الذكرى المئوية لتأسيس أيرلندا الشمالية.. برميل بارود مهدد بالانفجار في المملكة المتحدة

تكشف أعمال الشغب الأخيرة عن أن الحزازات ما زالت حاضرة بقوة بين الجمهوريين والوحدويين ولا تحتاج سوى إلى عامل محفز حتى تطفو على السطح من جديد.

هجوم قبل نحو شهر بالزجاجات الحارقة على الشرطة في بلفاست من قبل شباب مناهضين لبريطانيا (الفرنسية)

"إذا أشعلنا خصاما بين الماضي والحاضر فسوف نفقد المستقبل"، هذه المقولة للزعيم البريطاني ونستون تشرشل تلخص الوضع الذي تعيشه جزيرة أيرلندا، بشقيها الجمهوري والوحدوي، فبعد قرن على تقسيمها وتأسيس أيرلندا الشمالية ما زال التاريخ يهدد بفقدان المستقبل، إذ أظهرت أعمال الشغب الأخيرة أن هذا الجزء من المملكة المتحدة يمثّل برميل بارود قابلا للانفجار في أي لحظة.

وتلبّدت سماء مدينة بلفاست عاصمة أيرلندا الشمالية بأدخنة الإطارات المحترقة التي أشعلها شباب محتجون، والغازات التي أطلقتها الشرطة.

وتعود أعمال الشغب هذه إلى عاملين رئيسين، أولهما غضب الجناح النقابي من مخرجات البريكست، ووضع نقاط تفتيش بحريّة بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، والثاني رفض متابعة عدد من حزب "شين فين" الجمهوري بعد مشاركتهم في جنازة أحد أعضاء الجيش الجمهوري الأيرلندي وخرقهم قواعد التباعد الاجتماعي.

وتكشف هذه الأسباب عن أن الحزازات ما زالت حاضرة بقوة بين الجمهوريين والوحدويين ولا تحتاج سوى إلى عامل محفز حتى تطفو على السطح من جديد، مهددة بضرب اتفاق الجمعة العظيم الذي أقرّ السلام في الجزيرة الأيرلندية منذ 3 عقود، بعد صراع دموي أودى بحياة 3500 شخص.

حرب السرديات

وتكفي جولة سريعة عند تقاطع الطرق بين أحياء المقاطعات الوحدوية الموالية لبريطانيا والجمهورية المؤيدة للوحدة مع جمهورية أيرلندا، لاستيعاب حجم الهوة السحيقة بين الطرفين، وكيف أن لكل جزء من الجزيرة سرديته للتاريخ، فالوحدويون مصيرهم وتاريخهم كان دائما تحت ظل العرش البريطاني، ولهذا تراهم يجتهدون في رسم صور الأسرة الملكية وأعلام المملكة في شرفات النوافذ.

أما الجمهوريون فيصرّون على رفع علم أيرلندا الشمالية، معتبرين أن هذه المنطقة جزء محتل من أراضي أيرلندا الحرة، ولا عجب إذن أن أعمال الشغب الأخيرة التي أدّت إلى جرح نحو 90 من رجال الشرطة تركزت في هذه المنطقة ذات الحساسية العالية.

وفضلا عن ذلك هناك عامل الاختلاف في المذاهب، فبينما يعتنق أغلب سكان أيرلندا الشمالية المذهب البروتستانتي، وهو مذهب المملكة الذي أقرّته الملكة إليزابيث الأولى في القرن 16، يتمسك الآخرون بالمذهب الكاثوليكي في جمهورية أيرلندا.

أما جدران السلام التي تفصل بين الفريقين، والتي ظلت مفتوحة عقودا بعد إقرار السلام، ها هي تغلق من جديد بعد أعمال الشغب، في إشارة إلى خطورة الوضع الذي يتدحرج بسرعة نحو المجهول.

ويظهر الحذر على أبواب ونوافد بعض الأحياء الجمهورية القريبة من جدران السلام، حيث توضع سواتر لحمايتها من الحجارة والمقذوفات، مع شعارات معبرة ومؤثرة من قبيل "السلام من أجل أطفالنا"، "لا نريد عودة الدماء".

مواجهات بين الشرطة والمحتجين في بلفاست الشهر الماضي (الفرنسية)

خيانة البريكست

ولو كان من ريح نفخت في رماد التوتر الأيرلندي، فهي بلا شك رياح الانفصال البريطاني عن الاتحاد الأوروبي، التي أحيت كثيرا من الأزمات الصامتة، وحوّلت ملف الحدود البحرية إلى عقبة كأداء أمام الاتفاق بين لندن والاتحاد الأوروبي، وكادت أن تفضي إلى انهيار المفاوضات بين الطرفين أكثر من مرة.

وسبب الخلاف هو أن خروج بريطانيا يعني وضع حدود صلبة بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، حتى تبقى الجمهورية تابعة للاتحاد الأوروبي، لولا أن هذا الوضع ينافي مضامين اتفاق السلام العظيم الذي يقضي بمنع وجود أي حدود بين الجهتين، فما كان إلا اختراع مسألة الحدود البحرية.

ويقضي الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا بفرض ضوابط في موانئ أيرلندا الشمالية، بموجب نص سمي "البروتوكول الأيرلندي الشمالي"، وهو يواجه معارضة شديدة من الوحدويين الذين يرون هذا البروتوكول الخاص بمنزلة وضع لحدود بين أيرلندا الشمالية وبريطانيا.

ولا يخفي سكان أيرلندا الشمالية خيبة أملهم إزاء هذا الوضع، ويصفونه بالخيانة، والطعنة في الظهر وجهتها إليهم لندن، وهم الذين لا يفوتون فرصة لإظهار الوفاء والانتماء للتاج البريطاني، في المقابل هناك من يراه "مؤامرة" أوروبية لإهانة المواطنين في أيرلندا الشمالية وفصلهم عن أصولهم البريطانية.

Dawn Of The Post-Brexit Era For The UK
موظفو جمارك يفحصون شاحنات أوروبية بعد وصولها إلى ميناء لارن بأيرلندا الشمالية (غيتي)

الوحدة والانفصال

وفي مثل هذه الحالات التي تسود فيها الصراعات والمنافسة، يُلجأ دائما إلى الأرقام والبيانات، علّها تقدم صورة أوضح عن الوضع، ويظهر من الإحصائيات الرسمية أن وضع أيرلندا الشمالية جيد بالمقارنة مع بقية أجزاء المملكة المتحدة، إذ تسجل أقل معدل بطالة في عموم البلاد وذلك على امتداد 4 سنوات.

وسجل النشاط السياحي أكبر تطور له في سنة 2019 قبل تفشي وباء كورونا، كما أنها تسجل أفضل معدلات في جودة الحياة والدخل الفردي، حسب معايير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وهي المنطقة الوحيدة في المملكة المتحدة التي يقلّ فيها معدل ذوي الدخل المحدود عن 10%، فضلا عن تراجع أعداد الأطفال الذين يعيشون في الفقر في السنوات الخمس الماضية بعكس ما يحدث في بقية أجزاء المملكة المتحدة.

كلها عوامل تجعل سكان أيرلندا الشمالية يتشبثون بالمملكة المتحدة، مقارنة مع جمهورية أيرلندا التي من المتوقع أن تواجه متاعب اقتصادية متزايدة بعد البريكست ووباء كورونا.

ومنذ انطلاق مسلسل البريكست يهدد شبح الانفصال المملكة المتحدة، تارة في أسكتلندا وتارة في أيرلندا، ويظهر آخر استطلاع رأي أنجزته شبكة "بي بي سي" (BBC)، أن 49% من سكان أيرلندا الشمالية يؤيدون البقاء مع المملكة المتحدة في 10 سنوات المقبلة، في حين يؤيد 43% الوحدة مع جمهورية أيرلندا، وهناك 8% منهم ما زالوا مترددين.

هذا الوضع قد يختلف بعد ربع قرن، وذلك ما يكشف عنه استطلاع الرأي، إذ أكد 51% من سكان أيرلندا الشمالية أنهم قد يصوّتون للانفصال عن المملكة المتحدة بعد 25 سنة من الآن، وهذا يعني أن المستقبل سيكون أكثر تعقيدا في هذه الجزيرة.

المصدر : الجزيرة