تعصّب أم حاجة للانتماء: هل يؤثر الانتماء إلى الجماعات على صحتنا النفسية؟

تعصّب أم حاجة للانتماء: هل يؤثر الانتماء إلى الجماعات على صحتنا النفسية؟

مال الإنسان إلى أخيه الإنسان منذ أيامه الأولى على هذه الأرض، من علاقات القربى والدم والقبيلة التي بدأها تاريخ الاجتماع البشري، وصولا إلى الأحزاب السياسية اليوم والجماعات الدينية والأقليات الاثنية، وكان من نتائج هذا الاجتماع البشري الكثير من الحضارات التي نعرفها عبر التاريخ، والكثير من العلوم والإنجازات التي نستفيد منها اليوم، ولكن أيضا كان الكثير من الدم والاقتتال الإثني أو الديني أو السياسي.

 

وتَشَكَّلَ معنى الأمة عند المسلمين منذ فجر الإسلام "إنّ هذه أمتكم أمة واحدة" "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"، وشهدت البشرية أنواعا مختلفة من الجماعات الدينية والسياسية والحزبية والاقتصادية؛ ما فتح بابا بحثيا كبيرا للتساؤل حول الجماعة وتماسكها النفسي والانتماء والتعصب، وسيحاول هذا المقال نقل بعض الدراسات النفسية والاجتماعية حول هذا الموضوع.

 

ما هي الجماعة؟

Csoport különböző kezek együtt csatlakozó koncepció

تُعرَّف الجماعة عموما بأنها مجموعة من الأفراد الذين يشتركون بسمات متشابهة تحدد هويتهم وأسلوب تفاعلهم، كأن نقول عن المسلمين عموما إنهم جماعة لأنهم يعبدون إلها واحدا ويتجهون إلى قبلة واحدة، مع عبادات ومعاملات تحدد هويتهم وسلوكهم، لكن كلمة "Groups" تضم أشكالا مختلفة من الجماعات حسب طبيعة العلاقات بين الأفراد، فهناك ما يسميه علماء الاجتماع "الجماعة الأساسية (PRIMARY GROUPS)"، وهي المجموعة التي تعطي للإنسان إحساسه بذاته ووجوده، ويتفاعل معها وجها لوجه، مثل مجموعة العائلة أو الأصدقاء، ومثل بعض الجماعات الدينية التي تشكل هوية الإنسان ورؤيته لنفسه وللآخرين، وهناك "الجماعة الثانوية (SECONDARY GROUPS)"، وهي مجموعة من الأفراد أكبر من المجموعة الأساسية، لكنها أقل حميمية، يجمع أفرادها هدف مشترك لكنه لفترة محدودة غالبا، مثل مشروع تجاري أو خدمي أو علمي أو نقابي أو زملاء العمل أو حتى الأحزاب السياسية(1).

 

والجماعة مختلفة عن الحشد (CROWD)، الذي هو تجمع مؤقت لمجموعة من الأفراد وقفوا لمشاهدة حريق ما مثلا أو لمشاهدة شخص يريد الانتحار، هم غير متشابهين ولا يبقون عادة على اتصال أو تفاعل فيما بينهم، وما يميز الجماعة عن الحشد برأي فرويد أمران رئيسيان: الأول هو تجانسها النفسي والعاطفي، وثانيها هو التنظيم، فمن خلال التجانس يتكوّن موضوع مشترك يهتم به أفراد الجماعة جميعهم، ومن خلال التجانس أيضا تتكون مشاعر مشتركة عند الأفراد تجاه الأحداث(2).

 

وتحاول الجماعات عادة أن تصنع التجانس داخلها من خلال حدود رمزية تحدد بها من هو داخل الجماعة ومن هو خارجها، بل ربما بعض الجماعات تعرف نفسها من خلال تعريف الآخر المختلف عنها، أو ما يسمونه جماعات "OUT-GROUP" التي يشعر الفرد ضدها بالمعارضة والرفض أو بالعداء والتنافس، في مقابل جماعات "IN-GROUP" التي يشعر الفرد بالولاء والانتماء لها، قد يكون الانتماء دينيا أو عرقيا أو طائفيا أو حتى لفرق كرة القدم، بل قد تكون الصفات الإيجابية لجماعة ما صفات سلبية للجماعة المخالفة لها، مع أنها الصفات نفسها(3).

 

ماذا تقدّم الجماعة لأفرادها؟

Arms raised in protest. Group of protestors fists raised up in the air.

تحدث ابن خلدون قديما بأن حاجة الإنسان إلى الغذاء والحماية أوصلته إلى التعاون البشري، ليحفظ معنى العمران على الأرض وليحفظ نوعه البشري أيضا(4). لكن الجماعة عند دوركهايم تتعدى الفائدة الغذائية والدفاعية، فضرورة الجماعة بأشكالها المختلفة أنها تحدّ من رغبات الإنسان غير المحدودة صونا للمجتمع عن اللاعُرف (Normlessness)، وصونا للفرد عن الشعور بالاغتراب (Anomie)، أو تعثرات نفسية قد تؤدي إلى الانتحار(5).

 

وتابعت ماري دوغلاس في دراستها عن الجماعة-الشبكة (Grid and Group) عن علاقة الجماعة بالفرد، فكانت ترى أن الجماعة تمثّل التضامن الاجتماعي بين الأفراد في الأفراح والأتراح، بينما الشبكة هي مجموعة الضوابط والقواعد الاجتماعية والدينية التي ترتب حياة الأفراد، فتأخذ الشبكة الخط العمودي وتأخذ الجماعة الخط الأفقي، ومع ضعف أحد هذين المحورين أو قوة أحدهما يظهر نمط ما للجماعة، وتحدد دوغلاس نمطين من الأنماط التي تخرج من الجماعة-الشبكة: النمط التراتبي الجمعي، والنمط الفردي.

 

في النمط التراتبي الجمعي يكتسب الأفراد وجودهم ومعنى حياتهم من خلال وجودهم في الجماعة، مع التنشئة الاجتماعية الصارمة لهم من نظام واجبات وعقوبات، أما النمط الفردي فهو يحدث عند ضعف التفاوض مع الجماعة حول المعايير والقواعد المفروضة، فتصبح جميع المعايير هنا قابلة للتفاوض والمناقشة وحتى للتبديل بحسب الفرد، ويمكن تشبيه هذا النمط بالسوق الحر الذي يكون فيه الوصول إلى المعرفة سهلا جدّا، فلا حاجة لهرمية علمية أو اجتماعية(6).

 

ومما تعبر عنه دوغلاس في دراستها أن النمط الفردي سبب في شعور فئة كبيرة من الجيل بعدم اليقين والاضطرابات النفسية، فمع ضعف الشبكة التي هي القواعد والمعايير تصبح جميع الخيارات مفتوحة، فإلغاء عادات المجتمع وأفكاره مثلا حول العلاقة مع الله أو مع الناس في مسائل الزواج والتربية والتعليم وغير ذلك يحمّل مجتمع الشباب والبنات الناشئ عبء بناء مفاهيم وقواعد جديدة خاصة بهم، وهذا شيء يصعب على الفرد أن يتحمله وحده، لذلك يصادف الإنسان هنا تعثرات نفسية واجتماعية(7).

 

كيف تتماسك الجماعة نفسيا؟

Group of people activists protesting on streets, women march and demonstration concept.

هناك مجموعة من الأسباب التي تحدثت عنها الدراسات النفسية والاجتماعية تجعل الأفراد في جماعة ما متلاصقين ومتماسكين لفترات من الزمن، ولعل من أهمها: الاحتياجات العاطفية للانتماء ودفع الغربة والقلق، فالجماعة تعطي للإنسان مشاعر إيجابية وفخرا ما عندما تحقق انتصارا أو إنجازا، مثل فوز فريق كرة القدم المفضل لأحدنا، أو مثل انتصارات الأمة السالفة، وتعطيه مشاعر التعاسة والحزن أيضا عندما يسمع أو يعرف أن من يشاركه في الدين أو في العرق يُضطهَد في مكان ما، مع أن ذلك الأذى لا يمسه شخصيا، وذاك الانتصار لم يسهم فيه بشكل مباشر، وهذه إشارة واضحة على التماسك النفسي للجماعة، وأن الفرد يفكر بنفسه عضوا في تلك الجماعة أو في تلك الأمة، ويُعبّر عن ذلك بالمشاعر والسلوكيات وحتى بالألوان والشعارات والأعلام، وتحرص الجماعات عادة على معالجة الأمراض التي تضعف تماسك المجموعة وتؤثر على أدائها، مثل أمراض الغيرة أو التنافس المرضي بين أفراد المجموعة، لكن من اللافت للنظر أن إحدى الدراسات التي أجراها جيمس هاردي عام 2005م على مجموعة من الرياضيين وجد فيها أن أحد أسباب ضعف المجموعات وأدائها هو التماسك العالي بين الأفراد الذي يحجب التفكير النقدي ويُحيل أي قضية نقاشية عن الجماعة إلى مؤامرة أو ضرر مفترض على الجماعة، وقد يتحول إلى رغبة مفرطة بتصنيف البشر حسب قربهم أو بعدهم عن الجماعة، وقد يؤدي إلى القيام بسلوكيات غير أخلاقية تجاه الجماعة المرفوضة، أو المبالغة في إسقاط الصفات الرديئة عليها، وهو ما يسمى بظاهرة التعصب ومشكلة الأفكار النمطية(8).

 

الأفكار النمطية (Stereotypes): طريقتنا البسيطة لفهم العالم

Gender inequality concept. Women social imparity problem. Bias and sexism in workplace or social communication. Prejudice, stereotyping and discrimination. Flat vector illustration

توضح الدراسات النفسية أن التفكير النمطي والتعصب يتغذى كل منهما على الآخر، فالمعرفة النمطية تزيد في التعصب، والتعصب يستخدمها ليبرر نفسه، وتحدث الأفكار النمطية عادة بسبب توسع العالم وتعقده وحاجتنا للتعامل معه، لذلك نكتفي بالمعرفة البسيطة لبناء نموذج يساعدنا على التعامل مع تلك الجماعة أو ذاك العرق، وهذه المعرفة معممة وغير دقيقة.

 

وتخبرنا الدراسات أن الأفكار النمطية إنما يتعلمها الطفل وهو صغير من الآخرين، وحتى نصل إلى التعصب فإننا نمر بثلاث مراحل في الطفولة: يبدأ الطفل بالتمييز بين أفراد جماعات مختلفة، ثم يبدأ بالتوحد معها والانضمام إليها بشكل نفسي، ثم يبدأ بالتقويم والاستجابة السلوكية أو الشعورية للتعصب لتلك الجماعة، وهذا قد يحدث مبكرا أو متأخرا، وهنا تجربة الدمية التي صممها كلارك، حيث طلب من الطفل أن يعطيه الدمية التي تشبهه بيضاء أو سوداء، فأظهرت التجربة أن 75% من الأطفال بين 3 إلى 7 سنوات يدركون الهوية العرقية للدمية، لذلك قالوا إن الوعي العرقي يبدأ بالحدوث مع عمر 3 سنوات(9).

 

وتُبنى الأفكار النمطية على مجموعة من التصورات اللاوعية في عقولنا:

1- وهم تجانس الجماعة الخارجية (Outgroup Homogeneity İllusion)، فنحن نميل إلى أن الجماعة المختلفة عنا هي متشابهة ومتجانسة، فمن طبيعة التحيز أن نرى الآخر كلا واحدا حتى نستطيع فصله عن جماعتنا الخاصة بنا، ثم نلحق به عادة صفات عامة جسدية وشخصية وفكرية وسلوكية، وكلما زاد الاقتراب من الجماعة الداخلية زادت الأفكار النمطية أو وهم تجانس الخارج عنا، وهذا ملاحَظ على مستوى تفكير الرجال بالنساء وبالعكس، أو على مستوى العرق العربي والكردي والتركي، أو على مستوى الجماعات الدينية.

2- الارتباطات الزائفة، فالأحداث التي تتوالى عادة ما يجعلها الإنسان سببا للأخرى، وهذا ارتباط زائف يؤدي لفكرة نمطية، وخصوصا عندما يكون الحدثان غير عاديين، مثل جرائم العنف، فلو ارتكبها مسلم أو أسود مثلا فسيحدث هناك ارتباط عرقي أو ديني بين الجريمة وفاعلها، ومن ثَم تتحول إلى فكرة نمطية، لأننا أقدر على تذكرها بسبب اختلاف العرق أو الدين أو القومية عنا، وفي دراسات تشارلز وكيث باين وجدا ارتباطا بين المجموعات العرقية والخطر، لذلك تكون الشرطة أقرب إلى استعمال السلاح وإطلاق النار وأقل تحريا مع بعض الأعراق أو الديانات كالسود أو المسلمين(10).

3- الاعتقاد بعدالة العالم وأن الناس ينالون ما يستحقون ويستحقون ما ينالون (The Belief in a Just World)، فالاعتقاد بعدالة العالم يجعلنا نقول إن المغتصبات جرى لهن ما جرى بسبب إغرائهن بلباسهن، واللواتي ضُربن من أزواجهن لا بد أنهن يستحققن ذلك، واللاجئين أو الهاربين من الحرب لا بد أنهم فعلوا ما يستحقون به هذا العناء، فهذه الظاهرة تؤدي لتحريف انطباعاتنا وتوليد أفكار نمطية عن جماعة ما أو عن فرد ما(11).

 

ونلحظ أن التعصب الناشئ عن الأفكار النمطية قد ينشأ لصالح جماعة ما وقد ينشأ ضد جماعة ما، فما التفسير النفسي لظاهرة التعصب؟ وهل هي اضطراب نفسي فعلا؟

 

من أين ينبع التعصّب؟

Young black man marching with crowd of people with raised fists on public demonstrations.

يختلف الاستعمال الدلالي للتعصب بين الثقافات، فنجده في اللغة العربية يعبّر عن نصرة الإنسان لقومه أو عصبته ظالمين أو مظلومين، وهو بذلك يحمل معنى واسعا قد يكون إيجابيا أحيانا، وخصوصا عند نصرته مظلوما، وهنا نلمح التوجيه النبوي في حديث "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" وتساؤل الصحابة بعدها كيف أنصره ظالما، ليكون الجواب النبوي: "تحجزه أو تمنعه من الظلم"، ونلمح أيضا في قوله صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة" إخمادا لنار التعصب العمياء عند النصرة للجماعات قبيلةً أو عشيرة، لكن ربما تختلف الدلالة في الإنجليزية، فكلمة "Prejudice" لا تحمل معنى التعصب بمعنى النصرة فقط، لكنها تحمل معنى الفكرة المسبقة عن الشيء دون بحث أو دراية، فهي بمنزلة الحكم المتعجل، بالإضافة إلى المعنى الوجداني للتفضيل أو عدم التفضيل لشخص أو فكرة أو جماعة.

 

وتتداخل كلمات كثيرة مع كلمة التعصب، مثل التحيّز والتمييز والعنصرية، لكن التعصب عند عدد من علماء النفس هو بمعنى الاتجاه، وهو اتجاه سلبي مع رأي مسبق تجاه جماعة ما أو أعضاء جماعة ما مختلفة، ومكوناته ثلاثة: "ABC"، الوجدان والمشاعر (Affection Feelings)، والميول السلوكية أو الفعلية (Behavior Tendency)، والجوانب المعرفية والاعتقادية (Cognitions)؛ لذلك يمكن أن نعرّف التعصب بأنه اتجاه سلبي مسبق عن أفراد ما أو جماعة ما بسبب الدين أو العرق أو الموقع الاجتماعي، مع وجود حقائق تعارض هذا الحكم، ومشاعر وجدانية تترجمها حالة الازدراء والاحتقار لدى المتعصب ضد الجماعة الأخرى.

 

وقد عرفت البشرية ألوانا مختلفة من التعصب الديني والعرقي والجندري، ففي الشعر العربي نجد التعصب القبلي قد أثار حروبا طاحنة بين العرب في الجاهلية، واليوم نشهد التعصب الوطني والطائفي والعرقي، وقد شهدت الولايات المتحدة الأميركية إبادات جماعية واستعبادا للهنود الأصليين وطردا للمكسيكيين، ويذكر إيرليك عن دراسات أجريت على شرائح من الأميركيين، باستخدام مقياس "بوجاردوس" للمسافات الاجتماعية نحو القوميات المختلفة، وجدوا فيها أن الأميركيين أكثر كرها للقوميات الشرقية مثل الصينيين واليابانيين، ويفضلون القوميات الأوروبية الغربية، كما شهد ويشهد الفلسطينيون أنواعا من التعصب اليهودي ضدهم، وهنا نلاحظ أنه ليس بالضرورة أن تكون الأقلية هي المضطهَدة، بل يمكن لها أن تكون هي القائمة بالاضطهاد كما نرى في فلسطين، وكما كان في جنوب إفريقيا حيث أقلية بيضاء تضطهد السود، وكما شهدت المرأة عبر التاريخ أشكالا من التعصب ضدها(12).

 

لكن ما تفسير هذا التعصب؟ وهل هناك علاقة بين الدين والتعصب؟ في الحقيقة هناك تضارب بين الدراسات التي تحدثت عن ذلك، وخصوصا مع تعدد أشكال التعصب، فيمكن لتصورات الناس الدينية أن تغذي التعصب، ويمكن لها أن تمنعه كما نرى في عدل الإسلام مع الآخر في القرآن والسنة "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى"، لذلك لعل التفسيرات النفسية تقدّم لنا نافذة أقرب لفهم مشكلة التعصب.

 

لماذا يتعصب الناس بحسب علماء النفس؟

Afro-amerikai fiatal jóképű férfi megafonban sikoltozik az emberi jogok tiltakozása mellett a szabadban a füstben. Az utcán tiltakozó emberek csoportja. Sztrájk az erőszak ellen.

تميل الدراسات النفسية إلى دراسة التعصب على أنه اضطراب نفسي، وانقسمت الدراسات في تفسيره من خلال علم نفس الأفراد والنظرية الشخصية، أو من خلال سيكولوجيا الجماعات، أو من خلال التعلم الاجتماعي، أو من خلال المعرفة والأفكار.

 

1- من خلال علم نفس الأفراد: في هذه المدرسة 3 رؤى حول سبب التعصب: التحليل النفسي، ثم الإحباط والعدوان، ثم الشخصية التسلطية.

أ- التحليل النفسي ومدرسة فرويد: أكثر ما يقال ضمن هذه المدرسة هي أشياء غير قابلة للتجريب ومعرضة للنقد المعرفي، لذلك عرضها أشبه ما يكون بالعرض التاريخي لتفسير التعصب، فالصراع بين الأنا الأعلى والهو، بين السلطة الاجتماعية والوالدين والغرائز يولد مشاعر الكراهية والعدوان المدفونة في النفس، وخصوصا أنها تتعرض للكبت من المجتمع، فلا بد من تفريغ هذه المشاعر، ويكون هذا التفريغ من خلال مجموعة ضعيفة لا يمكن لها أن تقاوم(13).

ب- الإحباط العدوان: عندما يعجز الشخص عن توجيه العدوان إلى مصدر الإحباط فإنه يوجهه لمن هو أضعف، ويدفعه للبحث عن كبش فداء. وفي دراسة تطبيقية، عرّض الباحثان مجموعة من الأشخاص لموقف محبط بمنعهم عن مشاهدة فيلم سينمائي، وطلبوا منهم بدلا من ذلك الإجابة عن أسئلة صعبة ومملة، ثم سألوهم عن الأقليات فأظهروا تعصبا عاليا ضدهم، وعادة ما تكون الجماعة التي ستتلقى العدوان الناتج عن الإحباط معدّة مسبقا بحكم التربية والتعليم أو بحكم الإعلام والسياسة والاقتصاد، وقد تعرضت هذه المدرسة للنقد أيضا لتجاهلها العوامل الاجتماعية والثقافية(14).

ج- الشخصية التسلطية: وهي الشخصية الجامدة فكريا، فهي تقوم على التفكير الثنائي (Rigid Thinking)، ولديها سمات شخصية خاصة، مثل الشدة أو القسوة، أو التمسك الصارم بالقيم المعرفية وأنماط السلوك والعقاب، والحاجة المفرطة للخضوع إلى سلطة، وعدم تحملهم لأي نوع من الغموض، وهذا ما يؤدي بهم إلى التعصب، لكن الربط بين الشخصية والتعصب أوقع النظرية في نقد كثير، لأنها حيّدت باقي العوامل الاجتماعية والثقافية المؤثرة، وعن كون مدن بأكملها قد تعاني من التعصب(15).

 

2- من خلال سيكولوجية الجماعات: وهنا تركز النظرية على المجموعة لا على الأفراد، فالتعصب برأي هذا الاتجاه يحصل من التنافس بين الجماعات حول المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أو على مصادر نادرة، فلو كانت جماعتان تتنافسان فلا بد أن تشكل إحداهما مصدر إحباط للأخرى، فينشأ من هنا التعصب، وهنا قام مُظفّر شريف عالِم النفس الاجتماعي بما يسمى بتجربة "كهف اللصوص"، حيث أقام مكانا خاصا وأحضر إليه 24 صبيا من بيئات اجتماعية متشابهة، يجهل كل منهم الآخر، ولا يعانون من اضطرابات نفسية، وكانت التجربة على مرحلتين: المرحلة الأولى كانت مدتها 3 أيام، جمعهم في مخيم واحد، ثم قسمهم إلى مجموعتين، كل جماعة في مخيم خاص لتقوم بنشاطاتها الخاصة، وهكذا تسنى لكل منها الوصول للمتشابهات فيما بينها ووضع قوانين لإدراة الجماعة، وظهرت في هذه الجماعة معالم التلاحم من الغناء المشترك وتخصيص اسم مشترك للمجموعة، والأبرز كان هو تعريف أنفسهم بـ"نحن" و"الآخر"، مطالبين بمجابهات رياضية مع الجماعة الثانية، ثم لتدخل الجماعتان في حالة من التوتر وتبادل السباب والشتائم، وخصوصا عند الخسارة الرياضية أمام المجموعة الأخرى، وهنا جرب الباحث شريف عدة طرق لتخفيف التوتر والعدوان بين الفريقين، من خلال توجيه الفريقين لعدو ثالث مشترك، أو جمع المجموعتين على العشاء والحفلات، لكن النتيجة كانت مخيبة للآمال، حيث انعزل كل فريق وحده، لكن الطريقة الأفضل كانت من خلال مشروع مستعجل يخص الفريقين ويضطران فيه للتعاون، لأنه مشروع يتجاوز مؤهلات الفريقين ويتحداها؛ ما سيجبرهم على التعاون، وفعلا قلّت نسبة العدوان والسخط بين الفريقين، ولم يكن الصراع حتمية سيكولوجية بين الجماعات(16).

 

3- من خلال التعلم الاجتماعي: فالفرد هنا يتعلم التعصب من الأسرة والمدرسة، فالطفل يتعلم بمبدأ التعزيز والمحاكاة الذي يقلد فيه أباه أو أمه أو أستاذه، فحين تظهر الأقليات في التلفاز أنها طبقات دنيا في المجتمع وأنها تثير الضحك والسخرية أو تثير الاشمئزاز، يلاحظ الطفل أن جماعته تبتعد عن تلك الجماعة وهكذا. وهذه النظرية تميل إلى تفسير التعصب بأسلوب الإشراط الكلاسيكي. وهنا تجربة قام بها ستاتس، حيث عرض مجموعة من أسماء القوميات على طلاب جامعيين، وأشرطها بكلمات إيجابية أو محايدة أو سلبية، وكررها 18 مرة، وفي العرض الذي بعده طُلب منهم تحديد مستوى شعورهم عن كل قومية، فكانت القومية التي أشرطت بكلمات سلبية أقل تقديرا من الطلاب، وكذلك الإشراط المادي أو بالمكافأة أو بلذة الضحك.

 

4- من خلال المعرفة والأفكار: يرى أصحابها أن التعصب والأفكار النمطية لا توجد فقط من التعلم الاجتماعي والإشراط، ولكنه يتعلق بأسلوب وطرق التفكير ومعالجة الأمور، وهنا قدم أصحاب هذه الرؤية نظرية نسق المعتقد (Belief System Theory)، فالتطابق والتماثل في معتقدات الأفراد يحدد في جزء كبير طريقة أو أسلوب توجههم نحو جماعة أو أخرى قبولا أو رفضا، والتعصب طبقا لهذه النظرية لا يكون بسبب الاختلاف في اللون أو العرق، ولكن لما يتضمنه هذا الاختلاف من توقع اختلاف في الاعتقادات والقيم والمبادئ والحالة الشعورية واللاشعورية التي يؤمن بها الآخر المتعصب(17).

 

وفي الحقيقة، لكل من هذه النظريات قدرة تفسيرية ما محدودة، ولكل منها نقد علمي أو معرفي موجه لها، ويصعب إيجاد سبب واحد فقط يفسر التعصب، فلكل تعصب ظروفه الاجتماعية والنفسية والأسرية والفكرية، ولا بد دوما من إطار تفسيري شامل لمثل هذه الاضطرابات.

 

مقاومة التعصب: كيف نقلّل من تعصبنا لجماعاتنا؟

Team of happy young business women sitting around office table, discussing ideas, sharing funny stories and laughing. Group of smiling company employees talking and having fun in corporate meeting

1- تخبرنا الدراسات النفسية أن الاتصال المباشر بين الجماعات يُسهم في تقليل الأفكار النمطية والمعتقدات الخاطئة عنها، وأن قلة الألفة وردود الأفعال السلبية العاطفية ضد من هم خارج المجموعة ليست خاصة بالمتطرفين بل هي موجودة في كل جماعة، وتثير اللقاءات عادة بين المجموعات المختلفة مشاعر القلق حول كيفية التقبل أو نقص المعرفة حول الآخر أو عدم الرغبة بالإساءة دون قصد، وهذا القلق يتجنبه الأفراد عادة بعدم اللقاء والانعزال ضمن مجموعتهم، والاتصال الودي قد لا يغير من المعتقدات النمطية، لكنه قد يخفف من المشاعر السلبية(18).

 

2- كما أنّ الترقّي بالدرجات العِلمية وتوسيع هامش العلوم الإنسانية يمكن له أن يقلل من ظاهرة التعصب، فالجامعيون عموما أقل تعصبا، وخصوصا الذين يدرسون العلوم الاجتماعية، حيث يتسع عندهم هامش المرونة والتحليل ولا يسلمون بالتعميمات الخاطئة. وتخبرنا إحدى الدراسات عن ارتباط العنف والتطرف بالهندسة، وأن نسبة 78% من متطرفي العالم الإسلامي أو ممن يحمل السلاح لتغيير المجتمع هم من أقسام هندسية، فالهندسة رقمية واضحة لا تفضل الغموض أو اختلاف النتائج، لكن ليست بالضرورة أن تكون الهندسة هي السبب الوحيد في صناعة التعصب أو الاتجاه السلبي، بل يشير البحث السابق إلى بؤر للتعصب في السياسة والعنف يقودها أناس من علوم إنسانية مختلفة، إذن ليست الهندسة هي المسؤولة عن ذلك، لكن ربما اجتماعها مع حاجة التغيير في المجتمع وتعثر المسارات السياسية والحزبية في بلد ما(19).

 

3- إن التغيير على المستوى الفردي شيء شاق وصعب، من تغيير ساعات العمل إلى تغيير النظام الغذائي أو السلوكيات غير المحببة أو الأفكار النمطية، وتستند المقاومة السلبية للتغير إلى عدة أسباب، لعل من أهمها العادات والتقاليد أو التفكير الجمعي الذي يؤثر على طريقة الغذاء مثلا والعمل والتسلية والمداواة وأسلوب التعامل مع الآخر، أي العادات التي تشكلت ضمن جماعة ما، والخوف من التفرّد وعدم موافقة الجماعة، يرتبط ابلخوف من أن يخسر الإنسان مكتسباته الاجتماعية أو الخوف من أن ينظر له أفراد الجماعة بصورة أخرى غير الصورة التي رسمها الآخرون عنه أو التي رسمها هو لنفسه أولا، وهذا ما يمكن أن نسميه بضغط المجموعة على الفرد.

 

إحدى الدراسات النفسية قام بها كورت ليفين، وهو عالم النفس الاجتماعي الألماني، حيث استشارته السلطات الأميركية بشأن بعض العادات الغذائية غير المُرضية اقتصاديا لها، وخصوصا مع دخولها الحرب العالمية الثانية 1943م، فبقايا الحيوانات المذبوحة كالأرجل والأكباد والكلى التي يمكن أن تؤكل عند شعوب أخرى كانت غير مرغوبة للشعب الأميركي، فدعت الحاجة الاقتصادية إلى التفكير بتغيير النظام الغذائي وما يؤكل وما لا يؤكل، فعمل كورت ليفين على المقارنة بين وسيلتين في علاج مقاومة التغيير السلبي عند ربات البيوت، فجرب في الأندية النسائية الدعوة إلى محاضرات عن القيمة الغذائية لهذه البقايا وأساليب طبخها وتقديمها، لكن هذه الطريقة لم تؤثر على زيادة الاستهلاك إلا بنسبة 3% على ربات البيوت، ثم جرب الدعوة إلى مناقشات، حيث كانت النساء بعد سماعهن ملخصا عن الموضوع يشاركن في النقاش والتعليقات وإلقاء الأسئلة، فارتفعت نسبة استهلاك تلك البقايا إلى 30%، أي 10 أضعاف النسبة الأولى(20). لذلك من المفيد في التغيير إنقاص المقاومة، فالمناقشة في التجربة السابقة سمحت لمن يلقي المحاضرة بوضع يده على التحفظات والعقبات التي تمنع من التغيير، لذلك كانت نتيجتها أفضل من الإملاء والإلقاء فقط.

 

4- التعلم التعاوني والمشاركة في القرارات ضمن الجماعة نفسها وضمن المدارس والجامعات يعزز من مقاومة التعصب، فعلى سبيل المثال هناك أسلوب تعليمي في أميركا اسمه "Jigsaw Classroom" يجبر الطلاب على التعلم التعاوني من خلال توزيع المهمة بين المتعلمين، كأن تقسم دراسة شخصية تاريخية بينهم، فلا يكتمل فهم تلك الشخصية إلا بتبادل المعرفة بين الطلاب.

 

وأخيرا، ما زالت الأبحاث والدراسات النفسية تحاول أن تضيف في ظاهرة التعصب والأفكار النمطية وعلاقتها بالجماعات، على أمل أن نشهد في المستقبل اختلافات صحية وطبيعية بين البشر لا تزدري الآخر ولا تبني صورا نمطية سلبية، كما لا تقلل من قيمة الاختلاف وأهميته.

—————————————————————————-

المصادر والمراجع:

1- Kerry Ferris, 2013,The Real World.

2- Sigmund Freud, 1949, Group Psychology and the Analysis of the Ego.

3- Paul Seager, Social Psychology – A Complete Introduction.

4- ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، تحقيق إبراهيم شبوح.

5-  Emile Durkheim, 1897, Suicide.

6- Mary Douglas,1970, Natural Symbols.

7- حمزة ياسين، أزمة المجتمع المحافظ: الجذور السوسيولوجية، مجلة الرشاد.

8-John M. Levine, Michael A. Hogg, 2010, Group Processes &Intergroup Relations.

9-David G. Myers, Exploring Social Psychology.

10- Karl Christoph Klauer Andreas Voss, Effects of Race on Responses and Response Latencies in the Weapon Identification Task.

11- Samuel e. Wood, Ellen Green Wood, Denise Boyd, Mastering The World of Psychology.

12- Ehrlick, H.(1973). The Social Psychology of Prejudice.

-13 سيغموند فرويد، قلق الحضارة، ترجمة: جورج طرابيشي.

14- هاني الجزار، أزمة في الهوية والتعصب دراسة في سيكولوجية الشباب.

15- معتز سيد عبد الله، الاتجاهات التعصبية.

16- أحمد زايد، 2006، سيكولوجية العلاقات بين الجماعات.

17- Bertram Gawronski, Cognitive Consistency in Prejudice-Related Belief Systems.

18- حامد عبد السلام زهران، علم النفس الاجتماعي.

19- Diego Gambetta and Steffen Hertog, Why are there so many Engineers among Islamic Radicals?

20- جان ميزونوف، دينامية الجماعات، ترجمة: فريد أنطونيوس.

المصدر : الجزيرة