موعد في المهجر

وديع سعادة

تستضيف الحلقة الشاعر المعدود من بين أهم الشعراء العرب المعاصرين ومدير تحرير جريدة النهار وديع سعادة، والذي عمل منذ أن وصل إلى أستراليا في جريدة النهار والتي تعنى بالإعلانات وتغطية نشاطات الجالية.
‪وديع سعادة‬ وديع سعادة
‪وديع سعادة‬ وديع سعادة

[مقطع  شعري لوديع سعادة] 

شبطين 1968..

أبي هيكل عظمي محروق..

 يسند ركبتيه بيديه..

وكنبة يخرج منها الدخان..

على المائدة سمكة غير ملموسة..

قنينة فارغة..

ورقة لوز أمام الباب..

كنت أزن 40 كيلو..

مع الورقة التي كنت أكتب عليها الشعر..

40 كيلو مع ابتسامتك..

مع نظرتك..

مع يدك على كتفي..

40 كيلو مع دخانك…

تعليق صوتي: هذا العربي لا موت له في هذه المقبرة بمدينة سيدني الأسترالية، فما باله يزورها ويجوس فيها مستغرقا، ويطيل المكوث؟ هذا الكهل الذي تغِير عيناه بالغموض الحزين، لا يخاف الموت، لقد عاشره سني حياته كلها، حتى زالت كل حواجز التكليف بينهما، بعد أن صار يعرفان أن لا مهرب لأحدهما من الآخر، يزور وديع سعادة المقبرة لينظر إلى عيني الموت مباشرة دون ستائر الجهل التي تلقيها بينهما الحياة الصاخبة بالخارج، ولكنه لا يسعى الآن لفهم الموت، ربما حاول ذلك في يفاعته حينما فجع بأبيه المحترق على كنبته التي يتصاعد منها الدخان..

ذكريات مؤلمة في فترة الطفولة

وديع سعادة: أنا تلقيت دروس الابتدائية بمدرسة الضيعة بشبطين، بيتنا كان على تلة بقلب شبطين بس اسمه يعني ظهر الأطلب، حي من حي الضيعة، والمسافة ما بين بيتنا والمدرسة في حوالي نص ساعة مشي بالحرش بالوادي، وبنرجع نطلع أو كنت بالشتا مثلا نروح تحت الشتا مشي ونرجع مشي، بالصيف، المهم أنه من بعد ما خلصت المرحلة الابتدائية نزلت أنا وأمي على الباترون، بيّه ظل بالضيعة بالبيت، في الباترون استأجرنا بيت دغري على البحر كان الموج يجي على القناطر، يعني كان البحر واحد من أهل البيت، في نهار وأنا وراجع من المدرسة، كنا نمرق على بيت عمي وأنا ومارق هيك من بيت، من حد بيت عمي ما بسمع إلا عمي بعيط يا وديع يا وديع، بيّك احترق، مات، يعني أنا صرت امشي ومش عارف الطريق كيف عم ترتج فيّ، وحالف عن المفاجأة اللي فاجئني إياها عمي "بّيك احترق مات" هيك دغري، تركت أثر عميق ورافقني هل أثر هذا يعني بحياتي وبشعري..

[مقطع شعري لوديع سعادة] 

في هذه القرية..

تنسى أقحواناتُ المساء..

مرتجفةً وراء الأبواب..

في هذه القرية التي تستيقظ لتشرب المطر..

انكسرت في يدي زجاجة العالم..

وديع سعادة: وقت الدفن كنت أنا بعدني كنت بعدني عمري 14 سنة، أنا حزين قاعد ما حدا قلي أنه روح شوف العب مع الأولاد أو شي، ظلوا في عندي مقطع صغير بدي أقوله:

 وظلوا يحدقون بي..

حتى طالت قامتي..

وحملت معهم الجثمان إلى القبر..

بداية تجربته الشعرية

صرت يعني اكتب إلى حين يعني أنه صارت الكتابة بالنسبة إليّ نوع من الغذاء اليومي، كنت اكتب شعر عمودي، كنت بعدني ما أني نازل على بيروت، في نهار يا عمي هالشعر العمودي هيدا الأوزان والقافية هيدي بتقيد الشعر بتقيد الشاعر نوع من القيود، وبالنهاية ما أني شايف في إلها يعني هيك الأهمية يعني، ألفين سنة العرب يكتبوا بنفس الـ.. يعني صارت الوزن والقافية يغطي على جودة الشعر، في نهار صرت أتمشى على هالصيحة قدام باب بيتنا بشبطين، أتمشى بدي خزقهم كلهم سوى هالشعر العمودي هيدا اللي كاتبه وبدي اكتب شعر غير مقيد بشي، شعر حر، لأنه الشعر هو عبارة عن الحرية، فمن بعد شي ساعة تمشاية خزقتهم كلهم وبلشت اكتب شعر نثري، وظل في عندي قلق انه هالقارئ هيدا كيف بده يتقبل هالنوع من الشعر، إلى أن نزلت في سنة 1968 إلى بيروت وتعرفت، عرفت أنه في مجلة اسمها "مجلة شعر" وتكتب، بيكتبوا هذا النوع من الكتابة يعني قصيدة في النثر، فساعتها اطمأنِت وصار في عندي ثقة زيادة بذاتي، أنه هالشعر الخالي من الوزن والقافية يعني أنا خياري وقت اللي  كنت بشبطين ما كان خيار خطأ في بيروت أصدرت  كتاب اسمه " ليس للمساء إخوة"، كان بخط يدي ومثل خريطة بتفتحها القصائد بكل صفحة بتفتحها بتصير مثل خريطة مكتوب على الوجه والقفا، ليت للمساء إخوة بعته بالشارع، بشارع الحمرا وقدام كلية الآداب ببيروت، ليش بعته بهالطريقه هذه؟ لأختبر نظرة الناس إلى الشعر والى الشاعر، أنه كيف بتعاملوا إذا واحد عم ببيع شعر أنه شو نظرتهم.

ما ميزه عن غيره من الشعراء

تعليق صوتي: يعد مؤرخو الحركة الشعرية العربية في القرن العشرين تجربة وديع سعادة الرائدة ببيع ديوانه الأول يدا بيد إلى قرائه أواخر الستينيات حدثا مؤسسا لتغير نوعي في الوهم العربي بالشعر والشعراء، هؤلاء الذين طالما نُظر إليهم على أنهم كائنات فوق بشرية بمعنى من المعاني، ولكن منذ  وقف وديع سعادة بقلب شارع الحمرا البيروتي الشهير ملوحا بديوانه المكتوب بخط اليد صار الشاعر واحدا من الناس، ووديع سعادة لم يتردد في تكرار التجربة ولو بعد أربعين عاما ولكنة يكررها وهو هنا في سيدني الحافلة بالحركة والتنوع، يكررها بمنطق العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فلم يعد مجديا الآن الوقوف في شارع مهما كان مزدحما لبيع الشعر، الحكمة تقضي بالوقوف في أكبر ميدان شكلته الحضارات الإنسانية منذ بداية نشوئها، ميدان اسمه شبكة الانترنت، الشاعر المعدود من بين أهم الشعراء العرب المعاصرين نشر بأنه الأحدث تركيب آخر لوديع سعادة على شبكة الانترنت ليكون متاحا للجميع مجانا، ولم يكتف بذلك بل أعاد في ذات الموقع نشر دواوينه التسعة الأولى لتكتمل أعماله الكاملة على الشبكة أقرب وأقرب إلى الناس كل يوم..

وديع سعادة: مبسط في شارع الحمراء، مبسط أمام كلية الآداب قرب بائع فستق سوداني أبيع " ليس للمساء إخوة" وبعد ذلك المعامل في أستراليا النهوض في الرابعة صباحا، وانتظار الباص، والوقوف تسعة أشهر أمام آلة في مصنع هولدن لجمع تذكرة العودة إلى بيروت، ثم 1975 وحقيبة أمشي بها بين قرية وقرية بائعا الإسعافات الأولية للمسنين، قوموا نبحث عن مقهى آخر، down town بناء حجري جميل فيه كراسٍ تطل على البحر، نجلس ونضع أصبعين على البار، وداعا إني أشيخ.. معي في صدري ضلوع ضعيفة كانت ترغب يوما أن تلعب الجمباز، معي رأس بكامل تجاويفه، معي يدان صامتتان أرافقهما كل النهار، ثم نتصافح ونذهب إلى النوم، ماذا يفعل كسول على مدى أربعين عاما بهذه الأعضاء؟

[فاصل إعلاني]

وديع سعادة: في قبرص بنقوسيا صار لي عرض شغل بمعاش مغري جدا، وكان في عندي طفلين ريان ورواد، والحرب اللبنانية والى آخره، فسألت نفسي قلت شو الأفضل إني ورث أولادي، أورثهم مال أو أورثهم وطن يحترمهم؟ اخترت الخيار الثاني، عملنا الهجرة على أستراليا وبـ 23 تشرين الثاني سنة 1988 كان خيّ هون، جورج اسمه ناطرنا أنا وعيلتي بمطار سيدني، كان في عندي ولدين ريان كان عمره سبعة سنين وقت وصل لهون رواد كان عمره ثلاث سنين وخلقت هون بنتي رنا، طبعا يعني عملية الاستقرار للمهاجرين عملية صعبة، لاسيما المهاجرين يلي بيجوا مثلما بقولوا عم بلولحوا بأيديهم ما في معهم رأس مال كافي، اشتغلنا دغري يعني ما طولنا أنا بالصحافة ومدامتي كذلك اشتغلت، كانت للحقيقة مرحلة فعلا صعبة لأنه البداية من الصفر بدك تبلش من الصفر مع العائلة وبتعرف متطلبات العائلة وإلى آخره ولكن كانت الخدمات اللي بتقدمها الحكومة الاسترالية تساعد، في هالوقت أنا وقت اللي اجيت وقت 1988 كان في عندي أربعة كتب مجموعات أربعة مجموعات شعرية صادرة في بيروت، ليس للمساء أخوة اللي كنت أصدرته سنة 1973 أضفت إلى إله قصايد وصدر بكتاب سنة 1981، المياه المياه، رجل في هواء مستعمل، يقعد ويفكر في الحيوانات، ومقعد راكب غادر الباص، ليس للمساء أخوة بحكي عن العزلة والوحدة انه الإنسان حتى لو كان ما بين جمع يبقى وحيد، المياه المياه، أدخلت فيه الأسطورة ومسائل من التاريخ محوره الأساسي أنه التاريخ لا يتقدم، التاريخ يعود إلى الوراء يعني اللي بتقدم هو التكنولوجيا أما الإنسان فلا يتقدم، رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات، هذه بتحكي عن رجل قاعد عم يتأمل أنه شو عم بصير على هل أرض، مقعد راكب غادر الباص، هيدي بتحكي عن مأساة بيّه بتحكي عن الحرب وعن الموت وعن الهجرة وعن المنفى.

تعليق صوتي: لا يخدعنكم قول هذا الشاعر إن زجاجة العالم انكسرت في يده مبكرا جدا وأنه ما انفك يلملم شظاياها طيلة أربعين عاما، فوديع سعادة ليس مهزوما ولا يحب أن يلعب دور ضحية المقادير العمياء أنه رجل قوي علمه شظف حياته الأولى في لبنان أن يكون صلبا وأن تطول قامته في ساعة واحدة ليحمل نعش أبيه، وهو لا يحب أن ينظر إلى حياته الحافلة بالترحال بعيدا عن وطنه الأم لبنان على أنها فرار من تجاربه الأليمة هناك، ومن الفقر والتخلف والشقاق الذي لا ينتهي بين الطوائف بل هو يفضل النظر لاغترابه المزمن كقرار وجودي يستهدف منح نفسه وعياله وطنا حقيقيا معطاء وحياة جديرة بأن تعاش، وها هو وديع سعادة يجول في مدينته الجميلة سيدني مشاركا إياها الاحتفال مع كل استراليا بالعيد الوطني لهذه الدولة القارة الموافق لغرس العلم البريطاني للمرة الأولى على الأرض الاسترالية في السادس والعشرين من يناير عام 1988 لتعلن القارة كلها جزء من الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وهي ما تزال كذلك نظريا على الأقل، وها هو وديع سعادة يرقب زجاجة العالم الملونة بكل ألوان الحياة تلتئم.

العيش والتعايش مع المهجر

وديع سعادة: من وصولي إلى استراليا سنة 1988 اشتغلت بالصحافة جريدة النهار في فريق عمل مقسم الشغل يعني كصف كتصليح إلى آخره، هوني الجريدة العربية اعتمادها الأساسي على الإعلانات يعني صحيح أنه تأثرت بالانترنت والفضائيات مثل أي صحافة بالعالم وصحيح أنه هوني باستراليا نعاني من الصحافيين الـ Professional بالعربي إنما بظل دورنا هوني بالصحافة، تغطية النشاطات الجارية الريبورتاجات التحقيقات الآراء التي تكتب بأقلام لبنانيين وعرب هون بأستراليا، سنة 1993 بيتصل في جبران تويني الله يرحمه بدهم يعملوا بالنهار البيروتية ملحق الشباب، رحت على لبنان لمدة ستة أشهر وأصدرنا الملحق ملحق الشباب هونيك بلبنان وبعدين رجعت جيت هون على استراليا وكملت عملي بالصحافة بجريدة النهار كمان.

[مقطع شعري لوديع سعادة] 

لمسَ بابَ البيتِ وخرج

تاركًا على القِفْلِ بعضَ أنفاسِهِ

رآهُما ينظرانِ إليه:

القفلُ الذي كان يحبسُ خلفَهُ عُوَاءَ الليل

والبابُ الذي كان الصباحُ

يطلعُ من شقوقِهِ،

رآهُما يتحلَّلان ويعودان

يباسًا على الطريقِ وكتلةً صدِئَة

ورأى الحيطانَ ترجعُ إلى الجبالِ

أحجارًا وحيدةً وحزينة

والمَحْدَلَةَ على السطحِ تعودُ

صخرةً في غابةٍ بعيدة

والسقفَ الذي يَدْمَعُ دمعتيْن في الشتاء

يهطلُ مثلَ جُرْفٍ يائس.

 لمسَ بابَ البيتِ ورحلَ

تاركًا زهرةً في فتحةِ القفل

وفوقَ السطحِ غيمةً

من نظراتِهِ.

وديع سعادة: بهالوقت يعني خلال وجودي باستراليا ما انقطعت عن كتابة الشعر أصدرت ست دواوين هوني بس كلهم انطبعوا ببيروت، المحور الأساسي لشعري سواء الكتب اللي صدروا وأنا ببيروت أو الكتب اللي صدروا وأنا باستراليا المحور الأساسي هو الموت والاقتلاع من المكان، الموت سؤال الموت طرحت هالسؤال أنا بكير وقت اللي مات بيّي حريق وأتغذى هالسؤال هيدا مع الحرب اللبنانية والأسفار، أسفاري المتتالية وهجرتي خلتني أطرح سؤال المكان، الاقتلاع من المكان والبحث عن المكان، وبالنهاية أنا بعتقد انه المكان ما أنه مساحة جغرافية، المكان مساحة داخلية نأخذه معنا محل ما بنروح، يمكن لأني خلقت بضيعة وببيت سقفه تراب وأرضه تراب صرت أحب التراب، وهالمزروعات اللي عندي هون صحيح قليلة بس هي نوع من التعويض عن المزروعات اللي كانت عندي بالضيعة بشبطين وأكثر من هيك بتخليني أشعر بالانتماء للأرض بالانتماء للمكان اللي أنا عايش فيه، هون باستراليا مثل باقي الدول الغربية قليل ليشعروا بالانتماء بينما مثلا الفلاحين عنا بالضيع بشعروا أنهم منتمين لأرضهم وأنه هذا مكانهم.

تعليق صوتي: تقدم لنا تجربة وديع سعادة فضلا عن الشعر البديع المتدفق منها تقدم لنا حلولا عملية لانجراف نراه في دوامة الحياة المعاصرة التي لا تسمح لنا أبدا بالتقاط أنفاس العقل والروح وتذكر الأساسي في الحياة وهو أن نكون سعداء ما وسعنا ذلك، تعلمنا أن الإبداع علاج ناجع لعلل النفس مهما اشتدت قسوتها، فبالشعر قهر وديع الكآبة وتعلمنا أن الواحد منا يرحل في المكان حاملا معه غلافا جويا شخصيا يخصه هو وحده ملئوه الذكريات والطموح والأحلام والقيم وهو قادر ببعض من صلابة الإرادة أن يطوع مكان اغترابه ليكون له ملاذا أمنا من مشقة السفر الطويل، وتعلمنا أن العودة للتراب الذي يتغزل فيه وديع لا تعني الموت بل الحياة لا تعني أن ندخله خانعين بل أن نستخرج منه قبل ذلك ما فيه من خير يمنحنا القدرة على الاستقرار ويعيد لنا التوازن الداخلي فالأرض رغم كل شيء لا تكف لحظة عن إنتاج الحياة وهزيمة الموت.