يقودها شباب ويغذيها الصراع بين فرنسا وبعض خصومها.. انقلابات غرب أفريقيا متحورات أم تحولات؟

Ten Malian soldiers killed in militant attack, army says
قائد الانقلاب العسكري في مالي عاصمي غويتا (وسط) إلى جانب عدد من القادة العسكريين الماليين (رويترز)

تعيش منطقة الساحل والغرب الأفريقي دورة جديدة من أزمة الحكم والتعايش الهش بين القصور والثكنات، زيادة على تصاعد أزمة التنافس على المنطقة بين قوى دولية متعددة.

بعض هذه القوى يعتبر المنطقة إرثا خالصا له منذ أكثر من قرن، ومنها الساعي إلى ترسيخ أقدامه بقوة في منطقة تعيش شعوبها تحت وطأة الفقر والعنف المسلح، وفوق أديم أرض ثرية بمختلف الخيرات والثروات المطمورة أو المنهوبة.

وفي السنوات الأخيرة تفاقمت أزمات الساحل الأمنية والسياسية والاقتصادية، وترافق ذلك مع انتقال شامل للسلطة في دوله الخمس إلى أجيال حكم جديدة، ولم يكن الانتقال سلسلا في الغالب، فباستثناء النيجر وموريتانيا فإن العسكر الساحليين استعادوا تشغيل ذاكرة الانقلابات والإطاحة بالأنظمة الهشة، التي نخرتها أزمات الأمن والتنمية المنهارة.

أي دول المنطقة شهدت مؤخرا تغيرا في هرم السلطة؟

شهدت مجموعة دول الساحل الخمس المعروفة بـ"جي 5″، والتي تضم كلا من موريتانيا وبوركينا فاسو ومالي وتشاد والنيجر، انتقالا متفاوتا في طبيعته وشكله على مستوى هرم السلطة.

وبينما استطاعت موريتانيا والنيجر الخروج من أزمة التداول السلمي إلى انتقال ديمقراطي يحترم على الأقل في شكله المدخل الانتخابي للوصول إلى السلطة، ترنحت الدول الساحلية الثلاث الأخرى بين انتقالات قسرية، أنتجتها أزمات عميقة، وأعقبتها أخرى.

ويبدو الانقلابان المالي والبوركينابي أبرز المتغيرات العنيفة في المنطقة، بعد اغتيال الرئيس التشادي إدريس ديبي إبنو، حيث دخل معهما البلدان منعطفا من شأنه أن يضاعف أزماتهما السياسية والأمنية.

وبسبب تأثيراته الداخلية الكبيرة، فإن الانقلاب في مالي لم يضف تعقيدا جديدا إلى الأزمة السياسية المحلية فحسب؛ بل تحول إلى أزمة إقليمية ودولية، بفعل الرهانات الجديدة للنظام المالي، وتأثير الدخول الروسي على المنطقة.

أما في بوركينافاسو فإن ما حدث أشبه بثورة عسكرية، داخل الدولة التي كادت تنهار بسبب تصاعد الصراع بين السلطة والجماعات الإسلامية المسلحة الناشطة بقوة في المثلث الحدودي الملتهب بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو.

لقد انضاف هذان الانقلابان إلى انقلاب غينيا كوناكري، وكادت غينيا بيساو تلتحق بالركب الانقلابي، قبل أن يتمكن أنصار الرئيس عمر سيسوكو إمبالو، من استعادة السيطرة.

ما أبرز سمات الانقلابات الجديدة في المنطقة؟

إن المتحور الجديد من وباء الانقلابات في أفريقيا يمتاز بعدة سمات مشتركة بارزة:

– صدور الانقلابات من كتائب القوات الخاصة: وهي ألوية عسكرية أقيمت دائما لمواجهة الإرهاب والتصدي للخطر الذي يحدق بالقصور، وتنطبق هذه السمة على الحاكم العسكري محمد إدريس ديبي، والعقيد عاصمي غويتا القائد السابق للقوات الخاصة، والمقدم مامادي دومبويا القائد السابق للواء القوات الخاصة بغينيا كوناكري، أما في بوركينا فاسو فإن القائد الجديد المقدم بول هنري سانداوغو داميبا هو أيضا قادم من القوات الخاصة، ومنها إلى قيادة اللواء الخاص بحماية العاصمة واغادوغو.

– جيل شبابي: ينتمي القادة الجدد للساحل إلى سن عمرية متقاربة، وتدور أعمارهم غالبا ما بين 35-45 سنة، وذلك في عودة إلى جيل الحكام الشباب الذي ظهروا في القارة الأفريقية وتحديدا في غربها خلال سنوات الاستقلال الأولى.

– العبور من الهاجس الأمني إلى السلطة: يستند القادة الجدد في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل إلى الملف الأمني باعتباره المدخل الأهم إلى السلطة، ويحمل هؤلاء الأنظمة المطاح بها المسؤولية عن الانهيار الأمني والضعف في توفير الدعم المناسب للقوات العسكرية المتصدية للإرهاب، أو العبور من الأزمة السياسية المتفاقمة، ليكون الانقلاب المنقذ المؤقت من انهيار الدولة.

– ما الذي يتميز به كل انقلاب على حدة؟

وإلى جانب هذه السمات المشتركة، فإن لكل واحد من الانقلابات أو القفزات العسكرية إلى السلطة، سمات خاصة يختلف بها عن نظيره الآخر، فقد كان وصول الجنرال محمد إدريس ديبي إلى الحكم في التشاد انقلابا عسكريا، سد به الفراغ السياسي والأمني بعد مقتل والده، ومكنه أيضا من القفز إلى السلطة، التي كان سيفقدها مباشرة لو سار الانتقال وفق مراسيم الدستور.

أما في مالي فإن الانقلاب العسكري قد جاء حسما للخلاف السياسي العميق الذي تصاعد منذ نهاية المأمورية الأخيرة للرئيس السابق إبراهيما أبو بكر كيتا، إلا أنه امتاز بمتغير آخر، هو تأثير العنصر الدولي عبر التدخل الروسي الذي كان ظهوره حاسما في خلط الأوراق وتوتير الأوضاع أكثر في المنطقة.

ويزداد تعقيد الانقلاب العسكري في مالي بما أضفاه من تأزم في العلاقة بين باماكو وحليفتها التقليدية باريس، لتتحول العلاقة بينهما من الوصاية والتحكم، إلى الصراع الذي تكلل أخيرا بطرد باماكو للسفير الفرنسي ردا على تصريحات رئيس الدبلوماسية الفرنسية.

أما في غينيا كوناكري فقد كان الانقلاب العسكري بديلا عن الأزمة السياسية التي أعقبت تمديد الرئيس المطاح به آلفا كوندي لولايته، وإعادة انتخابه رئيسا للبلاد، غير أن الانقلاب هنا يأخذ بعدا آخر، قد لا تغيب عنه أصابع فرنسا التي لم ترتح لتوجه كوندي إلى فتح علاقات ذات بعد اقتصادي وأمني مع خصومها الأتراك، ومنافسيها الصينيين الروس، بالتوازي مع رفع كوندي للهجته الناقدة دائما للوجود والنفوذ الفرنسي في أفريقيا.

ولا يخفى تداخل أبعاد السياسة والأمن والأصابع الخارجية في مختلف هذه الانقلابات، ولا يمكن إغفال تأثير أزمة كورونا (كوفيد-19) على هذه الأنظمة الأفريقية الهشة، حيث تضاعفت وتيرة الارتباك الاقتصادي، وحدة المظالم الاجتماعية، التي فاقمها إغلاق الحدود، مما حقق التنبؤات التي تحدثت عن إمكانية انهيار أنظمة هشة بسبب تأثيرات الجائحة.

ما تأثير الصراع الروسي الفرنسي في أزمات المنطقة؟

يحمل المتحور الجديد من أزمات منطقة الساحل وغرب أفريقيا البصمة الواضحة للصراع والتنافس القوي بين فرنسا والمتدخلين الجدد في المنطقة، وخصوصا روسيا التي تسعى جاهدة لترسيخ وجودها في المنطقة.

وتبدو مجموعة فاغنر الروسية الخاصة (مرتزقة) عنوان التأزم الجديد بين الغرب وروسيا بشكل عام على المصالح والنفوذ في أفريقيا، لقد استطاعت هذه المجموعة أن تكون جزءا مهما من الأزمة والحل في ليبيا وأفريقيا الوسطى، وها هي الآن تتصدر الحضور والفعالية في مالي.

ولا يمكن فهم الحساسية المفرطة التي عبرت عنها قوى غربية متعددة، على رأسها فرنسا، من الوجود الروسي إلا من خلال حجم المصالح والمتغيرات التي سيحققها في مالي وجود حليف قوي مثل روسيا، التي يرى البعض أن حضورها يتعزز بالتضامن والتكامل مع حليفها التقليدي والمناوئ غالبا لفرنسا وهو الجزائر.

وتتقدم روسيا بشكل خاص في الملف المالي عبر البوابة الأمنية، من خلال مساعدة باماكو على إعادة السيطرة على الأراضي التي تسيطر عليها الجماعة المسلحة، وتقديم الدعم اللوجستي والاستخباراتي الذي أثبت نجاعته بقوة في تعقب قادة نوعيين في التنظيمات المقاتلة، وخصوصا جماعة ماسينا بقيادة آمادو كوفا التي تعتبر الحربة الأقوى الآن في مواجهة باماكو.

ما الخطوة المنتظرة من فرنسا ردا على تراجعها في الساحل؟

لا يتوقع أن تستلم فرنسا للأمر الواقع في الساحل، بما يعنيه ذلك من تضرر مصالحها الاقتصادية والأمنية، ففرنسا كما يقول رئيسها الراحل جاك شيراك "من دون أفريقيا ستكون فرنسا جزءا من العالم الثالث".

ولهذا فإن الدول "المارقة" على النفوذ الفرنسي، وخصوصا مالي، ستكون في مواجهة انتقام متعدد الملامح، ولن يكون آخرها ملف الحصار الاقتصادي، فمن غير المستبعد أن تدفع فرنسا إلى تأزيم الوضع الأمني في المنطقة، عبر أذرعها المتعددة، مما سيؤدي إلى إنهاك نظام باماكو الجديد وجره إلى طاولة المفاوضات، إن لم تتمكن من جره بوسائلها التقليدية خارج السلطة.

المصدر : الجزيرة