هل أنا مصاب بالفُصام؟ وكيف أعرف؟ الطب النفسي يُجيبك

هل أنا مصاب بالفصام؟

ربما أخبرك أحدهم يوما أنك شخص "منفصم" أو "مفصوم" لأنّك أظهرت تناقضًا في رأيك حول موضوع ما. لكن، هل أنت حقا مُصاب بالفصام؟ وكيف يمكنك أن تعرف؟ في هذا المقال، نتعرف إلى اضطراب الفصام، بعيدًا عن التصورات الشائعة والخاطئة التي ترسخت في أذهاننا، كما نناقش أعراضه وسُبل علاجه بالاستناد إلى الأسس العلمية والطب النفسي الموثوق.

 

ما هو اضطراب الفصام؟

بشكل مبسط، يمكن تعريف اضطراب الفصام على أنه خلل في أربعة جوانب مهمة لدى المريض، متمثلة في التفكير، والإدراك، والخطاب، والسلوك. يُصيب ما يقارب فردا من كل 100 حول العالم، وتبدأ أعراضه في الظهور في منتصف العشرينات حتى أواخرها، بينما يندر جدا أن يصاب به الأطفال أو من تعدّوا مرحلة الثلاثينات. وحتى الآن، لا نعرف أسبابا واضحة ومباشرة لهذا الاضطراب ذي الطيف الواسع، لكننا كما نفعل مع العديد من الاضطرابات النفسية الأخرى، نستخدم النموذج الأكثر مقاربة واستخداما في الطب النفسي، وهو النموذج البيولوجي النفسي الاجتماعي (The Biopsychosocial Model)، الذي يعدّ أحد أهم النماذج التي تساعد على التعامل مع الاضطرابات النفسية، مفترضا أن هذه العوامل الثلاثة (البيولوجية، والنفسية، والاجتماعية) تؤثر في فهم حيثيات الاضطراب النفسي، وبالتالي تساعد في علاجه بشكل أفضل.

 

في سياق اضطراب الفصام، وفي محاولة لفهم العوامل التي قد ترفع من قابلية الإصابة به، نجد أن وجود قريب من الدرجة الأولى يعاني من الفصام يرفع من قابلية الإصابة به بنسبة 10% مقارنة بالآخرين. كما وُجد أيضا أن مضاعفات الحمل والولادة، مثل سوء التغذية أو الإصابة بأمراض مُعينة، تُسهم في التأثير على نمو الدماغ لدى الطفل؛ ما يرفع من قابلية إصابته بالفصام في مراحل لاحقة من حياته. لكن بحسب النموذج، فإن الجينات وحدها لا تُفسر لماذا يصاب البعض دونا عن الآخر بهذا الاضطراب، ولا يمكن اعتبارها مسؤولة بشكل كامل، إذ نجد أيضا أن معدلات الإصابة به في الأسر ذات الوضع الاقتصادي-الاجتماعي المتدني (العوامل الاجتماعية) تكون مرتفعة أيضا، كما يُعتبر تراكم الضغوطات الحياتية والنفسية خلال مرحلة الشباب المبكرة عاملا يرفع من قابلية الإصابة (العوامل النفسية)، إذ يُصاب الغالبية ممّن يُشخصون لاحقا بالفصام بأول نوبة أو انتكاسة تحتاج إلى تدخل طبّي نتيجة تلك الضغوطات[1][2].

 

حقائق ومغالطات حول الفصام [3]

الفصام
حتّى يتم تشخيص المريض باضطراب الفصام، يجب أن يُظهر اثنين أو أكثر من الأعراض لمدة شهر واحد على الأقل (شترستوك)

قبل أن نتطرق إلى إجابة سؤال "كيف أعرف أنّي مصاب بالفصام؟"، من المهّم أن نصحح بعض المعتقدات الشائعة حول هذا الاضطراب وأعراضه، ولعّل أهمّ تلك المغالطات هو أن المصاب بالفصام هو شخص يحمل بداخله أكثر من شخصية واحدة. من المثير للاهتمام أنه بالرغم من أن هذا الاعتقاد خاطئ تماما، ولا يمت لحقيقة الفصام بصلة، فإننا نجد أنه لا يشيع بين العامّة فقط، بل يمتد حتى في الوسط العلمي. قبل ما يقارب 15 سنة من اليوم، نشر باحثان ألمانيان مقالا في المجلة البحثية المرموقة "Nature" تحت عنوان "الإلكترونات الفصامية"، وذلك في إشارة منهما إلى اكتشاف تغيير جذري في سلوك الإلكترونات مقارنة بالنماذج التقليدية المعروفة سابقا، أي كأنها تغيرت تماما وأصبحت شيئا آخر. ردا على ذلك المقال، نشر باحثٌ ثالث مقالا يعبر فيه عن دهشته من استخدام الباحثَين صفة الفصام في وصف هذا السلوك، كما وضح باحث آخر في المقال ذاته أن سلوك تعدد الشخصيات لا يمت للفصام بأي صلة على الإطلاق، وأن استخدام هذه الاستعارة يُسهم في تعزيز صورة نمطية غير صحيحة عن اضطراب الفصام[4][5]، وبالرغم من أن تلك المناوشة العلمية حدثت منذ وقت بعيد، فإن تلك المغالطة ما زالت حاضرة حتى يومنا هذا.

 

كيف أعرف ما إذا كنتُ مصابا بالفصام؟

لا بدّ أن نذكّر بداية أن عبء التشخيص يقع على الطبيب المختص وحده، وإنّ الهدف من هذا التقرير هو التعريف باضطراب الفصام بالاستناد إلى أسس علمية، وتوضيح الخلط الشائع بينه وبين أعراض الاضطرابات الأخرى. لذلك، إذا شككت بأن أيّا من هذه الأعراض قد تنطبق عليك أو على شخص قريب منك، فإن الخطوة الأمثل في هذه الحالة هي مراجعة الطبيب النفسي للحصول على التشخيص الدقيق.

 

بحسب النسخة الخامسة والأخيرة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، وحتّى يتم تشخيص المريض باضطراب الفصام، يجب أن يُظهر اثنين أو أكثر من الأعراض الآتية لمدة شهر واحد على الأقل. هنا تجدر الإشارة إلى أن الأعراض الأربعة الأولى يشار إليها بالأعراض الإيجابية، بمعنى أنها الأعراض التي يختبرها المصاب ولا تكون حاضرة في الوضع الطبيعي. بينما يُقصد بالأعراض السلبية غياب بعض السمات أو الوظائف الذهنية التي تكون لدى الفرد السليم حاضرة بشكل طبيعي.

  • 1- الهلوسات (Hallucinations):

أهمها وأكثرها شيوعا الهلوسات الصوتية، حيث يسمع أصواتا تتحدث معه أو تأمره بالقيام بأمور معينة، وهو ما يفسر السلوكيات العنيفة التي قد يقوم بها المصاب بالفصام، مبررا ذلك بالأصوات التي أمرته بالقيام بذلك. تليها الهلوسات البصرية، أي رؤية أشخاص أو أشياء غير موجودة في الواقع. كما قد يتهيأ له أنه يشتم أو يتذوق روائح وأطعمة غير موجودة؛ ما يدفعه أحيانا إلى الامتناع عن تناول الطعام لاعتقاده بأنه يتم تسميمه مثلا.

 

  • 2- الأوهام (Delusions):

أوهام الفصام

يتوهم المصاب أمورا غير واقعية وغير منطقية، قد تجلس مع المصاب ويخبرك أنه شارك في بناء الأهرامات، وقد يمتد هذا الشعور بالعظمة ليُخبرك أنه أحد الأنبياء على سبيل المثال. بالإضافة إلى ذلك، فإن الشك والارتياب بمن حولهم يضعهم في حالة خوف مستمر ممن حولهم، إذ تجد فئة كبيرة تعتقد بوجود مؤامرة من قبل منظمة حكومية تسعى لخطفهم وزرع الشرائح الإلكترونية داخل أجسادهم، أو إرسالهم إلى معسكرات اعتقال، أو غيرها من الأوهام غير الحقيقية. إن هذا الخوف والشك المستمر بمن حولهم هو ما يفسر السلوكيات العدائية التي قد يُظهرونها تجاه الآخرين.

 

  • 3- الخطاب غير المُنتظم (Disorganized speech):

في محاضرة يُقدمها الطبيب والباحث روبرت سابولسكي، يُخبرنا عن أعراض وسلوكيات يقوم بها المصاب بالفصام، ويشرح أن الخلل في التفكير والإدراك ينعكس بشكل واضح على خطاب المصاب، فهم -على سبيل المثال- يميلون لتفسير الجُمل بمعناها الجامد والحرفي بدون أي اعتبار للسياقات التي لا يواجه الشخص الطبيعي صعوبة في فهمها. قد تقف حاملا جهاز الكاميرا أمام شخص مصاب بهذا الاضطراب وتسأله إن كان بإمكانك أن تأخذ صورة له، وستُفاجأ بأنه واقف أمامك في حيرة من أمره قائلا إنه لا يملك صورة له حتى يعطيك إياها! وقد تُعطيه ورقة وقلم وتسأله أن يكتب لك أي جملة، فتجده قد كتب عبارة "أي جملة" على الورقة[1]. يستطيع الشخص الطبيعي أن يدرك الفارق بين الجمل الحرفية وتلك التي تتضمن مجازا أو تشبيها متعارفا عليه، لكن في إدراك المصاب بالفصام، كل الجمل تُفسَّر بمعناها الحرفي، ومن هنا يمكن ملاحظة الخلل في التفكير والإدراك لدى المصاب.

 

من الجدير بالذكر في هذا السياق أن أحد أهم الاختبارات التي تُستخدم في تشخيص الفصام هي اختبار الأمثال (Proverb test)، والذي يتضمن أن يُعرض على المصاب أمثلة شائعة من ثقافته ويُطلب منه أن يفسرها. نجد تاليا مثالا من أحد تلك الاختبارات لمرضى الفصام:  [7] [6]

* الطبيب: اختر الشرح المجازي المناسب للتعبير الاصطلاحي الآتي:

"محمد أخبرني القصّة التي حصلت معه من الألف إلى الياء":

أ- أخبرني القصة من بدايتها إلى نهايتها.

ب- الحروف الأبجدية.

ج- القراءة ممتعة.

* المريض: محمد… حرف ميم.

 

  • 4- السلوك غير المنتظم (Disorganized behavior):

يقوم المريض بتصرفات غير مفهومة وغير مترابطة، فتجده تارة يحرك يديه بشكل محدد مرارا وتكرارا، وتارة تصيبه نوبات غضب أسبابها غير مُبررة، أو قد يمتنع تماما عن إبداء أي ردة فعل تجاه مواقف تطلب ذلك. وبكل الأحوال، لا تجد مُسوّغا أو هدفا واضحا لأيّ من أفعاله، وذلك لأن ما يدور في عقله ليس واضحا بالنسبة إلى مَن حوله.

 

  • 5- أعراض سلبية (Negative symptoms):

الشعور بالانعزال والوحدة

ينسحب الفرد عن مجتمعه، ويصبح أكثر وحدة، وأقل اهتماما بحياته السابقة وأنشطته المعتادة، وتقل قدرته على التركيز والتفاعل مع أي محادثات أو أنشطة تحدث حوله، في تشابه واضح مع أعراض الاكتئاب.

 

إن إحدى أهم النقاط التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند التشخيص هي التباين في الخلفيات الثقافية والدينية لدى الأفراد، وذلك لأن محتوى الهلوسات والأوهام يختلف باختلاف ثقافاتهم. لنأخذ المجتمع الغربي على سبيل المثال، لقد وجدت الدراسات أن الأصوات الأكثر حضورا في الهلوسات الصوتية هي أصوات الشخصيات الدينية، وتحديدا شخصية "يسوع (Jesus)، تليها في المرتبة الثانية الشيطان (Satan)، لكن بالمقابل، نجد أن ثقافة المجتمعات العربية تعتبر نفسها أكثر تديّنا عندما يتعلق الأمر بحضور الدين في أوجه الحياة بشكل عام وفي الاضطرابات النفسية على وجه الخصوص، وعليه نجد ميلا واضحا لتفسير الهلوسات السمعية على أنها مسّ شيطاني، أو سحر أصاب المريض، أو حسد، أو غيرها من المعتقدات الدينية والثقافية الأخرى. في دراسة أُجريت مؤخرا في دولة قطر حول أهم الإشكالات التي يواجهها المختصّ في سياق الثقافة العربية، وُجد أنه عند سؤال المرضى خلال اختبارات التشخيص عمّا إذا كانوا يؤمنون بوجود الله، أو يعتبرون أنفسهم أنبياء، شعر كُلّ من المرضى والأطباء بنوع من عدم الارتياح، كما قوبلت هذه الأسئلة وما شابهها بنوع من الرفض والتحفظ، معتبرين أنها تُشكك في إيمانهم أو تهاجمه. من ثَم، قد يؤثر هذا التباين في الجانب الديني بين الثقافات المختلفة على مصداقية التشخيص وجودة المساعدة المقدمة[8].

 

تمتد أهمية الخصوصية الثقافية والدينية حتى في السياقات العلاجية، إذ تخبرنا الدراسات أن المرضى يصبحون أكثر تقبلا ورغبة في الحصول على المساعدة عندما تؤخذ خلفياتهم الثقافية والدينية بعين الاعتبار في النماذج التفسيرية والعلاجية للاضطرابات النفسية. قامت إحدى المراجعات بجمع وتحليل ما مجموعه 46 ورقة بحثية بغرض دراسة أثر التدخلات المتكيفة مع ثقافة المريض، وخلصت إلى أن التدخلات العلاجية المصممة بحيث تتلاءم مع خلفية المريض الثقافية أو الدينية تؤثر بشكل إيجابي على تحسن المريض[9]. في جمهورية مصر على سبيل المثال، قامت مجموعة من الباحثين بتحديث نموذج علاجي يهدف إلى تدريب مرضى الفصام على مجموعة من المهارات المعرفية والاجتماعية، وذلك عن طريق ترجمته إلى اللغة العربية فقط، وأظهرت النتائج تحسنا واضحا لدى المرضى مقارنة بمجموعة التحكم (المجموعة التي تلقت البرنامج بلغته الأصلية)[10].

 

ما هي سبل العلاج؟

علاج الفصام

يمكن تقسيم التدخلات العلاجية إلى قسمين رئيسيين، أولهما وأهمّهما التدخل الدوائي، متمثلا بمضادات الذهان بمختلف أنواعها، والذي يعتبر حتى اليوم العامل الأهم في التحكم بأعراض الفصام، مع التأكيد على أنه يتحكم بالأعراض لكنه لا يعالجها، وهو ما يعني أن تناول العلاج يستمر مدى الحياة حتى عند ملاحظة التحسن. لكن الإشكال الرئيسي في التدخل الدوائي -بالرغم من فاعليته وتأثيره الإيجابي على صحة المريض- هو أن هذه الأدوية تسبب أعراضا جانبية تدفع المصابين في كثير من الأحيان إلى التوقف عنها، وهو ما يؤدي إلى انتكاس المريض وتدهور حالته.

 

بالإضافة للتدخل الدوائي، يأتي العلاج النفسي في المرتبة الثانية من حيث الأولوية والفاعلية، متمثلا بالعلاج النفسي السلوكي الذي يهدف إلى تزويد المريض بمهارات التأقلم مع المرض والضغط النفسي الذي ينتج عنه، كما يتعلّم أن يدرك المؤشرات والتحذيرات التي قد تعني أنه على وشك الانتكاس، ومن ثَم تصبح قدرته على السيطرة على الأعراض بنفسه أفضل. بالإضافة لذلك، ولأن من يعانون من هذا الاضطراب غالبا ما تتراجع مهاراتهم الاجتماعية وقدرتهم على التواصل مع الآخرين، يلعب هنا العلاج السلوكي دورا في تنمية تلك المهارات؛ ما يُحسن من صحتهم ورفاهيتهم النفسية، ويساعدهم على الاندماج في المجتمع بشكل طبيعي.

 

سينما الفصام: كيف شكلت وعززت صورة نمطية سلبية عن هذا الاضطراب؟

من بين جميع الاضطرابات النفسية التي صورتها الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، لا نجد اضطرابا أُسيء فهمه وتصويره كما الفصام، وهنا يمكننا أن نقول إن السينما أسهمت بشكل كبير إلى حدّ ما في خلق وتعزيز صورة نمطية سلبية حول هذا الاضطراب وأولئك الذين يعانون منه. ولعّل الخلط الأشهر هو فيلم "Split"، والذي يُظهر بطله ما يقارب 24 شخصية مختلفة. يعتقد الكثيرون أن هذا الفيلم يتناول اضطراب الفصام وأن البطل "منفصم"، لكن الصحيح أنه يصوّر اضطراب الهُوية التفارقية (Dissociative identity disorder)، والذي يُعد اضطرابا نادرا جدا مقارنة بالفصام الأكثر شيوعا.

فيلم "Split"
فيلم "Split" (مواقع التواصل)

كما نجد أن فيلم "A Beautiful Mind" الذي قدّم سيرة حياة عالم الرياضيات الشهير "جون ناش" والذي عانى بالفعل من اضطراب الفصام، بالغ في تصوير الهلوسات البصرية التي قد يختبرها المصاب، ذلك أن الهلوسات -كما ذكرنا سابقا- لا تكون حاضرة طوال الوقت، ولا تظهر للمصاب على هيئة قصة مكتملة البناء والأحداث، كما أنّ تقديمه للدعم الذي يتلقاه المصاب من قبل أسرته والمحيطين به كان مبالغا به، وذلك وفقا لآراء العديد من المصابين بالفصام والذين شاهدوا الفيلم[11].

فيلم "a beautiful mind"
فيلم "a beautiful mind" (مواقع التواصل)

لكن على الجانب الآخر، نجد تصويرا معقولا في المسلسل التلفزيوني القصير"I Know This Much Is True"، والذي يقدم مشاهد مختلفة من حياة توأم يصاب أحدهما باضطراب الفصام؛ ما يضطر أخاه للاعتناء به، ونرى امتداد تأثير هذا المرض على حياة المريض وعائلته. كما نجد تصويرا جيدا وواقعيا لأعراض الفصام، حيث يعتقد توماس (الذي شُخص بالفصام) أن هناك مؤامرة تقتل فيها بلاده مواطنيها من أجل الحصول على النفط، وأن وكالة الاستخبارات الأميركية كانت تسعى لقتله لكنها قتلت ابنة أخيه بدلا منه، وحتى كاميرات المراقبة في المصحة النفسية كانت تحفز تلك الأوهام لديه وتجعله يعتقد أنها وُضعت خصيصا لمراقبته وحده (تصوير للأوهام التي يعانيها المصاب).

فيلم "I Know This Much Is True"
فيلم "I Know This Much Is True" (مواقع التواصل)

كما نجده في الحلقة الأولى يؤذي نفسه عن طريق بتر يده (عنف المريض تجاه نفسه)، وهنا جدير بالذكر أن هناك بالفعل دراسات حول بتر الأعضاء الذاتي (Self-mutilation) الذي يقوم به المصابون بالفصام، أكثرها شيوعا بحسب الأبحاث هو بتر المصابين الذكور لأعضائهم التناسلية، تليها أعضاء الجسد الأخرى، نتيجة اختبارهم هلوسات صوتية تأمرهم بذلك. ينتحر توماس، ولكن معاناة أخيه لا تنتهي، وهو ما نجح المسلسل في تسليط الضوء عليه بشكل مؤلم، ولكنه حقيقي. لقد حاول مساعدة أخيه بكل الطرق، بل يمكن القول إن حياته قد تمحورت حول مرض أخيه، فهو يعرف أسماء مضادات الذهان كما لو كان طبيبا، ويتطلع على إجراءات العلاج بصفته مُقدم الرعاية الأساسي لتوأمه، لكنه لم ينجح في إنقاذه رغم كل ذلك، ومع أنه يعرف كل أوهام توماس وشكوكه، إلا أنه لم يفهمها يوما، وهو ما أوصله إلى حالة واضحة من اليأس والإحباط، لقد كان أخوه لعنة أبدية في حياته على حد تعبيره[12].

 

تذكير أخير

لعل إحدى أكثر الحقائق ألما حول اضطراب الفصام هي تلك التي يذكرها "روبرت سابولسكي" في محاضرته، إذ يخبرنا أن عنف مَن يتم تشخيصه بالفصام لا يكون موجها -في أغلب الحالات- تجاه الآخرين، وإنما عنف المريض تجاه نفسه متمثلا بإنهاء حياته. إذ ترتبط معدلات الانتحار ارتباطا إيجابيا بعدد فترات التحسن والتخفّف من الأعراض التي تحدث في حياة المريض. لماذا يحدث ذلك؟ يجيبنا سابولسكي أنه يحدث نتيجة اليأس والألم الذي يصل إليه المريض ويشعر به عندما يدرك في فترات الصفاء الذهني حقيقة مرضه ومعاناته التي تستمر طوال حياته.

 

إن الوصمة حول الاضطرابات النفسية بشكل عام واضطراب الفصام على وجه الخصوص، تُعدّ من أهم الأسباب التي تجعل الفرد يصرف النظر عن طلب المساعدة المختصة أو حتى مشاركة المعاناة مع أقرب أقربائه. لذلك، من المهم أن نُذكّر أنفسنا ومن حولنا بأن استخدام عبارات مثل "منفصم" أو "مفصوم" في وصف سلوكياتنا الإنسانية اليومية، أو السُخرية ممن يُظهر تصرفات لا تتسق مع ما يقوله مثلا، لا يساعد في التخفيف من تلك الوصمة وإنّما يزيد الأعباء النفسية لأولئك الذين قد يُصابون بالفصام.

————————————————————————————————————-

المصادر

[1]      “NIMH » Schizophrenia.” https://www.nimh.nih.gov/health/topics/schizophrenia

[2]      "24. Schizophrenia – YouTube." https://www.youtube.com/watch?v=nEnklxGAmak&t=2664s

[3]      "Six Common Myths and Misconceptions About Schizophrenia." https://www.psycom.net/schizophrenia/six-myths-about-schizophrenia.

[4]  "Schizophrenic electrons," Nature, 2007.

[5]  "Schizophrenia is a disease, so electrons aren’t at risk," Nature, 2008

[6]      “Proverb comprehension reconsidered—‘theory of mind’ and the pragmatic use of language in schizophrenia,”, 2005

[7]      “Pragmatic Deficits in Iraqi Patients with Schizophrenia: A Descriptive Study”, 2020

[8]  "Cross-cultural adaptation of the Arabic Positive and Negative Syndrome Scale in schizophrenia: Qualitative analysis of a focus group,", 2019.

[9]  "The nature and efficacy of culturally-adapted psychosocial interventions for schizophrenia: a systematic review and meta-analysis,", 2018.

[10]     “Adapting and evaluating a social cognitive remediation program for schizophrenia in Arabic.”, 2013.

[11]  "Beyond A Beautiful Mind: Film Choices for Teaching Schizophrenia.", 2003 .

[12]  "Self-mutilation and schizophrenia,"1979.

المصدر : الجزيرة