كيف أتجاوز الماضي وأتصالح معه؟ علم النفس يجيبك عن هذا السؤال

كيف أتجاوز الماضي وأتصالح معه؟ علم النفس يجيبك عن هذا السؤال

تستلقي على سريرك بعد يوم طويل وشاق، وتستعد للخلود إلى النوم، لكن ما إن تغمض عينيك حتى تبدأ في استرجاع أحداث مؤلمة وقعت منذ زمن بعيد، تبدأ في رسم السيناريوهات المختلفة، ربما لو فعلت شيئا مختلفا لاتخذت الأمور مسارا مختلفا، أو ربما تفكر في علاقة سابقة سبّبت لك ألما لا يزال حاضرا حتى اليوم. تستسلم للنوم بعد ساعتين أو أكثر من التفكير المفرط، ثم تتكرر الحكاية في اليوم الذي يليه، وفي كل مرة تحاول تجاوز هذا الماضي والمضي إلى الأمام، يحاصرك ما حدث من كل حدب وصوب، ويستحوذ على تفكيرك. سواء كان هذا حدثا سيئا ما زال أثره، أو علاقة انتهت بشكل سيئ، أو غير ذلك، فإن هذا التقرير بمثابة دليل لفهم ما شعرت به، وما تشعر به، وما الخطوات التي يمكنك اتباعها لكي تتخطى ما حصل لك وتعيش حاضرا أقلّ ألما ومستقبلا أفضل.

 

ما يجب أن تعرفه

من الطبيعي أن نمرّ بتجارب سيئة أو أن نشعر بالحنين تجاه فترة زمنية معينة، ومن الطبيعي أكثر أن نشعر بالألم في بعض الأحيان عندما نسترجع ماضيا ما مررنا به، لكن على الجانب الآخر، قد نغرق في التفكير فيما حدث إلى حدّ أن ننسى الحاضر، ويستغرق هذا السفر الذهني وقتا يمتد إلى ما لانهاية، يشغلنا عن عيش اللحظة الراهنة والشعور بالحماس حيال أحداث مستقبلية. في سياقه العلمي، يُسمى هذا الفعل بالاجترار (Rumination). ولهذا السبب، تجد أن أحد أهم الأعراض التي يسعى العلم إلى مساعدتك على التعامل معها هو التفكير المستمر في الماضي، إذ إن التحكم في الأفكار التي تجتاح عقلك يُساعدك على التخلص من دوامة التفكير التي تأخذك إلى الماضي[1].

 

يحفز استرجاع الذكريات السيئة حضور مشاعر سلبية لحظية، قد ينقلب مزاجك وتشعر بضيق أو غضب حين تتذكر ماضيا قديما، وقد يبدأ جسدك في الاستجابة لهذه الأعراض؛ فيتعرّق جسدك، أو تتسارع نبضات قلبك، أو تشعر بآلام في معدتك. يُذكّرنا هذا باستجابة الكرّ والفرّ (Fight or flight) التي يستجيب لها جسدك حين تتعرض لموقف تشعر فيه بالتهديد والتوتر، وبالمثل هنا، يستجيب جسدك للضيق الذي يصيبك عندما تسترجع الذكريات السيئة.

remember bad past

بناء على ذلك، فإن اجترار هذه الذكريات واسترجاعها مرارا وتكرارا يفاقم الحزن الذي تشعر به ويُطيله، ويُولد على المدى البعيد اضطرابات في صحتك النفسية، أهمها القلق والاكتئاب، وهذا ما تؤكده الدراسات، إذ تشير إلى أن التفكير المستمر بالماضي والمتمركز حوله يرتبط برفاهية نفسية ورضا أقل عن الحياة على المدى البعيد، ومستويات أعلى من الاكتئاب لدى الفرد[2][1]. إن هذا الارتباط يُعد منطقيا، فالتفكير في الماضي غالبا ما ترافقه مشاعر سلبية عديدة، مثل الندم ولوم الذات والشعور باليأس، بل وحتى الشعور بالكراهية تجاه ذاتك القديمة: "لماذا تصرفت بهذا الشكل؟"، "كان بإمكاني أن أفعل هذا بدلا من ذاك"، وغيرها من الأفكار.

 

لا يتوقف أثر الماضي على استحواذ المشاعر السلبية على حاضرك ومستقبلك، إذ وُجد أيضا أن التفكير المتزايد في الماضي "متورط" برفع مخاطر الانتحار. قامت إحدى المراجعات بتحليل ١١ ورقة بحثية درست العلاقة بين الاجترار والانتحار أو التفكير به، وباستثناء دراسة واحدة، اتفقت جميعها على ارتباطه -أي الاجترار- بالسلوك والتفكير الانتحاري[3][4].

 

لماذا يُعدّ تجاوز الماضي خطوة صعبة؟

نتجاهل في أحيان كثيرة أن نواجه مشاعرنا تجاه مواقف حصلت في الماضي، ونعتقد أنها اختفت مع مرور الوقت، لكن هل ذهبت فعلا؟ لعلك سمعت سابقا بالتراكمات العاطفية (Emotional baggage). يصف هذا المصطلح المشاعر التي اختبرتها خلال تجاربك السابقة، والتي لا يزال أثرها حاضرا في حياتك حتى عندما اعتقدت أنها أصبحت أقل حدّة أو تأثيرا بمرور الأيام. تؤثر هذه التراكمات على جوانب حياتك المختلفة[5] دون أن تكون واعيا بها وبوجودها أحيانا، وذلك من خلال ما يلي:

 

كيف تُؤثّر التراكمات العاطفية والنفسية على جوانب حياتي؟

  • تصوراتك عن ذاتك وطريقة تفكيرك فيها

فقدان الثقة بنفسك وقدرتك على التعامل مع المواقف المختلفة، أو الشعور بالذنب الناتج عن أخطاء الماضي.

  • كيفية تعاملك مع التوتر والضغوطات النفسية

تصبح أكثر عرضة للاستجابة للضغوطات بشكل سلبي، وأقل قدرة على تحملها.

  • صحتك الجسدية

ربطت أبحاث عديدة بين التراكمات العاطفية وقابلية الإصابة بأمراض وآلام مزمنة.

  • علاقاتك بالآخرين

مشكلات في الثقة بالآخرين، وصعوبات في الالتزام، والخوف من الهجران، وغيرها.

 

على الجانب الآخر، وإن افترضنا وعينا بهذه التراكمات العاطفية، قد نواجه مشكلة في تقبّل هذا الماضي؛ وذلك لاعتقادنا بأن التقبل يجب أن يعني موافقتنا الضمنية على ظلم تعرضنا له، أو تجاوزنا لأذى سببناه لغيرنا، فنختار بدلا من ذلك البقاء في دوامة المشاعر السلبية تجاه هذا الماضي وعدم تقبلّه، ومن ثم عدم تجاوزه.

 

كيف أتجاوز الماضي؟

كيف أتجاوز الماضي؟

  • تقبَّل أنك لا تستطيع تغيير الماضي

عند الحديث عن الماضي، يُعدّ التقبل المفتاح السحري والخطوة الأولى. من الصعب أن تتجاوز أمرا لم تستطع أن تتقبله بعد. ففي حين أن الشعور بالألم والإحباط تجاه بعض تجارب الماضي هو أمر طبيعي، فإن الرفض المستمر -سواء بوعي أو بدونه- لحقيقة أن ما حدث لا يمكن تغييره، من شأنه أن يزيد من مدة وشدة اختبارك لهذه المشاعر، بل قد يستمر الأمر أعواما طويلة دون أن تُدرك مكمن الخلل وسبب عدم قدرتك على تجاوز ما حصل.

 

لقد بحثت إحدى الدراسات في العلاقة بين تقبل الماضي وعلاقته بجودة الحياة لدى كبار السن تحديدا (٥٠ عاما فأكثر)، باستخدام عدة اختبارات تقيس حدة الاكتئاب ومدى تقبل الماضي ومتغيرات أخرى، فكان ارتباط التقبل بالرفاهية النفسية إيجابيا، أي أن أولئك الذين كان تقييمهم لتجاربهم السابقة ينمّ عن تقبل لها، كانوا أكثر رضا عن ذواتهم، وأقل عرضة لاختبار مشاعر اليأس[6]. لكن تذكر أن تقبلك للماضي ليس كافيا وحده، هو مجرد خطوة أولى في رحلتك للتجاوز، إذ من المهم أن تتخذ خطوات لاحقة لمساعدتك في هذا الطريق.

 

من العلامات التي قد تعني عدم تقبلك للماضي، أن تقول أو تفكر بما يلي: 

أفكار وعبارات تكرّرها تعكس عدم تقبّلك للماضي:

أفكار تعكس عدم تقبgك للماضي

  • لا أُصدّق أن أمرا كهذا قد حدث.
  • من المفترض أن تسير الأمور بشكل مختلف.
  • لا أعرف ما الذي فعلته لكي تحدث كل هذه الأمور السيئة لي.
  • لا أعتقد أنني سأتمكن من تجاوز ما حصل أبدا.
  • هل كان عليّ أن أتصرّف بطريقة أخرى لكيلا يرحل؟

 

لا تدع ما حدث لك في الماضي يُعرّف مَن أنت عليه في الحاضر:

"أنا لست ما حدث لي، أنا ما اخترت أن أكون"

كارل يونغ

يقع الكثير منا في مغالطة مجحفة بحق أنفسنا، وهي أن نجعل ما حدث في الماضي يحدد من نحن عليه اليوم، بل قد نستمد قيمة أنفسنا من خلاله. لكن هذا التصور ليس صحيحا بالضرورة، إذ إننا ننمو ونتغير ونصبح أكثر نضجا مع مرور الوقت، لهذا لا يمكن أن يكون منصفا بحق أنفسنا أن نحكم -من خلال تصوراتنا الجديدة عن الماضي- على ذاتنا القديمة، بل إنه من الطبيعي أن نصبح أكثر نضجا بمرور الوقت وتقدمنا في العمر واختبارنا لمواقف مختلفة. يُخبرنا "إرفين يالوم" -أحد أهم المعالجين النفسيين- أن إدراك الإنسان لوجوده، وقدرته على تولي أمور حياته، يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على الفرد.

 

  • مارس تمارين التأمل بانتظام

لقد أثبت التأمل أنه أحد أهم السبل وأفضلها التي تساعد على تحسين الرفاهية والصحة النفسية للفرد والتحكم بأعراض العديد من الاضطرابات، وقد تتساءل هنا: كيف يُمكن لممارسة التأمل أن تساعدني على تجاوز الماضي؟ يساعدك التأمل على ضبط انتباهك وتحويله نحو التركيز على اللحظة الراهنة، ذلك أنك في كل مرة تمارس تمارين التأمل، تكون مجبرا على التركيز على اللحظة الآنية فقط، فتغادر الماضي الذي اعتدت على أن توجه جُل تركيزك إليه وتزور حاضرك، وفي كل مرة يصبح الخروج من دوامة الماضي والتركيز على اللحظة الراهنة أسهل شيئا فشيئا. إضافة إلى ذلك، فإن التأمل يهدف إلى فك التمحور حول الذات الذي يسببه الاجترار، والانتباه إلى ما يحيط بك. إن هذه المساحة الذهنية التي يقدمها لك التأمل تمكّنك من ملاحظة أفكارك بشكل أفضل، ومن ثَم تصبح أكثر قدرة على أن تتعامل معها، بدلا من أن تقوم بإلهاء نفسك عنها لحظيا لتعود لك لاحقا. قد يساعدك أن تتصور أنك خلال جلسة التأمل تغادر جسدك، وتنظر إلى الصورة الكبيرة التي ترى فيها أنماط التفكير التي تقع بها في كل مرة يسرق الماضي انتباهك، وتلاحظ أن الذي أمامك ليس الماضي، بل الحاضر والمستقبل[7].

 

  • لا تُبقِ أفكارك ومشاعرك لنفسك فقط

كيف أتجاوز الماضي؟

قد يكون من المفيد أحيانا أن تُخرج هذه المشاعر والأفكار حول الماضي من نطاق دواخلك إلى مساحة تشعر فيها بالراحة بينك وبين صديق تثق به، على سبيل المثال. إن هذه الخطوة التي قد تبدو بسيطة وليست ذات تأثير، بيد أنها تساعدك على إدارة مشاعرك وأفكارك تجاه التجارب السابقة بشكل أفضل[8].

 

  • اطلب المساعدة المختصة إذا شعرت أنك بحاجة إليها

أحيانا قد تكون على معرفة بكل خطوات تجاوز الماضي، لكنك بحاجة للمساعدة في اتباعها والاستفادة منها. وهنا قد يُفيدك أن تستشير متخصصا يرشدك في هذا الخصوص[9]. على سبيل المثال، ذكرنا أن التقبل هو إحدى أهم الخطوات الأولى التي تحتاج إلى اتخاذها حتى تتجاوز الماضي، وبناء على ذلك، يساعدك العلاج النفسي المبني على التقبل والالتزام (Acceptance and commitment therapy) على التعامل مع أفكارك ومشاعرك تجاه الماضي من منطلق قبول أنك لا تستطيع تغييرها، لكنك تستطيع بالمقابل أن تلتزم بعادات وأفكار تزيد من مرونتك النفسية والعقلية[10].

 

  • التقبل (Acceptance): مواجهة المشاعر والأفكار المتعلقة بالماضي، والشعور بها، وعدم الهرب منها.
  • التجزئة (Cognitive defusion): مراقبة أفكارك وتجريدها من السياقات التي تضيفها تجربتك الشخصية لها.
  • رؤية الذات في سياقها (Self as a context): تعلُّم رؤية أفكارك بمعزل عن ذاتك وأفعالك.
  • الحضور الذهني (Being present): يتشابه هذا المكوّن مع مبدأ تمارين التأمل، تتعلم خلاله أن تصرف انتباهك عن أفكارك، وتُركّز على اللحظة الحالية.
  • القيم والمبادئ (Values): إعادة توجيه اهتمامك وتركيزك من أحداث الماضي إلى أهدافك وخططك الحاضرة والمستقبلية.
  • الالتزام (Commitment): البدء بتغيير أفعالك بناء على ما حددته وتعلمته في المكونات السابقة.

 

إضافة إلى ذلك، فإن أحد أفرع العلاج النفسي السلوكي يُسمى العلاج النفسي السلوكي المرتكز على معالجة الاجترار (Rumination-focused CBT)، يُعرّفك على أهم الخطوات وأكثرها فاعلية في مواجهة سيل الأفكار التي قد تخطر لك بين الحين والآخر. للتدليل على ذلك، قامت إحدى التجارب بمقارنة معدل الاستجابة الإيجابية لدى مجموعة من المرضى عند تقديم العلاج النفسي التقليدي فقط، مقارنة بمعدله عند إضافة هذا الأسلوب من العلاج السلوكي، فوجدت أن معدل الاستجابة لديهم كان أعلى في الحالة الثانية بمعدل 62%، وذلك مقارنة بمعدل تحسن 12% لدى تقديم العلاجات المعتادة فقط[1]. تذكّر أنك لست وحدك من يحارب لأجل تخطي الماضي، ولا عيب في طلب المساعدة المختصة إذا كان الماضي يعيقك عن أن تعيش حاضرا أفضل.

 

أدوات مساعدة

  • جدول إعادة بناء الأفكار (Restructuring Thoughts Worksheet)

 

  •  كتاب "Keep Pain in the Past"

في هذا الكتاب، يُقدم المعالجان النفسيان "كريس كورتمان" و"جوزف والدن" نصائح تعينك على مواجهة التراكمات العاطفية التي تحملها من ماضيك، وخطوات لمساعدتك على التحرر من صدماته، وعيش حياة لا يطاردها شبح الماضي.

 

  • تطبيق هاتفي لممارسة التأمل

تطبيق توازن: يوفر تطبيق "توازن" جلسات قصيرة باللغة العربية يمكنك الاستماع لها.

تطبيق توازن

  • خطوات تمرين التأمل الذهني[11]

يمكنك اتباع الخطوات الآتية لممارسة التأمل الذهني: 

  • استرخِ في مكان جلوسك وأغمض عينيك
    اِبقَ جالسا بضع دقائق، استشعر حركة تنفسك وركّز عليها.

 

  • استرجع الموقف الذي حدث في الماضي وما زال يؤلمك
    ماذا كان هذا الموقف؟ ومتى حدث؟ ومَن كان بصحبتك؟ وما المشاعر التي يستثيرها تذكره؟

 

  • لاحظ أول فكرة تخطر لك عند استرجاع هذا الموقف
    كيف تُعرّف هذه الفكرة؟ هل تلوم شخصا من الماضي، أم تُحمّل نفسك المسؤولية؟

 

  • ركزّ على تأثير هذه الفكرة على جسدك
    هل انعكس شعورك تجاه أفكارك على جسدك؟ هل تشعر بالضيق أم بالراحة؟ راقب التأثير الجسدي عدة دقائق.

 

  • عُدْ إلى التنفس
    ركّز كل انتباهك على مراقبة أنفاسك.

 

  • افتح عينيك، دوّن كل الأفكار التي طرأت خلال جلسة التأمل
    ما شعورك الآن؟ ما الأعراض الجسدية التي لاحظتها؟ ما الأفكار التي خطرت لك وأنت مغمض العينين؟

—————————————————————-

المراجع:

[1]  “Reflecting on rumination: Consequences, causes, mechanisms and treatment of rumination,” (2020)

[2]  “Time Perspective and Correlates of Wellbeing,” (2008)

[3]  “A Systematic Review of the Relationship Between Rumination and Suicidality,” (2008)

[4]  “Global and reflective rumination are related to suicide attempts among patients experiencing major depressive episodes,” (2021)

[5]      “Psychological Well-Being and Physical Health: Associations, Mechanisms, and Future Directions,” (2017)

[6]  “Poor Acceptance of the Past is Related to Depressive Symptoms in Older Adults,” (2020)

[7]  “Cultivating multiple aspects of attention through mindfulness meditation accounts for psychological well-being through decreased rumination,” (2015)

[8]      “Putting feelings into words: affect labeling disrupts amygdala activity in response to affective stimuli,” (2007)

[9]  “How to let go of the past: Tips for relationships, regret, and trauma.” https://www.medicalnewstoday.com/articles/how-to-let-go-of-the-past#resentment

[10]   “Acceptance and Commitment Therapy (ACT): Definition, Techniques, and Efficacy.” https://www.verywellmind.com/acceptance-commitment-therapy-gad-1393175

[11]    “A Meditation for Decentering Your ‘Self’(And Why You Should Do It) – Mindful.” https://www.mindful.org/a-meditation-for-decentering-your-self-and-why-you-should-do-it/

المصدر : الجزيرة