إسرائيل عالقة في الحرب وما بعدها

رسم لنتنياهو عليه عبارة "قاتل" خلال مظاهرة في القاهرة تندد بالحرب على غزة (وكالة الأنباء الأوروبية)

رغم استمرار نتنياهو في إطلاق مصطلح النصر الكامل، وترويج قادة الاحتلال لشجاعة جنودهم وتحقيقهم الإنجازات في أنحاء قطاع غزة، فإن الخلافات وحجم الديمقراطية (الانتقائية) المتاح في الكيان دائمًا ما يكشفان عن صورة مغايرة على الأرض، فيما تستمر المقاومة في بث الفيديوهات التي تؤكد إيقاعها الخسائر في صفوف جيش الاحتلال في كافة مناطق تواجده، بما يثبت أن هذا الأخير ما زالَ بعيدًا عن فرض سيطرته على الأرض التي يحتلها.

وفيما تؤَمن الولايات المتحدة الدعم الكامل لهذه الحرب، فإن القراءة الموضوعية التي تصدرها تشكيلاتها الاستخبارية، تؤكد أن الاحتلال لا يزال عالقًا في غزة، ويفشل في تحقيق أهدافه التي وضعها لهذه الحرب، وهي النتيجة التي تبني عليها الإدارة الأميركية في دعوتها لإسرائيل للموافقة على خطة اليوم التالي المتمثلة بتمكين السلطة الفلسطينية ضمن إطار حل إقليمي يستند لقيام دولة مستقلة.

فقدان التوازن

لا شك أن ضربة السابع من أكتوبر/تشرين الأول أفقدت حكومة الاحتلال توازنها، ذلك أنها جاءت من حركة محدودة الموارد، وتعاني من حصار في منطقة جغرافية محدودة، حيث كانت أجهزة الأمن تعتقد أنها مردوعة بعد سلسلة من الحروب مع الاحتلال.

كما أن حجم ونوعية خسائر الاحتلال خلال ساعات محدودة، كانا لهما تأثير الصدمة على جميع شرائح كيان الاحتلال، ما أدى إلى تشكل رغبة جامحة وعارمة للانتقام للكرامة الوطنية، الأمر الذي ترجم إلى تصريحات مغرقة في الاحتقار والتهديد لكل ما هو فلسطيني، وجرائم وصلت حد التطهير العرقي والإبادة الجماعية، أوصلت الكيان إلى الإدانة في محكمة العدل الدولية، بعد أن وفرت لها واشنطن سياج الأمان في مجلس الأمن الدولي.

إلا أن هذا لا يقلل من دور التشكيلة المتطرفة التي تقود كيان الاحتلال، والتي عبرت عن نفسها بممارسات التهجير، والإفراط في استهداف المدنيين والمؤسسات التي تخدمهم كالمستشفيات والمدارس، فضلًا عن الأفعال الفردية والجماعية لجنود الاحتلال التي عبّرت عن وحشية وسادية غير مسبوقتين كشفت عنهما الفيديوهات المسربة لوسائل الإعلام، بما فيها تلك التي سرّبها الجنود أنفسهم.

يلاحظ أن عودة الجيش الإسرائيلي لاحتلال مستشفى الشفاء والمنطقة المحيطة به جاءت بعد نجاح هذه الحركة بالتفاهم مع العشائر والأونروا لحراسة وتنظيم قوافل الإغاثة في الشمال، ومن ثم الإشراف على توزيعها للمحتاجين من خلال مراكز الأونروا

ورأت إسرائيل أنها في حِل من أي التزام قانوني أو أخلاقي في حرب اعتبرت أنها تدافع فيها عن وجودها وليست حربًا دفاعية أو هجومية عادية، وساعدها في ذلك الدعم اللامحدود الذي تلقته من إدارة الرئيس الأميركي بايدن، سواء بإمدادها بجسر جوي من المساعدات العسكرية، أو بالوقوف في مجلس الأمن 4 مرات ضد أي قرار يدعو إلى الوقف الشامل للحرب، فضلًا عن عدم ممارستها أي ضغوط حقيقية على إسرائيل لوقف المجازر الفظيعة ضد المدنيين، أو التصدي لحرب التجويع ضد الفلسطينيين.

ولذلك يمكن القول؛ إن هدفَي القضاء على حماس والإفراج عن الأسرى بالقوة، لم يكونا واقعيين؛ لأنهما صدرا عن غريزة الانتقام التي لا مكان لها في التفكير السياسي والخطط الحربية، إذ لا يمكن القضاء على حركة لها جذورها التاريخية والواقعية، ولها امتداداتها داخل وخارج أرض فلسطين.

ولا يمكن لإسرائيل لمجرد أنها ترى أنه لا يمكن التعايش مع حماس، أن تتمكن من القضاء عليها بالوسائل العسكرية، بل إنها تحتاج لجهد سياسي موازٍ، هو ما تحدثت عنه الإدارة الأميركية معها تحت عنوان اليوم التالي للحرب، وعن دور محدد للسلطة تحلّ به محل حماس في حال التمكن من إضعافها!

ولعلنا نلاحظ أن أكثر الانتقادات من جنرالات الحرب ورؤساء الحكومة السابقين لدى الاحتلال، ولدى الشركاء الحكوميين مثل غانتس وآيزنكوت، تتركز على الانتقال لمرحلة تبادل الأسرى، وتأجيل الهدف الأول المتعلق بحماس لمرحلة لاحقة، ما دام أنه لم ينجح حتى الآن، وهو الأمر الذي يتعارض مع طموحات نتنياهو باستمرار عجلة الحرب حتى يتجنب الدعوة لانتخابات جديدة، ولمحاكمته في حال التوصل لأي وقف إطلاق للنار.

وبعد الاقتراب من إكمال الحرب شهرها السادس، لا يزال الشارع الإسرائيلي يجمِع على استمرار الحرب على حماس، وهو ما يستند إليه نتنياهو. غير أن ذلك لا يعني استمرار هذا الإجماع بصرف النظر عن نتيجة الحرب. وبدون شك فإن فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها ناتج في جزء منه إلى عدم تقديرها حجم قوة حماس وتحصينات الأنفاق لديها، وفشل التكنولوجيا في اكتشافها، واضطرارها للاعتماد على العنصر البشري لتحقيق هذه الغاية، حيث تحدثت مصادر الاستخبارات الأميركية عن أن الاحتلال لم ينجح إلا في تفكيك ثلث هذه الأنفاق التي يزيد طولها على 500 كيلومتر.

وتؤشر مجريات الحرب إلى أن جيش الاحتلال عاجز حتى الآن عن الخروج بصورة نصر تؤهله للدخول في تسوية سياسية تحقق أهدافه.

ولكن من الممكن بوجود معارضة فاعلة تنجح في استبعاد نتنياهو، أو تجاوز أهدافه الشخصية، وتأخذ العبر لمصلحة تجنب هزيمة إستراتيجية للكيان، أن يتم التوصل لاتفاق بوقف إطلاق النار، قد يفضي في المستقبل لوقف دائم للحرب.

ما بعد حماس!

ولكن لا يبدو أن غانتس الذي يتفوق بضعف الأصوات على نتنياهو في حال أجريت الانتخابات، قادر حتى الآن على إسقاط نتنياهو الذي يتحالف مع بن غفير وسموتريتش، كما أنه لا يمكن للضغوط الأميركية التي تتوافق مع معارضة بعض أجزاء اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، أن تكون قادرة على تشكيل ضغط حقيقي يؤدي لخلخلة حكومة المتطرفين في الكيان.

غير أن هناك معضلة كبرى تواجه الكيان، وليس حكومة نتنياهو وحدها، وتتمثل بخطة اليوم التالي. فأميركا تستند في هذه الخطة إلى سلطة فلسطينية معدلة أو محسنة عن السلطة الحالية، من خلال تحويل عباس إلى رئيس شكلي وإيكال صلاحياته لرئيس وزراء فلسطيني (يتم التوافق عليه أميركيًا وإسرائيليًا وعربيًا)، بحيث يقود الضفة والقطاع وفقًا للمطالب الإسرائيلية، ويعمل بالتالي على تعميم نموذج سلطة رام الله على غزة.

وبطبيعة الحال، فإن هذا التصور يقضي بأن تكون حماس في حالة من الضعف، بحيث لا تستطيع منع امتداد حكم السلطة لغزة، إلا إذا عولت واشنطن على قبول حماس بالانضواء تحت هذه السلطة والاستعداد للتخلي عن المقاومة المسلحة لصالح استمرار بقائها السياسي.

ولا يبدو أن هذا التصور واقعي، في ضوء الفشل الإسرائيلي في إنهاء أو إضعاف حماس، إذ لا تزال كتائبها عاملة في الشمال والجنوب، وتتمتع بحضور كامل في رفح جنوب قطاع غزة، وترفض الاندماج في برنامج السلطة، وإن أعربت عن قبولها بحكومة وحدة أو حكومة تسيير أعمال، على أن تشكل بتوافق فلسطيني.

ويبدو أن الولايات المتحدة محبطة من ضعف إنجازات الاحتلال، بما يؤدي إلى تقليل فرص نجاح تصور اليوم التالي، إلا إذا أرادت الاعتماد على التمكين التدريجي لهذه السلطة من خلال الاستمرار في الحرب وإنهاك حماس بحرب استنزاف قد تطول لسنوات أو أشهر، والاعتماد أيضًا على إغلاق معبر صلاح الدين (فيلادلفيا) وخنق حماس من خلال منع أي إمداد لها بالسلاح والعتاد. ورغم أن هذا التصور هو ما تحاول إدارة بايدن إقناع نتنياهو به بدلًا من اجتياح رفح بالكامل، فهذا الأمر من المشكوك فيه أن ينجح سواء على صعيد المدة الزمنية أو النتيجة المتوقعة له.

وقد حاول بلينكن خلال زيارته الأخيرة واجتماعه مع مجلس الحرب تحذير نتنياهو من مخاطر اجتياح رفح، قائلًا: "أمن إسرائيل ومكانتها الدولية في خطر. إن لم تفهموا ذلك بعد، فإنكم تخاطرون بالتعثر في غزة، وتخاطرون بالعزلة العالمية". وقال له: "حتى لو قمتم بعملية في رفح، فسيظل في غزة تحدٍّ كبير يسمّى حماس". ولكن نتنياهو رد عليه بالقول: "حتى سكان غزة الذين ليسوا من حماس لا يريدون السلام. الجمهور في إسرائيل لن يكون مستعدًا لدولة فلسطينية". وهذا الأمر يؤكد إصرار الاحتلال على موقفه وأنه يشن حربًا على الشعب الفلسطيني وليس على حماس وحدها. كما يدل على فشل إدارة بايدن بإقناع نتنياهو بمزايا الموافقة على اليوم التالي والدولة الفلسطينية، حتى ولو كانت شكلية ومنزوعة السلاح كما أكد بايدن نفسه.

ومن المعلوم أن الهدف الأهم لتصور اليوم التالي بالقبول بالدولة الفلسطينية هو تسهيل عملية التطبيع مع العالم العربي، وهو الإنجاز الذي سينقذ بايدن من تدهور سمعته وتراجع شعبيته أمام منافسه ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية التي ستتم هذا العام.

محاولات إسرائيلية

ولا يحظى التصور الأميركي بقبول حكومة نتنياهو بتركيبتها الحالية، حيث لا تزال تصر على رفض أي دور للسلطة الفلسطينية في غزة، وتستمر في التأكيد على أنها لن تقبل إلا بسلطة لا تعمل على التحريض على الكيان، وهذا الأمر يصَعب على الولايات المتحدة المضي بتصور اليوم التالي، ويؤدي لضرب إستراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة، والتي تشكل جزءًا من إستراتيجية شاملة تركز على التصدي للنفوذ الصيني، وهزيمة روسيا في حربها ضد أوكرانيا.

وفي إطار سعي حكومة الاحتلال لتقديم تصور لليوم التالي، فقد تواصلت مع زعماء العشائر الفلسطينية لإيكال توزيع المعونات الإنسانية في أنحاء قطاع غزة لها، وذلك كمقدمة وتمرين واختبار لهذه العشائر لتولي حكم غزة، فكانت المفاجأة برفض معظم هذه العشائر هذا الدور بدون التفاهم مع حماس وحكومتها.

ولكن بعضًا من نشطاء هذه العشائر تعامل مع الاحتلال، ما دفع حماس لفرض نفوذها عليهم بوسائل مختلفة أدت إلى إفشال المخطط الإسرائيلي.

ويلاحظ أن عودة الجيش الإسرائيلي لاحتلال مستشفى الشفاء والمنطقة المحيطة به جاءت بعد نجاح هذه الحركة بالتفاهم مع العشائر والأونروا لحراسة وتنظيم قوافل الإغاثة في الشمال، ومن ثم الإشراف على توزيعها للمحتاجين من خلال مراكز الأونروا، وهو ما أشعل الضوء الأحمر لدى الاحتلال، فقام باغتيال المسؤول الأول عن هذا العمل، وهو العميد فائق المبحوح مدير العمليات في جهاز الشرطة في غزة.

ثم ما لبث الاحتلال أن استهدف تجمعًا للجان شكّلها وجهاء العشائر (الذين رفضوا التعامل مع الاحتلال) لتأمين توزيع المساعدات جنوب شرق مدينة غزة، ما أدى لاستشهاد أكثر من 20 منهم. ومع كل هذا، فلا تزال العشائر ترفض التعامل مع الاحتلال، فيما تظهر حماس تحكمًا جيدًا في الميدان الاجتماعي، رغم الاستهداف الإسرائيلي المتواصل لكوادرها.

وفي مقابل ذلك، برزت محاولات داخل حكومة الاحتلال لإدماج جزء محدد من السلطة الفلسطينية متمثلًا برئيس جهاز المخابرات الفلسطينية التابع لسلطة رام الله، ماجد فرج في معادلة ما بعد حماس، إذ سوق وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت لاتفاق مع فرج على تشكيل قوة فلسطينية من 5000-7000 فرد من عناصر فتح كنواة بديلة عن حماس لحكم غزة، بحيث لن تكون هذه القوة جزءًا من الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، ويتم تدريبها في الأردن من قبل الجنرال الأميركي "مايك بنزل".

إلا أن نتنياهو – مدعومًا بشريكيه المتطرفين بن غفير وسموتريتش – أجهض هذه الخطة، الأمر الذي أعاد الأمور بالنسبة للاحتلال إلى نقطة الصفر.

وفي هذا السياق، طرح القيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان تمكين حكومة تكنوقراط لا تضم حماس وفتح. ولكن القناة 14 الإسرائيلية ذكرت أن هناك خطة يسوقها دحلان نفسه، وتدعو لدخول قوات عربية من الأردن والمغرب ومصر، بدعم الجامعة العربية، وبدعم خليجي في المرحلة الأولى، وتتضمن إعادة الإعمار، على أن تعلن السعودية إنهاء الصراع مع الاحتلال، وإلغاء منظمة التحرير الفلسطينية في حال نجاح الخطة.

وبصرف النظر عن مدى مصداقية هذه المعلومات، ورغم أن الاحتلال يرحب بدور عربي، باعتبار أن ذلك يعني إضعافَ الكينونة الفلسطينية بل إلغاءها، فإن الدول العربية في مجملها لا يبدو أنها راغبة في التورط في غزة؛ لأنها غير متأكدة أصلًا من نجاح الاحتلال في مهمة القضاء على حماس، ولا هي في وارد الدخول في تعقيدات الشأن الفلسطيني، التي قد تنعكس عليها سلبًا.

معادلة صفرية

وهكذا، فإن هذه المحاولات اليائسة من الاحتلال لفرض تصورات على الشعب الفلسطيني، تنبع أساسًا من رفض حكومة المتطرفين الاعترافَ أصلًا بأي حقوق للشعب الفلسطيني، والتركيز على الخطط التي تؤدي في النهاية لاستمرار محاولات إخضاعه، والسعي لتهجيره من غزة والضفة بشتى الوسائل، وهي مخططات لم تغب عن أذهان أقطاب الحكومة.

وهذا يؤكد أن الصراع ذاهب لمعادلة صفرية، بما يستبعد أي إمكانات لتسوية سياسية أو تعايش بين الشعبين، ما يمنع بالتالي التوصل لأي تفاهمات لما بعد حماس.

ولا يريد الكيان القبول بأي كينونة فلسطينية، بما يجعل الخطط الأميركية لتسوية الصراع غير قابلة للتنفيذ، رغم أنها بالأصل شكلية وليس لها قيمة سياسية حقيقية.

وحتى لو تغيرت حكومة الاحتلال، فإن الخطوط العريضة التي تتفق عليها أحزاب الاحتلال، ترفض بشكل عام تقرير الشعب الفلسطيني لمصيره بما في ذلك دولة على جزء من أرضه.

وهذا يؤكد أن الاحتلال عالق في الحرب التي يشنها على الفلسطينيين، ليس في غزة وحدها، وإنما في الضفة والقدس أيضًا، فهو عاجز عن تحقيق انتصار يذكر يدخل من خلاله لخطة ما بعد الحرب، وهو في نفس الوقت يرفض أي حل سياسي أو خطة لما بعد الحرب، حتى ولو كانت هذه الخطة شكلية!

غير أن النتيجة الأهم، هي تآكل قوة هذا الاحتلال، وخسارته مكانته في العالم كقوة إقليمية، وتحول صورته في أذهان العالم- والتي حرص على إظهارها بالبكائيات- من ضحية إلى كيان إرهابي متعطش للدماء، وهو ما يحاول أصدقاؤه في أميركا منع وقوعه، بدون فائدة.

والمحصلة هي أن الصراع مستمر في غزة والضفة والقدس، وله أشكال معينة في أراضي 48، وستكون معركة غزة هي إحدى روافعه، بصرف النظر عن الشكل الذي ستنتهي إليه، أو حتى تستمر فيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.