والجراحة التجميلية بالسليمانية (الجزيرة)

السليمانية- ما بين صرخات من تتوسّل لوخزها بجرعاتٍ إضافية لتخدير آلامها وتخفيف أوجاعها، وأخرى تترجى فرصة ولو بحجم ابتسامة طفلٍ رضيع للعيش مُجدّدا، أمضت نيكار محمد مارف نحو ربع قرن في مُعالجة الحروق والنساء اللواتي حاولن الانتحار بإضرام النار في أجسادهن ممّن عانين من ظروفٍ اجتماعية قاسية، أو مَن كنّ ضحايا الأذى النفسي والجسدي، ومنهن مَن لم تصل مرحلة البلوغ بعد، أو مَن احترقت بفعل فاعل أو بحادث عرضي.

تكريمًا لسنوات خدماتها الإنسانية التي تخللها الكثير من المعاناة النفسية والروحية، اختارتها هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" (BBC)، لتكون ضمن قائمة "أكثر 100 امرأة ملهمة ومؤثرة حول العالم" في عام 2022.

نيكار، المتخرّجة من المعهد الفني الطبي في مدينة السليمانية بإقليم كردستان العراق عام 1992، والتي تعمل رئيسة قسم الممرضات في مستشفى الحروق والجراحة التجميلية، تشرف على 156 موظفًا من مجموع 220 من الأطباء والممرّضين والعاملين في أقسام مختلفة بالمستشفى في مدينتها.

وقدّم المستشفى الذي تعمل فيه خدماته لنحو 17 ألفًا و82 مراجعًا ومريضًا في عام 2022، تراوحت أعمار غالبيتهم بين 16 و49 عامًا.

نيكار محمد مع أحد اطباء المختصين بالحروق داخل صالة الطوارئ في المستشفى
نيكار محمد مع أحد الأطباء المختصين بالحروق داخل صالة الطوارئ في المستشفى (الجزيرة)

في ردهة المستشفى، التقت "الجزيرة نت" الممرضة العراقية نيكار أثناء عملها في معالجة المراجعين، وكان معها الحوار التالي:

  • كيف واجهتِ صعوبات عملك من أجل تحقيق هدفكِ الإنساني في مهنة الطب؟

منذ اللحظة الأولى لممارسة مهنتي، وضعتُ نصب عينيّ الهدف الإنساني، لكن تحقيقه واجه تعقيدات عدة لاصطدامه بمشكلات نفسية كثيرة على المستوى الشخصي. ومع كل صعوبة أزدادُ إصرارًا وعزيمة لمُعالجة النساء اللواتي أضرمن النار في أجسادهن، أو ممن تعرضن لحالات الحرق لأسباب مختلفة.

واستطعتُ مع زملائي الآخرين أن نُسهم في تغيير قناعات مرضى كُثُر، وتحديدا من العنصر النسوي، إلى أن أصبحن أشخاصًا إيجابيين في مجتمعاتهم بعدما كانوا في قمة الانهيار النفسي والفكري والجسدي، ومنهم من كان يُفكر بالانتحار بعد تعرّضه لتشوّهات جسدية بسبب الحروق.

  • هل من قصص أو حالات قاسية ما زالت محفورة في ذاكرتكِ؟

هناك قصّة حدثت في نهاية التسعينيات من القرن الماضي لشابة بعمر 18 عامًا أضرمت النار في جسدها رفضًا منها لضغوط أهلها من أجل تزويجها بابن عمّها وبقيت لفترة طويلة تتلقى العلاج في المستشفى، ولم يزرها ذووها إلا قليلاً جداً، ما زاد من معاناتها وآلامها النفسية، فحاولت الانتحار مُجددا داخل المستشفى أثناء مرحلة العلاج. ورأيتها بعينيّ كيف لفّت معطفها حول عنقها وكيف أزرقّ وجهها، لكن الله سهّل لي الأمر واستطعتُ إنقاذها في اللحظات الأخيرة، ومن ثمّ أدخلت في مرحلة العلاج النفسي وشُفيت تماما، وعادت إلى أهلها.

أما الحالة الأبشع، فكانت لسيّدة تشاجرت مع زوجها، وسكبت النفط على جسدها وهدّدته بحرق نفسها، فوقف الزوج مبتسمًا أمامها وأعطاها قدّاحة (ولاّعة) لتُكمل فعلتها. وفعلاً، أحرقت نفسها، فأسرع هو إلى تصوير عملية اشتعال زوجته بمقطع فيديو، ولم يبدِ أي محاولة لإطفائها إلى أن وصلت المستشفى كهيكلٍ عظمي أكلت النار كل لحم جسدها. وللأسف فارقت الحياة بعدها متأثرةً بجروحٍ بليغة، فيما اتخذت الشرطة إجراءاتها القانونية ضد الزوج.

نيكار محمد مارف داخل صالة الطوارئ أثناء تحضير العلاج لأحد المرضى
نيكار محمد مارف داخل صالة الطوارئ أثناء تحضير العلاج لأحد المرضى (الجزيرة)
  • كيف تم اختياركِ ضمن قائمة أكثر 100 امرأة مؤثرة حول العالم، وما شعورك كأول عراقية في القائمة؟

فرحة اختياري ضمن هذه القائمة كانت كبيرة جدا. وقد رشّحني إليها أحد الصحفيين الذين زاروا المستشفى سابقا لإجراء تحقيق عن حالات النساء اللواتي حاولن الانتحار بإضرام النار على أجسادهن، فتأثر كثيرا بمحاولاتي ودوري في معالجتهن ومساعدتهن لإعادة انخراطهن في المجتمع.

  • لماذا تلجأ بعض النساء للتخلص من معاناتهن؟

النساء يعشقن الحياة ويتعلقن بها، لكن ثمة مَن تلجأ إلى إحراق نفسها للهروب من ظروف صعبة وضغوط نفسية كبيرة تمرّ بها، ظنا منها أنها تحرقُ بذلك آلامها ومعاناتها وليس جسدها.

  • الدواء يُعالج احتراق الجسد، لكن ما الذي يُعالج احتراق الروح؟

علاج الحرق سهل جدا، وممكن أن يكون خلال أيام أو فترة قصيرة جدا، لكن المرحلة الأصعب تحدث إثر التشوّهات التي تصيبُ المريض حتى بعد شفائه، ويكون الأمر أشد صعوبة عند المرأة، خصوصا بعد أن تقف أمام المرآة وترى نفسها كيف أصبحت. ثمة نساء شُفين تماما من الحروق، لكنّ حدثت لهن اضطرابات نفسية بسبب التشوّهات، وحاولن الانتحار مرة أخرى.

وبالتالي، فإن عذاب الروح أقسى وأشد من عذاب الجسد، لأن جرح الروح يبقى في الذاكرة، وقد يولّد أجواءً سلبية وقاسية في مُخيلة الشخص تدخله بمرحلة نفسية صعبة للغاية، قد تدفعه إلى الانتحار.

لذلك، أرى أنه من الضروري أن يدخل أي شخص تعرض للحروق إلى مرحلة العلاج النفسي بعد الشفاء، لأنها تعمل على تفريغ كل الطاقات السلبية، لا سيما بالنسبة إلى المرأة التي لا تريد سوى الاستماع إليها ومساعدتها على اجتياز الاضطرابات والمعاناة.

  • ماذا يعني لكِ شفاء الشخص المحترق وتحديدا النساء؟

شفاء أي مريض بالنسبة لي هو أشبه ما يكون بولادة جديدة له، ما يزرع فيَّ روح الإصرار والاستمرار والمقاومة في هذه المهنة الصعبة المليئة بالمصاعب والآلام.

نيكار محمد مع طبيب مختص وتمريضيين أثناء تداوي سيدة تعرضت للحروق في يديها وأجزاء اخرى من جسدها
نيكار محمد مع طبيب مختص أثناء تداوي سيدة تعرضت للحروق في يديها وأجزاء أخرى من جسدها (الجزيرة)
  • ما تعليقكِ على ازدياد حالات الانتحار حرقا بين النساء في كردستان خصوصا والعراق عموما، وماذا تقترحين لمعالجتها؟

كانت أسباب الانتحار بين النساء، والتي شهدت طفرة كبيرة خلال تسعينيات القرن الماضي، تقتصر على المشكلات والضغوط الاجتماعية والعائلية فقط. لكن اليوم أضيفت إليها مشكلات أخرى بسبب مواقع التواصل الاجتماعي والانفتاح التكنولوجي.. وغيرهما من الأسباب.

لذا، على الأسرة أن تعمل على زيادة الثقة لدى أبنائها منذ صغرهم، وأنهم قادرون على اجتياز الصعوبات لتزيد نسبة الوعي لديهم. وتلعب وسائل الإعلام، هنا، دورًا مهمًا من خلال استضافة من كُتبت لهم حياة جديدة بعد محاولتهم الانتحار، للحديث عن تجاربهم ومعاناتهم مع هذه الظاهرة، ببرامج خاصة تعمل على تثقيف الجيل الجديد لا أن تهدم أسسه وشخصيته.

  • هل لمستوى التعليم والدراسة دورٌ في ارتفاع أو انخفاض معدل الانتحار بين النساء؟

من البديهي أن يُسهم مستوى التعليم والدراسة في تقليل حالات الانتحار بين النساء، فكلما كانت المرأة مُتعلّمة وصاحبة ثقافة عالية ابتعدت عن الأفكار السلبية، ومنها الانتحار. والدليل أن نسبة الانتحار بين النساء المُتعلمات أقل بكثير من غير المُتعلمات، لكن هذا لا يعني عدم حدوث حالات انتحار لنساء يحملن شهادات عليا وفي مناصب ووظائف مهمة مرموقة اجتماعيا.

المصدر : الجزيرة