طردت سفيرها وانخرطت في مواجهة معها.. مالي تخرج عن الطوق الفرنسي فكيف ستثأر باريس؟

السفير الفرنسي لدى مالي جويل ميير خلال استقباله من قبل رئيس المجلس العسكري الحاكم أسيمي غوتا المصدر: مواقع الواصل الرابط: https://www.facebook.com/Presidence.Mali/photos/pcb.4755681601117961/4755677714451683/
السفير الفرنسي لدى مالي جويل ماير (يسار) خلال استقبال سابق له من قبل رئيس المجلس العسكري الحاكم آسمي غويتا (التواصل الاجتماعي)

غادر السفير الفرنسي في باماكو جويل ماير الأراضي المالية مطرودا بعد أن قطع قائد الانقلاب العسكري في مالي آسمي غويتا الشك باليقين وأمهله 72 ساعة لمغادرة البلاد، في تطور بالغ السوء في العلاقات بين فرنسا ومستعمرتها السابقة التي حملت لعقود كثيرة اسم "السودان الفرنسي".

خرج حكام باماكو الجدد عن الطوق الفرنسي، وغيروا لهجة الخطاب إلى المطالبة بمراجعة الاتفاقيات التاريخية مع فرنسا والتي رأوا أنها تنتقص بشكل كبير من سيادة مالي.

لا سابقة لهذه الخطوة في تاريخ العلاقة بين فرنسا ومالي، ولا يعرف لها سابقة أيضا في منطقة الغرب الأفريقي التي تجثم فرنسا -بنسبة كبيرة- على قرارها السياسي وثرواتها منذ عقود من الزمن كما يقول عدد من أبنائها، لكنها تنسجم مع موجة غضب شعبية واسعة تجاه فرنسا التي يسميها بعض الماليين "الشيطان الأكبر".

مالي الجديدة تستند إلى "حماس متوقد" لجيل شبابي من العسكر الذين أطاحوا بالرئيس السابق المرحوم إبراهيم أبو بكر كيتا، وانطلقوا في رهانات سياسية ودولية مثيرة للجدل، وسط عواصف دبلوماسية وسياسية عاتية.

اختار كبير الدبلوماسية المالية عبد الله ديوب إبلاغ السفير الفرنسي القرار بشكل مباشر، فاستدعاه إلى مكتبه وطلب منه حزم حقائبه وتجهيز نفسه لمغادرة مالي خلال 72 ساعة، وذلك ردا على تصريحات لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان قال فيها إن المجلس العسكري في مالي "غير شرعي ويتخذ إجراءات غير مسؤولة"، وتصريحات أخرى لوزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي أكدت فيها أن الوجود العسكري الفرنسي في مالي لا يمكن أن يستمر تحت أي ظرف.

غضب أفريقي تحت سقف التذمر والمنافسة

تأتي خطوة طرد السفير الفرنسي في سياق واسع من الغضب والتذمر السياسي والشعبي تجاه فرنسا التي تتحمل في نظر كثير من الأفارقة مسؤولية تاريخية وواقعية عن أزمات القارة السياسية والأمنية والاقتصادية، فباريس -بحسب هؤلاء- داعم أساسي للانقلابات العسكرية التي أجهضت الديمقراطية الناشئة في القارة، كما أنها تتحكم بشكل تام في الاقتصادات الأفريقية، خاصة في منطقتي الفرنك الأفريقي في غرب ووسط أفريقيا، زيادة على نهبها المباشر للثروات الأفريقية في أنحاء متعددة، خصوصا في غرب القارة، كما يقولون.

وزادت حدة الغضب الأفريقي تجاه باريس مع إخفاقها المتزايد في إحلال السلام والأمن بمنطقة الساحل التي تجوب أرضها وفضاءها كتائب وطائرات الجيش الفرنسي الذي يدير أكثر من عملية عسكرية في غرب ووسط القارة.

وإلى جانب مشاعر الغضب المتصاعدة تجاه باريس فإنها تواجه أيضا منافسة دولية متنامية، خاصة من روسيا والصين وتركيا، زيادة على التنافس التقليدي بين باريس وواشنطن على النفوذ ومصادر الثروة في القارة السمراء.

من التوتر إلى القطيعة.. من سيدفع الثمن؟

بدأ مسار التوتر بين فرنسا والانقلابيين الماليين مند الأيام الأولى للإطاحة بإبراهيم أبو بكر كيتا، فالوجوه الجديدة التي صعدت إلى قمرة القيادة ليست من التابعين لفرنسا، بل إن أغلبهم قادمون من دورات تدريب في روسيا التي لم يطل انتظارها، ليكونوا بعد أشهر قليلة أحد أهم الفاعلين الدوليين في مالي ومحور كل النقاشات.

حاولت فرنسا التعامل مع الأمر الواقع، خاصة أن الانقلابات في أفريقيا جزء مألوف من يوميات باريس، لكن من غير المألوف أن ينفذ انقلاب دون التنسيق معها.

استدار حكام باماكو عن الحضن الفرنسي باتجاه روسيا، وأبرموا اتفاقيات غير معلنة سمحت بانتشار فعلي لقوات فاغنر الروسية في الأراضي المالية حسب تصريحات غربية.

لم يتأخر الرد من طرف فرنسا وحلفائها في المنطقة، حيث تحول التلويح بالعقوبات إلى الشروع الفعلي فيها، خاصة المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا التي قررت حصار مالي وإغلاق حدودها وأجوائها أمامها، وهو ما باركته فرنسا بسرعة وبدأت دول الاتحاد الأوروبي في العمل بمقتضاه.

وتملك فرنسا أوراق نفوذ متعددة في مالي، من بينها على سبيل المثال:

– الوجود العسكري على أرض الواقع، حيث ينتشر آلاف الجنود الفرنسيين في مختلف الأراضي المالية، إضافة إلى شبكة من الاستخبارات تعزز الحضور العسكري.

– علاقات وطيدة مع النخبة العامة في البلاد، خاصة في مجالات السياسة والأمن والمال والأعمال، حيث ظلت فرنسا القبلة التكوينية الأهم للنخب المالية.

– علاقة قوية ومؤثرة مع كثير من الحركات السياسية والمسلحة المناوئة للحكومة المركزية في مالي.

– التأثير القوي في عدد من دول الجوار، خصوصا دول المنظمة الاقتصادية لغرب أفريقيا.

وتعزز هذه الأوراق قدرة فرنسا على "إزعاج" المجلس العسكري الحاكم في مالي، وتقويض توجهاته في بسط السيطرة على كامل الأراضي المالية.

فرنسا.. خيارات محدودة أمام غضب متصاعد

ورغم الأوراق العديدة التي تملكها فرنسا تقليديا في مالي فإنها تبدو في الوقت الحالي أمام خيارات محدودة بشأن التعاطي مع ما وصف من طرف البعض بالإهانة أو الصفعة التي وجهها لها انقلابيو مالي، خاصة أن القرار المالي جاء في خضم التحضير لانتخابات رئاسية وشيكة في فرنسا، مما سيفرض مستوى من التريث قبل الإقدام على خطوة حاسمة، ومن أبرز هذه الخيارات:

– التصعيد والمواجهة: من خلال الرد بالمثل وطرد السفير المالي، وإعلان القطيعة مع باماكو، بالانسحاب الكامل للقوات والمسؤولين الماليين، وترك السلطات الجديدة في مالي تواجه غضب المتمردين والجماعات الإسلامية المسلحة، ويبدو هذا الخيار مستبعدا، فأقدام باريس غارقة في الوحل المالي منذ فترة، والآفاق الاقتصادية والأمنية لوجودها في مالي تفرض عليها تدبير الموقف أو الانحناء النسبي للعاصفة.

– مواصلة الضغط السياسي والاقتصادي: وذلك عبر المنظمة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والاتحاد الأوروبي وغيرهما من خلال الرهان على الزمن واستنزاف قدرة النظام المالي على مواجهة الحصار.

– الحوار مع الانقلابيين: إما بشكل مباشر أو عبر وسيط، وتملك فرنسا عدة منافذ للحوار مع الانقلابيين عبر موريتانيا والسنغال والمغرب، ولا يبدو هذا الخيار مستبعدا، لأنه قد يسهم في تخفيف التوتر ويحقق لفرنسا الحفاظ على حد مقبول من مصالحها في القارة.

– الدفع بانقلاب عسكري جديد: عبر أذرعها المتعددة في الجيش والسلطة المالية، وهو خيار ينتمي إلى الأدبيات الفرنسية التقليدية في المنطقة كما يقول متابعون للشأن الأفريقي، ومن غير المستبعد أن تقدم عليه باريس إذا تسارعت وتيرة التصعيد والقرارات الأحادية التي يمارسها حكام باماكو في مواجهة الحليف التقليدي والمستعمر السابق (فرنسا).

خيارات حكومة مالي

أما الحكومة المالية التي تستفيد من غضب شعبي متصاعد في مالي ضد فرنسا ووجودها العسكري الذي استنفد أكثر من 9 سنوات دون أن يحقق تهدئة وسلاما على أرض الواقع فإنها تملك ورقة الداخل والإسناد الشعبي الواسع، كما تملك ورقة الظهير الروسي الذي يمثل بالنسبة لها سندا قويا وفعالا وحريصا على توطيد وجوده في الساحل.

يضاف إلى ذلك موجة الانقلابات الأفريقية التي عززت موقف الانقلابيين الماليين وأظهرت التناقض الفرنسي في التمييز بين الانقلاب المالي والانقلابين الغيني والبوركينابي.

كما أن وجود الطيف السياسي الفرنسي في حالة استنفار انتخابي يمنع من اتخاذ قرارات حاسمة ونهائية تجاه مالي، ومن شأن ذلك أن يوفر -هو الآخر- فرصة مهمة للانقلابيين لتسريع وترسيخ وجودهم ورهاناتهم الدولية الأخرى.

ماذا بعد؟

من الصعب التكهن بالخطوة الموالية، خاصة أن سقف الحكام الجدد في مالي يرتفع مع كل خطوة جديدة، حيث انتقل من المطالبة بمراجعة الاتفاقيات المبرمة بين البلدين خلال سنوات الاستقلال إلى طرد السفير الفرنسي وإعلان مستوى من القطيعة.

ومن المؤكد أن عودة السفير الفرنسي لن تكون قريبة، وستكون -إن حدثت فعلا- نتيجة مفاوضات شاقة بين الطرفين أو تغير جذري في المواقف والمواقع، إن لم تكن نتيجة انقلاب فرنسي ينفذه أنصار باريس في مالي ضد أنصار موسكو.

المصدر : الجزيرة