صورة بائسة في بلد يعج بالثروات.. جيش من الأرامل العراقيات يصارعن من أجل البقاء

نسوة أرامل أثناء عملهن في السوق (الجزيرة)

عند دخولك الأسواق الشعبية في بغداد، تختلط في مسامعك أصوات الباعة، وتلفت انتباهك أصوات نسوة يتوسلن المارة المتبضعين من أجل شراء ما يمكن شراؤه من بضاعتهن.

مشهد توسل البائعات رغم أنه مشهد مألوف، فإنه يبدو مريبا للوهلة الأولى، فهن يتوسلن بإلحاح من أجل جذب المتبضعين، لكن سرعان ما ينقشع الشك، فهؤلاء النسوة ليس لهن معيل، وهن يشترين بما يحصلن عليه من مبيعاتهن وجبة طعام لأطفالهن.

تركت حروب العراق المستمرة جيوش من الأرامل والأيتام، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، التي شهدت حربا بين العراق وإيران دامت 8 أعوام مرورا بمرحلة حرب الخليج بعد غزو الكويت والحصار في التسعينيات، وحتى هذه اللحظة، تنفتح نيران الحروب على أكثر من جبهة، وكأن العراق ذلك المارد الذي لا يتنفس دون حرب، ودفع العراقيون فاتورة تلك الحروب عبر النكوص والتراجع في الاقتصاد والصحة والتعليم والثقافة، فضلا عما أنتجته من كم هائل من الأيتام والأرامل.

وليست الحرب فقط التي خلفت الضحايا، بل أيضا تداعياتها التي كانت أكثر خطورة من الحرب نفسها، والتي ترتبت عليها العديد من الآفات والأمراض الاجتماعية والعلاقات المنحرفة، وفي الغالب تكون النساء والأطفال أبرز الضحايا.

واللافت أن بعض النساء الأرامل ما زلن في مقتبل العمر، لكنهن آثرن العمل لإعالة أطفالهن، بعيدا عن الاعتماد على العطاء الحكومي الشحيح أو الهبات الخيرية لبعض منظمات المجتمع المدني أو الهيئات الاجتماعية.

نساء عدة فضلن الانخراط في العمل لسد حاجاتهن الضرورية (الجزيرة)

نساء مكافحات

وثمة نماذج عديدة لنساء فضلن الانخراط في العمل أو إقامة مشاريع صغيرة تمكنهن من سد حاجاتهن الضرورية.

رقية (30 عاما) تواجه مصاعب الحياة، فهي أم لعدة أطفال خطف الموت والدهم إثر سقوطه من إحدى البنايات المرتفعة خلال عمله.

تروي رقية أن زوجها كان كاسبا يعمل في بناء الدور، وفي أحد الأيام كان على ارتفاع عال وأصيب بالدوار وسقط من أعلى البناية ففارق الحياة.

تؤكد رقية أن الحكومة وفرت لهم راتب ضمن شبكة الحماية الاجتماعية، لكنه غير كاف لدفع إيجار المنزل الذي تسكن فيه مع أطفالها، فاضطرت لبيع الخبز في الأسواق بعد أن تقوم بخبزه في البيت.

وقد تكون رقية واحدة من الأرامل المحظوظات في حصولها على راتب حكومي، إذ إن هناك أرامل لم يتم تصديق عقود زواجهن في المحاكم وخسرن أزواجهن وحقوقهن.

وتسعى بعض النساء الأرامل إلى تحسين أوضاعهن المعيشية عبر الانخراط في العمل ونجحن في ذلك. فآمال الساعدي أرملة استطاعت أن تشق طريقها بعد وفاة زوجها، وهي أم لـ4 أطفال لم تستطع أن تخرج إلى الشارع للبحث عن عمل بسبب عادات عائلاتها المحافظة، ولكي توفر لقمة العيش لأطفالها، فكرت باستثمار شهادتها الجامعية فهي حاصلة على بكالوريوس في اللغة الإنجليزية، ويمكنها القيام بتدريس الأطفال لتحصل على المال.

وبما أن آمال تسكن في منطقة شعبية يكثر فيها الأطفال الأيتام، قررت أن تقوم بتدريسهم مجانا، كما تقوم برعاية أطفال النساء الموظفات بعد أن أغلقت كورونا دور رياض الأطفال.

أطفال يتامى يبيعون الأكياس البلاستيكية في السوق (الجزيرة)

أيتام صغار

ولم يقتصر حال الكفاح من أجل الحصول على لقمة العيش على النساء الأرامل فحسب، فثمة أيتام صغار لم يجدوا بدا من العمل لكسب العيش.

سيف وأحمد شقيقان يتيمان يبيعان الأكياس البلاستيكية في السوق من شروق الشمس إلى غروبها ليحصلا لقاء ذلك على مبلغ زهيد لا يتجاوز 3 دولارات يوميا، فيعودان للمنزل يقتسمان المال، ويستعدان للعمل في اليوم التالي.

سيف وأحمد هما ضحية زواج عائم، فأبوهما لم يصدق عقد زواجه في المحاكم، واكتفى بالكتاب الشفوي لرجل الدين، وهو ما يعرف قضائيا بالزواج خارج المحاكم، وقد وافته المنية قبل أن يصدق عقد زواجه في المحاكم الشرعية، وتركهما يواجهان المصاعب منذ نعومة أظفارهما.

يقول مدير العلاقات والإعلام في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية نجم العقابي إن 400 ألف أرملة مستفيدة من رواتب الوزارة، والأولوية تمنح للأرملة، مضيفا أن "الوزارة مستمرة بمنح القروض الصغيرة لإنشاء مشاريع صغيرة، وهناك دورات تدريبية في الخياطة والكوافير وإعداد الطعام وأعمال أخرى تخص المرأة وتساعدها في العمل".

وأكد "وجود قضايا تشجيعية، ودورات للتدريب النسوي رغم افتقار الوزارة لمراكز التدريب المهني في المحافظات، لكن ثمة تنسيق متواصل مع الحكومات المحلية من أجل إقامة دورات تدريبية".

الهنداوي رجح وجود نحو مليون ونصف مليون أرملة في العراق (الجزيرة)

وتشير تقارير صحفية سابقة إلى أن سجلات وزارة الدولة لشؤون المرأة في العراق سجلت 300 ألف أرملة في العاصمة بغداد وحدها، إلى جانب 8 ملايين أرملة في مختلف أنحاء العراق حسب السجلات الرسمية، إلا أن وزارة التخطيط نفت وجود هذه الأرقام.

وقال المتحدث باسم الوزارة عبد الزهرة الهنداوي للجزيرة نت إنه "في عام 2018 سجلت إحصائيات الوزارة 850 ألف أرملة في العراق" مرجحا أن يكون العدد قد وصل حاليا إلى نحو مليون ونصف المليون أرملة.

وفي مبادرة لدعم النساء وخاصة الأرامل والمتعففات منهن، أعلن مصرف الرشيد الحكومي مؤخرا تعليمات خاصة بمنح 10 ملايين دينار كقروض للأرامل والمطلقات، وباشر بمنح القروض على أساس نوع الأنشطة التي تصرف لها، وهي الخياطة وصالون الحلاقة ومحل مأكولات وتجهيزات غذائية ومتجر صغير.

قدوري رأت أن الفساد المستشري في مؤسسات الدولة وراء شح الدعم المقدم للنساء والأيتام (مواقع التواصل)

المجتمع المدني

ولعبت بعض منظمات المجتمع المدني دورا في دعم شريحة النساء والأيتام رغم محدودية الدعم.

تقول رئيسة منظمة الإلهام للأرامل والأيتام إلهام قدوري للجزيرة نت إن "منظمتها تكفلت بعلاج أكثر من 35 حالة مرضية لنساء متعففات وأرامل"، مشيرة إلى أن عدد العائلات التي استفادت من دعم المنظمة يربو على 1800 عائلة بينها أرامل ومطلقات".

ولفتت قدوري إلى أن "الفساد المستشري في مؤسسات ومفاصل الدولة وعدم مصداقية الجهات الداعمة وراء شح الدعم المقدم للنساء والأيتام والطبقات الاجتماعية المسحوقة، إضافة إلى التدخلات الحكومية والحزبية في عمل منظمات المجتمع المدني".

وأعربت عن الأمل في أن "تتمكن المنظمة من فتح معمل كبير للخياطة بغية توظيف أكبر عدد ممكن من النساء العاملات وتشغيلهن في هذا المشروع".

ورغم غياب الإحصائيات الرسمية الدقيقة لأعداد الأرامل والأيتام الذي يمثل جزءا من غياب الإستراتيجية لدى الدولة، فإن الأعداد الكبيرة من النساء والصبية والأيتام يعملون في الأسواق ويمتهنون مختلف الأعمال أو يتوزعون في تقاطعات الشوارع لبيع المناديل الورقية أو يقومون بمسح زجاج السيارات نظير أجر قليل، هو مشهد يومي متكرر في بغداد ومختلف محافظات العراق، ويعكس صورة بائسة لواقع النساء والأيتام في بلد يعج بالخيرات.

المصدر : الجزيرة