أم لولدين وقُتل زوجها قبل 17 عاما.. العراقية مكارم هشام أول سائقة توصيل في الموصل

تقول عاملة الدليفري (التوصيل) إنها تعمل منذ عامين في هذه المهنة، وتريد أن توصل رسالة للمجتمع بأن المرأة الموصلية لها القدرة على مكافحة جميع الصعاب والتحديات لإثبات نفسها ونجاحها وإن الانتقادات تُعمق فيها الحب لعملها ولن تزيدها إلا ثقة.

سائقة الدلفري أثناء قيادتها للسيارة
مكارم هشام تعمل سائقة لتوصيل الطعام إلى المنازل لكسب قوت يومها (الجزيرة)

الموصل- لم ترأف الظروف القاهرة بالعراقية مكارم هشام (46 عاما)؛ ما جعلها مضطرة أن تراوغ بسيارتها الرجال صباح كل يوم في شوارع محافظة نينوى شمال العراق، لإيصال الأكلات الجاهزة إلى المنازل، للإنفاق على أسرتها، بعد مقتل زوجها على يد مسلحين قبل نحو 17 عاما.

ومثل مكارم، تعمل نحو 25 من الأرامل والمطلقات لأكثر من 8 ساعات يوميا في مطعم "مذاق الموصل"؛ وهو مشروع نسوي خاصّ بتجهيز الأكلات الموصلية، أشهرها البرياني والقوزي والكبة والشيخ محشي والدولمة، والمملوك لسيدة تدعى "أم عماد" في الجانب الأيسر للمدينة، وتتقاضى ما بين 2 إلى 4 دولارات لكل خدمة توصيل إلى المنازل.

أثناء توصيلها الطعام لأحد المنازل
مكارم أثناء توصيلها الطعام لأحد المنازل (الجزيرة)

انتقادات وتحديات

رغم أن مهنتها منحتها لقب أوّل سائقة توصيل "دليفري" في نينوى وقيادتها للسيارة -وهي مهنة ما زالت حكرا على الرجال في المدينة التي تتغلب عليها العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية التي تقيد حرية المرأة في العمل، بالإضافة إلى أنها شاقة وتتطلب التنقل في جميع الأحياء دون استثناء- وجعلتها تتعرّض للكثير من الانتقادات والتحدّيات؛ فإنها ما زالت تواجهها بتحدٍ ولم تؤثر على عزيمتها وإصرارها وإرادتها للاستمرار، بل إن ذلك زادها حبّا لعملها الشاق.

وتسعى الأم الموصلية -رغم حاجتها للمال لإعالة ولديها (22 و17 سنة)- إلى كسر الجمود والقيود الاجتماعية التي تحكم على المرأة أن تبقى أسيرة المنزل وتحرمها الانخراط في سوق العمل -كما تقول للجزيرة نت- واحتكار جميع المهن للرجال باستثناء بعض الوظائف الحكومية.

وتقول عاملة الدليفري (التوصيل) إنها تعمل منذ عامين في هذه المهنة، وتريد أن توصل رسالة للمجتمع بأن المرأة الموصلية لها القدرة على مكافحة جميع الصعاب والتحديات لإثبات نفسها ونجاحها وإن الانتقادات تُعمق فيها الحب لعملها ولن تزيدها إلا ثقة، طالما يؤمّن لها هذا العمل لقمة العيش ويحفظ كرامتها ويمنعها من الانزلاق نحو التسوّل أو ما شابه.

وتشكو الأرملة العراقية من قلة الدعم من الجهات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني وهي تطمح بأن يكون لها مشروعها الخاص من خلال افتتاح مطعم تؤمّن به لقمة العيش لعائلتها، بالإضافة إلى فتح المجال لتشغيل عدة نساء ممن يعانين نفس مشاكلها، أو امتلاك سيارة خاص بها، تعمل بها على توصيل طلبة المدارس والجامعات إلى دوامهم مقابل أجر مادي.

عاملات من المصنع أثناء اعدادهن أكلة الشيخ محشي الشهيرة في الموصل
عاملات من المصنع أثناء إعدادهن أكلة الشيخ محشي الشهيرة في الموصل (الجزيرة)

آلاف الأرامل والمطلقات

ورغم عدم وجود أي إحصائيات دقيقة بأعداد الأرامل والمطلقات في الموصل، فإن تقارير صحفية سابقة ذكرت أن أعدادهن يُقدّر بنحو 45 ألف أرملة ومطلقة في المدينة، 23 ألفا منهن يتسلمن راتبا تقاعديا، في حين هناك 22 ألفا لم يحصلن على حقوقهن ويعشن في أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على المدينة عام 2014 والعمليات العسكرية التي أدت إلى تحريرها في 2017، مع وجود فئة أخرى لم يتم تسجيلها في قاعدة البيانات الحكومية ويصل عددهن من 5 آلاف إلى 10 آلاف امرأة.

أم عماد (الأولى وقوفا من اليسار) تقول إن المطعم يجمع النساء من جميع القوميات دون استثناء  ( الجزيرة)

تقول "أم عماد" -وهي صاحبة المطعم- إن المجتمع بطبيعته لا يرحم، ويكسر المرأة الضعيفة، لكن علينا نحن النساء أن نتسلّح بالقوة والعزيمة لمواجهة التحديات والعادات والأعراف التي تقلّل من شأننا، وتؤكد بأن المرأة التي تهزّ المهد بيمينها قادرة على هزّ العالم بيسارها.

ترى "أم عماد" في حديثها للجزيرة نت أن السنوات الماضية زادت من تحجيم المرأة على عكس ما ينصّ عليه الإسلام في ما يتعلق بالعمل، وأكثر ما يُسعدها في مهنتها أنها استطاعت أن تجمع النساء من جميع القوميات دون استثناء وهنّ يُكافحن من أجل تأمين لقمة العيش لعوائلهن.

احدى العاملات في المشغل
أعمار العاملات في المطعم من 18 إلى 35 سنة، وتتراوح أجورهن من 8 إلى 17 دولارا أميركيا (الجزيرة)

وتعمل النساء في "مذاق الموصل" لفترتين، الأولى تكون من الساعة الثامنة صباحا لغاية الثالثة عصرا، والثانية من الثالثة عصرا لغاية العاشرة ليلا، وتبلغ أعمارهن من 18 إلى 35 سنة، وتتراوح أجورهن من 8 إلى 17 دولارا أميركيا.

التدريسية في جامعة الموصل رنا فاضل 2
فاضل تنتقد خضوع الموصل لأعراف وعادات وتقاليد تكاد لا توجد بهذا الشكل في مدن أخرى (الجزيرة)

القيود المجتمعية

من جانبها، تنتقد رنا فاضل الأستاذة في جامعة الموصل خضوع المدينة لأعراف وعادات وتقاليد تكاد لا توجد بهذا الشكل في مدن أخرى، وتزيد من حجم انتقاداتها إلى المصطلح المتداول في حال حاولت المرأة الموصلية التوجه نحو أية خطوة تعزّز من مكانتها المالية أو الاجتماعية؛ ألا وهو "المنع والقيود الاجتماعية" أو ما يعرف بمصطلح "لا يجوز".

لكن أكثر ما يزيد التفاؤل لدى الأكاديمية الموصلية -وهي تتحدث للجزيرة نت- هو انفتاح المرأة في المدينة وتوجهها نحو أعمال ومهن خاصة بها بعد أن انحصر عمل النساء في السابق -وتحديدا قبل ظهور التنظيم- في الوظيفة الحكومية والتي كانت أيضا تواجه فيها انتقادات وصعوبات.

بدورها ترى الناشطة المدنية مروة الخشّاب أن انخراط مكارم هشام في مهنة كانت حكرا على الرجال في مدينة محكومة بالعادات والتقاليد وتحصر المرأة في أعمال مُحدّدة؛ هو رسالة واضحة مفادها أنه لا يوجد بعد اليوم ما يمنع المرأة الموصلية من كسب قوت يومها، والقدرة على النجاح والإبداع في أي مجال تختاره.

ولا تخفي الناشطة المدنية عدم تقبل المجتمع عمل المرأة في مثل هذه المهن بسبب تقييدها لعقود عدة في العمل بمجال التربية والتعليم وبعض الوظائف الحكومية. لكنّها تتفاءل بتغيّر الصورة النمطية بامتلاك المرأة الإصرار والعزيمة والثبات من أجل التغيير كما الحال مع سائقة التوصيل التي أعطت رسالة واضحة لكل النساء في الموصل اللاتي فقدن المُعيل بأنّ هناك فرص أخرى للعمل غير الوظائف الحكومية التي أصبحت صعبة المنال.

وتؤكد الخشاب أن مكارم والكثير ممن مثلها بادرن للعمل في وظائف غير مطروقة للمرأة الموصلية سابقا، وفتحن بذلك الباب أمام كثير من النسوة ممن لديهن أفكار لمشاريعهن الخاصة لكنهن يخشين الانخراط فيها خوفا من انتقادات المجتمع.

وتقول إن قصص النجاح التي سطّرتها المرأة الموصلية -ومنها مكارم- بعد تحرير المدينة من سيطرة التنظيم كسرت الصور النمطية التقليدية التي تبيّن أن المرأة مكانها البيت وليس العمل.

المصدر : الجزيرة