تقبلني بكامل عيوبي.. هل يوافق علماء النفس على الحبّ غير المشروط؟

الحب غير المشروط، أو التقبّل غير المحدود، عبارات كثيرة يتداولها النّاس على منصّات التواصل الاجتماعي، يُقصَد بها أنّ الحبّ الحقيقي، هو الحبّ الذي لا يُملي عليكَ أي شروط، هو الحبّ الذي يقبلُكَ كما أنت، بكل عيوبك وبكل مشكلاتك. وقد يحمل الحبّ غير المشروط دلالات ضمنية أخرى تتعلّق بانتهاك السائد، وأحيانًا يُستخدم كصيغة لتبرير علاقة غير أخلاقية، تقع خارج إطار الزوجية، مثل حبّ الرجل لامرأة متزوّجة، أو حبّ المرأة لرجل متزوّج، تحت دعوى إذا كُنتِ تُحبّينني حقًّا، فعليكِ أن تتقبّلي أنّي متزوّج وأنّه لَن يجمعنا علاقة أخرى سوا الحب غير المشروط.

 

لكن ماذا يقول لنا علم النفس عن هذا المفهوم؟ ماذا يقول العلماء والباحثون؟ ومن أين أتى هذا المصطلح؟ وهل حقًّا يُؤيّد علماء النفس فكرة الحبّ غير المشروط؟ وهل هُو مستخدم في العلاج النفسي؟ وأين نُخطئ حين نتداول مُصطحًا كهذا بغير ضابط أو فهمٍ علميّ؟

ليس صحيحًا

تكمن المشكلة الرئيسية في فكرة الحبّ غير المشروط، بأنّه غالبًا ما يُرَاد به طرف واحد، فنحنُ نقولها حين يعجز الآخر عن تقبّل عيوبنا فحسب، فنحنُ نتوقّع من الآخرين أن يتقبّلوا عيوبنا، لكنّنا حين نتعرّض لعيوبهم قد نصفهم بأنّه أشخاص سامّين أو مُتلاعبين أو مُؤذيين. ورُبّما نودُّ كذلك أن يكون في مقدورنا أن نحبُّ الآخرين حبًّا متجردًا من الأنانية. لكن لسوء الحظ، محبّة كهذه قد تؤدي بنا إلى خيبة أملٍ جسيمة حين لا يتماشى منظورنا المثالي مع صعوبة -أو ربما استحالة- أن نحبّ دون قيدٍ أو شرط.

في كتابه "فنُّ الحب" (1956)، يشرح العالم النفسي والفيلسوف، إيريك فروم، أشكال الحبِّ وأنماطه، ويقلِّبه من مختلف الأوجه. صاغَ في كتابه مصطلح "الحبّ غير المشروط"، مقتصرًا به على الأم فحسب، إذ تحب الأم ابنها محبةً مطلقة من رابطة الرحم، تمنحه عاطفتها من جسدها بدايةً ثمَّ من قلبها، لا يفعل الوليد أي شيءٍ ليستحق محبةً كهذه، بل هو يحتاج إليه حاجته للغذاء كي يتعلَّم الأمان والقبول المطلق في العالم، كي يتعلَّم محبة العيش ويتمكَّن -في سيناريو مثالي- أن يمنحه لمن حوله في المقابل، عكس حبِّ الأب الذي -بناءً لنظرية فروم- هو حبٌّ مكتسب يُبنى تدريجيًّا.

ورغم ما توجَّه به من نقدٍ علمي لهذه النظرية إذ كثيرًا ما نسمع عن أمهاتٍ لا يحببن أطفالهن، فإنها ظل لها وزنها. انتشرتْ خطأً وشملَتِ الحبَّ كله، لكنَّ فروم تحدَّث بتفصيلٍ عن الحبِّ الرومانسي قائلًا إن هناك شرطًا واحدًا أساسيًّا للوصول إلى الحبُّ: التغلُّب على النرجسية. يختبرُ المرء العالم بنظرةٍ يُسقط من خلالها تجاربه ومعاركه وآراءه على كل ما حوله، بينما الواقع أن لكلِ شيءٍ وشخصٍ طبيعته الخاصة المنفصلة عن ذواتنا، ويُضيف أن الموضوعية هي المعاكس للنرجسية، إنها المقدرة على رؤية الأشخاص كما هم، بموضوعيةٍ وحيادية، والمقدرة على فصل صورته الموضوعية عن الصورة التي تتكون من خلال رغبات المرء ومخاوفه.

يرى فروم أن الحبَّ قرار، إنه حكمٌ واعٍ وفاصل يحكم به المرء لنفسه، إنه وعد. إن كان الحبُّ مجرد شعور، فلا أساس للوعد بأن نُحبَّ بعضنا للأبد، تأتي المشاعر وتذهب، أحوالها متقلَّبة وتتأثر بكل شيءٍ حولنا، كيف أثقُ بأن محبتي راسخةٌ ووطيدة؟ يُجيب فروم أن الأفعال تنطوي على قراراتٍ تصبُّ في مصلحة محبتي، وهو ما يخالف نزعة الحب غير المشروط. الحب ليس شيئًا ينمو بشكلٍ طبيعي ومنفصل، بل يتطلب الانضباط والتركيز والصبر والإيمان والتغلُّب على نرجسيتنا. إنه ليس شعورًا، بل تدريبٌ ومهارة(2).

تنحاز الرومانسية، كما المتوقع، إلى المشاعر البحتة، وتؤكد على أن اختيار شريك الحياة يعتمدُ على مشاعرنا المتوقِّدة فحسب تجاه شخصٍ ما، دون الأخذ بعين الاعتبار أي أسبابٍ عملية أخرى، لذا فإن الزواج العملي المتعقل هو ضربٌ من ضروب الجنون عند الرومانسيين، بل يجب أن تكون هناك قصةٌ ملحميةٌ وراء تضافر حياتين معًا. من وجهة نظرٍ رومانسية، ليس الزواج العملي العقلاني منطقيًّا على الإطلاق، واستُبدل بزواج العاطفة. كل ما يهم في هذا الارتباط هو أن شخصين يرغبان بشدةٍ في إتمامه، ينجذبان إلى بعضهما بقوةٍ ساحقة، ويعرفان من أعماق قلبيهما أنهما سينجحان.

يُشير الفيلسوف "آلان دي بوتون" إلى أن النزعة الرومانسية تُملي علينا بأن الحب الحقيقي يتضمن شخصًا جميلًا في كل جوانبه، نراه تمثالًا منحوتًا من الكمال، إنها محبةٌ ترادفُ تقبَّل كل تفصيلٍ في شريك حياتنا بصدرٍ رحب. ومن هذا المنطلق تأتي فكرة أننا -أو شريكنا- إن كنا بحاجةٍ إلى تقويم أو تغيير عيبٍ ما فينا يضايق شريكنا أو العكس، فإنه يعدُّ بمثابة خللٍ جم في العلاقة نفسها، وقد تقع جملة "إنكَ بحاجة إلى تغيير علةٍ ما" موقع تهديدٍ للآخر(3).

أمّا الخطأ الضمني الآخر لمقولة الحبّ غير المشروط، فهي أنّها تتطلّب أن يقدر طرف واحد على تلبية كلّ احتياجاتنا مجتمعة، فإنّنا حين نصبّ كامل حماسنا ومتطلباتنا على شخصٍ واحد، وننتظر منه، بل ونتوقع منه، تلبية كل احتياجاتنا، شخص نجدُ فيه كل شيء، القبول والانتماء والأمومة ومعنى الحياة والتفاني، فإننا نتوقع أمرًا قد يعجزُ عن تقديمه شخصٌ واحد. إذا عمَّقنا النظر فيما نرغب، فإننا قد نرى أنفسنا نصرخَ باستماتة ويأس صرخات الطفل النرجسي بداخلنا، ذاك الذي يتمددُ في مكانٍ عام مطالبًا بتحقيق رغباته وإلا فقد يحدثُ ما لا تُحمد عُقباه، إننا نقول ضمنيًّا: "أحبني كما أنا، لبِّ رغباتي، كن معي، بغض النظر عن سلوكي معك وعن أنني لا أعاملك بالمثل".

عبر التشبث بشعور الاستحقاق، فإننا ندخل منطقة اللوم أو الغضب حين تتعارض احتياجات شريكنا مع احتياجاتنا، لا يزدهر الحب الناضج العاقل إلا في ظل ظروف معينة، مثل نبتةٍ لا يُمكن أن تنجو إلا بتوافر شمسٍ ومياه وسماد، فإنها لَسذاجةٌ أن نظن أن تزدهر محبتنا وعلاقة حُبّنا في ظل ظروف مفسدةٍ لها(1).

ما الصواب؟

يحتاج الطفل من لحظة ولادته إلى حبٍّ غير مثقلٍ بأي واجباتٍ أو عقبات، يحتاجُ بينما يساير طريقه في الحياة إلى صبرٍ لا ينضب وتوجيهٍ مكثف وقبولٍ عميق ومحبةٍ حاضرة كي ينشأ في مناخٍ يتعلقُ فيه تعلقًا صحيًّا وآمنًا بوالديه ومن حوله، فتكون هذه خطوته الأولى لينضج عاطفيًّا. لكننا لا نظلُّ في عُش آبائنا للأبد، بل نحتاج كذلك إلى علاقاتٍ آمنة معًا، فيها نفتحُ قلوبنا دون توجسٍ من أي خِذلان أو انكسارات، نريدُ ثقةً وإخلاصًا نجدهُ في شريك حياتنا أو أصدقائنا المقربين، أعناقًا نرتمي إليها وقت الحاجة(1).

  • أولًا: لنُعِدْ هيكلة العلاقة الآمنة الناضجة

ترتبط فكرة الحب غير المشروط بتلاشي الحدود بين الشريكين، شخصٌ يمنح وشخصٌ يتلقى، لكننا على مدار حياتنا خضنا تجارب كثيرة في العمل أو الحياة الاجتماعية في توضيح حدودنا الشخصية، لذا فإن الحب غير المشروط يُشير ضمنيًّا إلى أن أحد الشريكين سيكون أنانيًّا إلى حدّ أنه الوحيد مَن ستُلبى احتياجاته ويكون له تجاوز كل الحدود الممكنة ليحظى بما يُريد منا، ونحنُ -في حالة الحبِّ غير المشروط- سيكون علينا منحه بجزالةٍ.

تعني المحبّة الآمنة أن نولي اهتمامًا بالمسافة التي تفصل بيننا وبين مَن نحب، أن نحترم مشاعر ورغبات بعضنا، إنها تعني التروي والوسطية في العطاء والتلقي.

المحبة لا تعني دومًا تلبية رغبات الشخص الآخر، وتقبله بلا لحظةِ كللٍ أو ملل مع تجاهل رغباتنا واحتياجاتنا الخاصة، إنها نظرةٌ غير ناضجةٍ للحب، تأخذ شكل العبودية وتُثقل كاهلنا بضرورة تلبية كل احتياج، وتخفيف كل حزن، والامتثال لكل طلب؛ فيُفضي بنا هذا النمطُ المتكرر غالبًا إلى إلغاء وجودنا وتكوين علاقةٍ غير متكافئة، وحين ينهار كل شيء، قد نلوم أنفسنا لعجزنا عن الالتزام بالإطار والمكانة التي وضعنا فيها الشريك أو الصديق رغمًا عنا. الاتزان في العلاقة الصحية -والتحدي كذلك- هو الاستجابة لشريكنا مع أخذ احتياجاتنا وقتها في الحسبان، هذا يعني احترام ذواتنا بما يكفي لوضع حدودٍ خاصةٍ بنا مهما بلغتْ حميمية العلاقة، أن نجد المِساحة للرفض أو القبول أو التفكير فيما يُطلب منا، سواءٌ أكان مطلبًا معنويًّا أم ماديًّا.

تعني المحبّة الآمنة أن نولي اهتمامًا بالمسافة التي تفصل بيننا وبين مَن نحب، أن نحترم مشاعر ورغبات بعضنا وننتبه إليها ونتناغم معها، إنها تعني التروي والوسطية في العطاء والتلقي. يتطلَّبُ الحب منا أن نأخذ احتياجات أحبائنا على محمل الجد، وأن نسعدهم قدر استطاعتنا دون أن نُلحق الأذى بأنفسنا، هذا لا يعني إلزامية الموافقة على كل شيء بدافع الحب، بل يعني أنه حتى رفض أمرٍ ما يأتي بمراعاةٍ ورقةٍ واحترام، وليس بقسوةٍ تهزُّ ثقة مَن نحبّ بنا، أو حتى الوصول لمعادلةٍ متوزانة تُلبي كلتا احتياجاتنا في آنٍ واحد(1).

  • ثانيًا: ليست أنانية، بل تكافؤ

يُملي علينا الحب غير المشروط أنه إذا تجاهَلَنا شريكُ حياتنا أو أهاننا أو طلبَ أمرًا غير معقول، فإن حُبّنا تجاهه لن يتأثر بمثل تلك التصرفات، لكنَّ الطبيعي هو أن نأخذ خطوةً للوراء عَقِب تصرفات كهذه، لنحمي أنفسنا من أذًى أجلَّ وأعظم. تتأثر محبتنا بمرور الزمن بتصرفات الشريك، قد تزداد محبتنا عمقًا وتأصلًا فينا مع شعورٍ بالأمان في حضوره، لكن توقُّع ثبوت المحبة دون الأخذ في الاعتبار أي عوامل أخرى هو توقعٌ غير واقعي يُثقل كاهلنا على طول العلاقة، يحوِّلها إلى ساحة حربٍ نفسية.

تنبع جاذبية الحب غير المشروط من أنه فعلًا ما نرغبُ فيه رغم عدم واقعيته، لأننا سنعجزُ عن منحه، النزعة التي مفادها غضّ الطرف عمَّا يفعله شريك حياتنا أو عمَّا لا يفعله ومحبته على أي حال هي مناخٌ مناسبٌ لتدمير المحبة من أساسها.

قد ينتابك شعورٌ بأن الحبَّ المشروط هو أنانيةٌ محضة، لعجزكَ عن تقديم عكسه، أو قد تشعر أنك لا تمتلك رحابة الصدر التي قد تقويك على تحمُّل كل شيء، لكن على العكس، إن الثقة التي تُشكِّلها على مدار حياتك في قدرتك على منح محبةٍ عميقةٍ وصادقة ومستمرة لشخصٍ آخر، لكن مع بعض الشروط التي ستُبنى عليها العلاقة مع الوقت من خلال مناقشاتٍ مشتركة ومفتوحة، هي الأساس السليم للعلاقات الناضجة، لأن انعدام وجودها يعني أن أساس محبتكَ للشخص قد يستمر فترةً من الزمن لكنه سيتآكل ويتقلص خلالها(4).

____________________________________________

المراجع:

  1. Is Unconditional Love Really Possible? John Amodeo, Psychology Today, 2018.
  2. The Art of Loving, Erich Fromm, Harper Perennial Modern Classics, 1956.
  3. How Romanticism Ruined Love? Alain de Botton, The School of Life.
  4. The Myth of Unconditional Love, Linda and Charlie Bloom, Psychology Today, 2021.
المصدر : الجزيرة