الآثار السلوكية للصيام: ماذا يقول علماء النفس عن الصبر والانضباط الذاتي؟

الآثار السلوكية للصيام: ماذا يقول علماء النفس عن الصبر والانضباط الذاتي؟
(الجزيرة)

يذكر الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه النفيس "إحياء علوم الدّين" مقولة ذكية يرشدنا فيها إلى خطوة عملية لضبط ذواتنا والسيطرة على رغباتنا، يقول فيها: "فإنّ النّفسَ إذا لم تُمنَع بعض المباحات طَمِعَت في المحظورات". هل بإمكانك أن تتخيّل أقرب ممارسة شعائرية لدى المسلمين لهذا التمرين السلوكي؟ بالفعل، إنّها الصيام، يأتي الصيام في شهر رمضان ليعلّمنا أن نكبح جماح رغباتنا الفطرية والطبيعية، تلك التي في أصلها مباحة في غير شهر رمضان، إنّه يعلّمك أن تسيطر على نفسك خلال نهارك، ويتركك في مواجهة عارية مع نفسك أمام شهواتك ورغباتك، ميولاتك ووساوسك، ليعلّمك أن تواجهها واحدة تلو الأخرى دون تلبيتها ودون مطاوعتها، كي يعيد لك مركزية السيّد الحرّ على انفعالاته بدل أن تظلّ أسير رغباتك وخادما تُلبّي لنفسك كلّ ما تشتهيه.

 

عادة ما تتصل رغبة الإنسان بالحصول على المتعة أو بتجنب الألم، لكن الرغبة قد تتحول إلى إغراء يقاومه الإنسان أو يضعف عنده، وتحديدا عندما تتعارض الرغبة مع قيمنا أو أهدافنا البعيدة، فمثلا قد يرغب الإنسان في تناول قطعة من الحلوى، لكن هدفه إنقاص وزنه أو الحفاظ على صحته بشكل جيد يجعله يقاوم لذة الحلوى، كما قد يرغب أحدنا في الجلوس ومشاهدة فيلم أو مسلسل، لكن هدفه في النجاح بامتحانه الجامعي أو في إنهاء رسالته الجامعية يجعله يؤجل المشاهدة لوقت آخر، فماذا تخبرنا الدراسات النفسية حول هذا الموضوع؟

 

تسمي الدراسات النفسية هذا النوع من السلوك باسم ضبط النفس (SELF-CONTROL)، أي القدرة على التحكم في الرغبات وتأخير اللذة والإشباع لتحقيق أهداف بعيدة المدى تتناسب مع قيمنا أو مع تصوراتنا عن الأفضل لأنفسنا.

 

حلوى المارشميلو

تجربة "حلوى المارشميلو" هي تجربة صممها عالم النفس "والتر ميشيل" عام 1960م وطبقتها جامعة ستانفورد على شريحة واسعة من الأطفال يصل عددها إلى 600 طفل، حيث أعطاهم قطعة مارشميلو وأخبرهم أنهم إن لم يأكلوها الآن وأخّروها إلى ما بعد 15 دقيقة فسيحصلون على قطعة ثانية، كانت التجربة من التجارب الطويلة التي راقبت الأطفال ما يزيد على 10 سنوات، وكان من نتائجها أن المجموعة التي انتظرت وأخّرت الحصول على اللذة كانت درجاتها العلمية أعلى، وكانت أكثر تركيزا، وأقل عرضة لمشكلات القلق والاكتئاب، وأقل تدخينا، وأكثر مهارات اجتماعية. ولاقت التجربة في وقتها صدى واسعا في الأوساط التربوية، وصُممت كثير من البرامج التربوية لتعويد الطفل على ضبط نفسه وتأخير لذته.(1)

 

تبريد اللذة

تشير الدراسات النفسية إلى أن الصفات الساخنة، مثل الذوق والرائحة والصوت والإحساس وما إلى ذلك، تقلل من السيطرة على النفس وتضعف تأخير الإشباع، خلافا لتوجيه الانتباه إلى الرمز والمعنى والصفات المجردة، وهذا فعلا ما ميّزه الباحثون في تجربة حلوى المارشميلو أن تغييرا ما في الموقف قد يسهّل على الأطفال الانتظار بشكل أفضل، فالأطفال الذين قيل لهم أن يفكروا في المكافأة بشكل معنوي وعاطفي كأن يتخيلوا المكافأة غيوما صغيرة رقيقة كانوا أقدر على الانتظار من الأطفال الذين قيل لهم أن يتخيلوا المذاق الحلو والملمس الناعم للحلوى، فبينما يغني الطفل الذي يتمتع بقدرة جيدة على تأخير الرغبة نغمة سعيدة لنفسه أو قد ينظر حول الغرفة أثناء الانتظار، قد يركز الطفل الذي لا يستطيع الانتظار والتأخير على البسكويت نفسه ويتخيل مذاقه الحلو(2). لذلك يمكن أن نقول إننا حين نعطي المهام التي ننجزها معنى مجرّدا أو ساميا فإنها تعطينا القدرة بشكل أفضل على الصبر على إنجازها أو على دفع المشتتات عنها.(2)

 

وقد تلت تجربة المارشميلو مجموعة كبيرة من الدراسات التي ربطت بين تأخير الإشباع وضبط النفس وقلة الاكتئاب والقلق أو قلة العدوانية والغضب، بل ظهرت دراسات عديدة تتحدث عن تأثير ضبط النفس على الأطفال الذين لديهم فرط حركة أو ضعف انتباه.(2)

 

موثوقية المكافأة

قام الباحثون في جامعة روتشستر بنيويورك بجمع 28 طفلا وقسموهم إلى مجموعتين، ثم أخبروهم بأنهم سيحصلون على لوازم فنية أفضل إذا انتظروا، وبعد أن انتظر الأطفال المكافأة بنجاح، لم تُزوَّد إحدى المجموعتين بأدوات أفضل، بينما زُوِّدت المجموعة الثانية بأدوات أفضل، وكشفت المقارنة بين المجموعتين أن الأطفال الذين تعلموا أن وعد الباحث كان غير موثوق به استسلموا سريعا لتناول المارشميلو فيما بعد، وانتظروا في المتوسط 3 دقائق فقط، خلافا للأطفال الذين تعلموا أن الباحث موثوق به، حيث كانوا قادرين على الانتظار لمدة 12 دقيقة في المتوسط.(3)

 

ويُفهم من هذه التجربة أن الإيمان بالشيء أو الثقة بالوعد يسهم في ضبط النفس، لذلك كان خطاب الإسلام في جزء كبير منه يقوم على الإيمان بالغيب والثقة بوعد الله وجنته، وأن المسلم كلما زاد إيمانه بهذا الوعد أعانه ذلك على الصبر على الطاعة وعن المعصية لنيل الجزاء الأخروي.

 

المكافأة.. هل أقول: اربح أو إياك أن تخسر؟!

في دراسة أجراها عالم الاقتصاد العصبي "بول جليمشر" من جامعة نيويورك عام 2011 لمعرفة ما إذا كان الناس سيختارون عن طيب خاطر الإشباع الفوري أو المؤجل من خلال منحهم مبلغا محددا من المال، الذي يمكنهم الحصول عليه في الوقت الحالي، أو إخبارهم أنه يمكنهم الانتظار لمدة شهر للحصول على المزيد من المال؛ أشارت نتائج الدراسة إلى أن الرغبة في تأخير الإشباع كانت تعتمد على مقدار المال المقدم، وكان هناك تباين واضح بين الأفراد حسب المكافأة اللاحقة وتقديرها، فأظهرت الدراسة أن قيمة المكافأة كانت تنبع من الطريقة التي يراها بها الفرد، وأن المبدأ في ذلك أن الناس يكرهون الخسارة بشدة ويميلون إلى تقدير ما يعظم فقده أو التخلي عنه أكثر من النظر إليه على أنه مكسب محتمل فقط، لذلك برأي تلك الدراسة أنه من المهم ملاحظة كون المكافأة ذات معنى لنا، فليس كل تعزيز سلبي أو إيجابي يفيد في تحقيق تأخير الإشباع.(4)

 

يكتشف علماء الأعصاب اختلافات قابلة للقياس بين أدمغة الأشخاص، وتحديدا وظائف الفص الجبهي من الدماغ، للذين يدخرون أو ينتظرون وأولئك الذين لا يستطيعون الادخار أو الانتظار، لا سيما في المناطق الدماغية التي تتنبأ بالعواقب وتعالج الإحساس بالمكافأة، وما تم اكتشافه حول مرونة دماغ البالغين يشير إلى أنه من الممكن زيادة القدرة على تأخير الإشباع إذا تلقى الدماغ رسائل تهدئة أكثر، أو إذا تلقى الطفل التدريب على ذلك في سن مبكرة، لكن المشكلة التي يعاني منها جيل وسائل التواصل اليوم أن ثقافته متمثلة في التسوق بنقرة واحدة والمراسلة الفورية والحصول على الأشياء بسرعة، وهذا لا يرضي رغبتنا في الإشباع الفوري فقط، بل إنه يشجعها، يقول "بيكل" من جامعة فيرجينيا: "إذا نشأت في بيئة تتميز بتوقعات زمنية قصيرة، فإنك بالطبع ستلبي رغباتك بأسرع ما يمكن، ما لم تكن مدربا على التحكم في دوافعك، فلماذا تفعل ذلك؟ الإشباع الفوري ممتع، وهذا ما تعلمنا إياه تكنولوجيا اليوم، لكن ما تعلمنا إياه الحياة هو أمر آخر".(4)

 

الوعي واللاوعي

تقسّم الدراسات النفسية النظام الداخلي للإنسان إلى نوعين من الأنظمة: نظام الوعي ونظام اللاوعي، وفهم هذين النظامين مهم جدا لفهم ضبط النفس، ففي نظام اللاوعي تجري عمليات معقدة لضبط نظام الوعي، فمثلا يطلق الوعي رغبته بالجوع، ويرغب بتناول أي شيء صحي أو غير صحي، لكن يبدأ اللاوعي بتحديد ما يناسب الجسد أو ما لا يناسبه. وشبّه عالم النفس "هايدث" اللاوعي بأنه مثل الفارس الجالس على الفيل، فالفارس هو المسيطر نظريا(5)، لكن ماذا لو أصرّ الفيل أن يذهب شمالا؟ هل سنفشل في ضبط أنفسنا هنا؟

 

الشوكولا اللذيذة

Kislány egy impish mosollyal nézi a csokoládé tojás
ضبط النفس يكلفنا الكثير من الطاقة والتركيز، ولذلك إذا كنا نعمل في مهمة تتطلب قدرا كبيرا من ضبط النفس، فلا بدّ من أن نحصل بعدها على الكثير من الراحة والاسترخاء. (شترستوك)

بدأ الحديث عن أسباب فشلنا في ضبط أنفسنا مع الدراسات التي كان على رأسها عالم النفس الاجتماعي الأميركي "روي بوميستر"، الذي وصف ضبط النفس بأنه عضلة يمكن أن تصبح قوية ويمكن أن تصبح مرهقة، وأن التحكم في النفس هو في الحقيقة مورد محدود يمكن أن يفرغ، وأن استخدام عضلة ضبط النفس يمكن أن تتسبب في انخفاض القوة لأداء مهمات لاحقة، أو ما يسميه "بوميستر" باستنزاف الأنا (Ego depletion).

 

وقد أجرى "بوميستر" مع مجموعة من علماء النفس عدة تجارب رئيسية عام 1998م، منها أنه عرّض مجموعة من الأشخاص لإغراء الشوكولا، فتبين له أن الأشخاص الذين قاوموا الشوكولا كانوا لاحقا أقل قدرة على الاستمرار في مهمة صعبة كلّفهم بها، وفي دراسة أخرى لـ"بوميستر" تبين له أن الأفراد الذين أُجبروا على إلقاء خطاب يضمّ معتقدات مختلفة عن معتقداتهم، لم يستمروا طويلا في مهمة حل الألغاز الصعبة، مقارنة بأولئك الذين اضطروا إلى إلقاء خطاب يتماشى مع معتقداتهم، لذلك كان برأي هذا النوع من الدراسات أن المهمة التي تستنفد ضبط النفس يمكن أن يكون لها تأثير سلبي على المهام اللاحقة غير ذات الصلة، وأن ضبط النفس يكلفنا الكثير من الطاقة والتركيز، ولذلك إذا كنا نعمل في مهمة تتطلب قدرا كبيرا من ضبط النفس، فلا بدّ من أن نحصل بعدها على الكثير من الراحة والاسترخاء.(6)

 

الإرادة ونسبة السكر في الدم

افترضت بعض الدراسات أن قوة إرادتنا هي بالفعل مثل الأوكسجين يفرغ، لذلك بدؤوا يبحثون عمّا يملأ هذه الإرادة، ووجدت بعض الدراسات التي تقول إن إرادتنا تعتمد على الجلوكوز أو على السكر الموجود في الدم، وأنه هو ما يملأ قوتنا لضبط النفس، حتى أوصت عدة دراسات أن استهلاك الجلوكوز يزيد من قدرتنا على التحكم في عدوانيتنا أو في تحسين تركيزنا أثناء ألعاب الذاكرة، لكن للمفارقة تظهر دراسات أخرى أن السكر لا يقل أصلا عند استهلاك إرادتنا أو فشلنا في ضبط أنفسنا، ليعود السؤال فلسفيا مرة أخرى: هل الإرادة فسيولوجية أو نفسية؟ وهل هي فعلا محدودة القدرة؟(5)

 

آينشتاين والحساء الساخن.. رسالة الدافع

يتسبب محرك خارجي أو داخلي في توقع اللذة أو الألم، فيجعلنا نكرر عادة سيئة لدينا، أو يجعلنا نفضّل لذة آنية ولحظية
يتسبب محرك خارجي أو داخلي في توقع اللذة أو الألم، فيجعلنا نكرر عادة سيئة لدينا، أو يجعلنا نفضّل لذة آنية ولحظية. (شترستوك)

في قصة رمزية غير حقيقية، يقال إن آينشتاين تأخر كلامه حتى عمر الرابعة، وكانت أول جملة قالها بنزق وهو مع عائلته على مائدة الطعام: "الحساء ساخن جدا"، فقالوا له بدهشة: هذه أول مرة تتحدث! فقال لهم: كل شيء كان جيدا قبل هذا الحساء! الغاية الرمزية من القصة أننا نحتاج إلى محفز أو دافع يشبه سخونة الحساء لنوقف رغاباتنا، فما هذا الدافع في ضبط النفس؟

 

هناك مبدآن رئيسيان لفهم آلية عمل دماغنا عند محاولة ضبط الإرادة، مبدأ اللذة والحصول على الرضا والمتعة الأقرب مستقبليا، ومبدأ تجنب الألم والإحباط والفشل، وهذان المبدآن يؤثران تأثيرا كبيرا على ضعفنا في ضبط أنفسنا، حيث تراقب أدمغتنا باستمرار ما يسميه علماء النفس مستوى الرفاهية أو المتعة أو الرضا لدينا، لذلك نرى في المقابل أن المهمة التي نحبها مثلا التي تحقق لنا الرضا لا نفشل معها في ضبط نفوسنا، وقد نقضي فيها ساعات دون ملل.(5)

 

وإذا كان الدماغ هو المسؤول عن توقع اللذة أو الألم فإنه يقوم بذلك وفق مثيرات خارجية تسمى الرغبة المعززة بالإشارة (cue-induced wanting)، إذ يتسبب محرك خارجي أو داخلي في توقع اللذة أو الألم، فيجعلنا نكرر عادة سيئة لدينا، أو يجعلنا نفضّل لذة آنية ولحظية، أو يجعلنا نتقاعس عن مهمة ما، وهنا بدأ الخبراء النفسيون والتربويون ينصحوننا بـ:

 

ضبط البيئة قبل أن نضبط أنفسنا

إذا كنت ممن يعجز عن إتمام عمل ما بسبب الهاتف، فاتْرُك الهاتف بعيدا في غرفة أخرى
إذا كنت ممن يعجز عن إتمام عمل ما بسبب الهاتف، فاتْرُك الهاتف بعيدا في غرفة أخرى. (شترستوك)

خلال الحرب الأميركية على فيتنام، أظهرت إحدى الدراسات أن 15% من الجنود الأميركيين في فيتنام قد أدمنوا المخدرات، لكن أحد المعنيين بالدراسة، وهو "روبنز"، حين تابع عودة الجنود إلى أميركا وجد أن 9 من 10 جنود توقفوا عن التعاطي حينما عادوا إلى موطنهم، وكانت هذه النتيجة تعارض الرأي السائد بأن إدمان الهيروين حالة لا يمكن التعافي منها، ومن ثم كان التغيّر الجذري في البيئة المحيطة يساعد على التعافي.(7)

 

غالبا ما نصف السمين والمدخن والمدمن بأنهم لا يضبطون أنفسهم، وأنهم لو ضبطوا أنفسهم لتغيرت حياتهم، لكن مقاومة الرغبة المضرة قد تستهلك كثيرا من طاقة النفس، وقد تفشل أحيانا مع الإشارات التي تحفّز الدماغ. تقول "باتي أوتويل" التي تعافت من إدمانها على التدخين إنها كانت عادةً ما تدخن مع صديقتها على ظهر الخيل، وإنها عندما أوقفت التدخين أوقفت معه ركوب الخيل، لكنها عندما عادت بعد 3 سنوات لتركب الخيل تحرك عندها شعور قوي ورغبة كبيرة بالتدخين.(7)

 

لذلك يقول الدارسون إن العامل الأهم والحاسم في ضبط النفس هو ضبط البيئة، وتقليل التعرّض للإشارات التي تحفّز الدماغ، فإذا كنت ممن يلعب ألعاب الفيديو ويقضي وقتا كبيرا معها، فافْصِل جهاز الألعاب وضعه في الخزانة بعد أن تستخدمه ولا تتركه قريبا من عينك، وإذا كنت ممن يعجز عن إتمام عمل ما بسبب الهاتف، فاتْرُك الهاتف بعيدا في غرفة أخرى.(7)

 

ومن هنا نتذكر في الإسلام حديث القاتل الذي قتل 100 نفس، فأمره الله تعالى أن يخرج من تلك الأرض لأنها تذكّره بمعصية القتل وبحاله القديمة فيها، ونتذكر أيضا التوجيه النبوي للغاضب بأن يُغيّر من حاله في المكان.

 

وهناك عدة تجارب تتحدث عن دور عامل البيئة في الاختيارات، وأن تجنب الإغراء أو تكثير شروطه أسهل من مقاومته، فإحدى الشركات كانت تريد لموظفيها أن يتناولوا الوجبات الصحية، فكانت جميع الوجبات الصحية على مستوى العين ومستوى الوصول باليد، بينما كانت جميع الوجبات الخفيفة غير الصحية إما مرتفعة جدا أو على الرف السفلي، لذلك كان على الموظف بذل مجهود للوصول إلى تلك الوجبات غير الصحية.

 

قد يبدو هذا عاملا صغيرا في نظر بعض الناس، لكن الدراسات النفسية تتحدث عن دوره الكبير في عملية ضبط النفس، فلو كان أحدنا جائعا واضطر للاختيار بين التفاح والأوريو، فسيذهب غالبا إلى حلوى الأوريو، لكن إذا كان التفاح هو الشيء الوحيد الذي رآه، وكان عليه أن يحضر سُلّما للحصول على الأوريو، فمن الراجح أنه سيختار التفاح.

 

قمع الدببة البيضاء.. والاستنزاف العقلي

الفشل في ضبط النفس قد يأتي من الحديث العقلي المستنزف بأن المهمة المراد إنجازها معقدة وصعبة
الفشل في ضبط النفس قد يأتي من الحديث العقلي المستنزف بأن المهمة المراد إنجازها معقدة وصعبة. (شترستوك)

اختبر عالم النفس "فيجنر" من جامعة هارفرد عدة تجارب على ما سماه "Thought Suppression"، أي قمع الفكر، فللخروج إلى الإنجاز والعمل لا يكفي أن يضبط الإنسان نفسه فقط، كان لا بدّ من أن يضبط نظرته للعمل الذي يقوم به. بدأ "فيجنر" تجاربه من جملة قالها دوستويفكسي: "حاول أن تطرح لنفسك هذه المهمة: ألا تفكر في دب قطبي، وسترى أنه هو الشيء الذي سيتبادر إلى ذهنك في كل دقيقة".

 

اختبر "فيجنر" هذه الجملة من خلال تجربة بسيطة طلب فيها من المشاركين التعبير عن الأفكار التي تراودهم لفظيا لمدة 5 دقائق، لكن أخبرهم أنه إذا خطر ببالهم دب أبيض فعليهم أن يقرعوا الجرس، وعلى الرغم من التعليمات الصريحة لتجنبه، فإن المشاركين فكروا في وجود دب أبيض أكثر من مرة في الدقيقة، لذلك اقترح "فيجنر" أسلوبا لقمع الدببة البيضاء من خلال إعطاء المشاركين شيئا معينا يفكرون به، فطلب منهم أن يفكروا بسيارة من نوع معين بدلا من الدب الأبيض، وفعلا انخفض تفكيرهم بالدب الأبيض.(5)

 

إن الفشل في ضبط النفس قد يأتي من الحديث العقلي المستنزف بأن المهمة المراد إنجازها معقدة وصعبة وتحتاج إلى تركيز كبير، وما تلبث هذه الفكرة أن تصبح دبا أبيض في العقل، وتصبح فكرة مانعة للإنسان من البدء بالمهمة، لذلك لا يهم في الحقيقة مدى صعوبة العمل الذي تقوم به، لأن المهم هو رأيك عن هذا العمل الذي تقوم به، والإستراتيجيات التي تجعلك قادرا على القيام بهذا العمل، ثم قمع الدببة البيضاء التي تمثل الخواطر والأفكار عن العمل أو عن المستقبل، فتخصيص نصف ساعة للقلق مثلا يمكن أن يجنب الإنسان القلق العشوائي والكثير خلال اليوم، أو تأجيل التفكير في موضوع ما حتى يوم الثلاثاء مثلا سيعين على التركيز في الأمر المراد إنجازه، وتقسيم المهمة المراد إنجازها سيجعلنا أكثر قدرة على الإنجاز وتحييد التفكير التضخيمي تجاه المهمة المطلوبة.

 

الحرمان والمكافأة الفورية

الذين يتبعون نظاما صارما في الحرمان هم أكثر عرضة للإغراءات كما تشير الدراسات.
الذين يتبعون نظاما صارما في الحرمان هم أكثر عرضة للإغراءات كما تشير الدراسات. (شترستوك)

في 4 دراسات قدمتها الباحثتان "كايتلين وولي" و"إيليت فيشباتش" على مجموعة من الرياضيين، وجدتا فيها ضرورة المكافآت الفورية للاستمرار نحو الأهداف بعيدة المدى، وأن الحرمان من المكافآت الآنية أو خلو المدة التي ننتظر بها تحصيل مكافأة مؤجلة من أي شيء يلبي رغباتنا يضعف القدرة على الإنجاز، وأن الذين شملتهم الدراسة كانوا أكثر قدرة على الإنجاز والمواصلة نحو الأهداف البعيدة مع حصولهم على مكافآت آنية وفورية.(8)

 

الحرمان التام أو الإزالة الكاملة لشيء نريده يمكن أن يجعلنا في الواقع نريده أكثر، بل إن الذين يتبعون نظاما صارما في الحرمان هم أكثر عرضة للإغراءات كما تشير الدراسات، لذلك يمكن استخدام ما يسمى بالتكييف الكلاسيكي للمساعدة على ضبط النفس، فإذا رغبنا في تناول الشوكولا فسنختار بدلا منها شيئا خفيفا فيه سكر طبيعي مثل الفراولة أو الأناناس، هذا سيساعد على تغيّر الرغبة مع مرور الوقت لتصبح موجهة أكثر نحو الأطعمة الصحية.

 

أخيرا، في موضوع ضبط النفس وتأخير الإشباع الكثير من الدراسات والكثير من النقاشات النفسية والفلسفية، والحاجة إلى ضبط النفس موضوع يمكن تناوله من زوايا متعددة، أهمها الحافز والدافع وما يحدث من علاقة تفاعلية بين السلوك والإرادة داخل عقولنا، ويمكن الاستزادة من الإستراتيجيات المفيدة لضبط الإدمان والشراهة والعادات السيئة من خلال قراءة هذا المقال هنا.

————————————————————————————–

المراجع:

1- Attention In Delay Of Gratiflcation. Walter Mischel. Stanford University. Journal of Personality and Social Psychology.

2- A procedure to teach self-control to children with attention deficit hyperactivity disorder. L M Binder, M R Dixon. Journal of Applied Behavior Analysis.

3- A new take on the Marshmallow Test. Jennifer LaRue Huget. The Washington Post.

4- The New Science Behind Your Spending Addiction. Sharon Begley. Newsweek.

5- The science of self-control 53 Tips to stick to your diet, be more productive and excel in life. Menno Henselmans.

6- Ego Depletion: Is the Active Self a Limited Resource? Roy E Baumeister.

7- Atomic Habits. James Clear.

8- For the Fun of It: Harnessing Immediate Rewards to Increase Persistence in Long-Term Goals. Woolley, Kaitlin and Ayelet Fishbach.

المصدر : الجزيرة