طوفان الأقصى وتجديد تفكيرنا في العالم

Protesters Demonstrate Against Israeli Prime Minister Netanyahu Visit
متظاهرون يتظاهرون ضد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو (غيتي)

قدّر لجيلنا -جيل الثمانينيات من القرن الماضي- أن تداهمه الأحداث وتتوالى عليه الوقائع الكبرى. كانت البداية حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وقد كنّا في المرحلة الابتدائية. لم نكمل عشر سنين. وقتها احتفظنا بصحف هذه الفترة حتى اصفرّت، ومعها بقايا الطائرات الإسرائيلية التي أسقطت.

دخلنا الجامعة مع مقتل السادات 1981، وخصصنا وعددٌ من الزملاء بحثَ التخرج لتأثيرات الثورة الإيرانية (1979) على شرعية النظم السياسية العربية.

تفاعلنا مع حيوية المجال العام العربي -أخذًا وعطاء- في الثمانينيات والتسعينيات والذي امتدّ حتى العقد الأول من الألفية الجديدة لنعيش انتفاضات الربيع العربي بموجتَيه. في هذه العقود الممتدة اندلعت حربا الخليج الأولى والثانية، والانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة، وشهدنا انهيار الاتحاد السوفياتي 1990، وهيمنة الولايات المتحدة منفردة على النظام العالمي، و11 سبتمبر/ أيلول 2001 التي دشنت حقبة "الحرب على الإرهاب" التي امتدت لعقدَين حتى كان الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وفيها كان غزو العراق 2003، وأخيرًا وليس آخِرًا؛ "طوفان الأقصى" 2023.

كانت هذه الأحداث -في مجملها جميعًا- تعلن نهاية لطريقة تفكير ومناهج نظر سادت لعقود، مخلية لجديد أخذ يتبلور وتتضح معالمه بالتدريج. اعتنيت كثيرًا بالغوص وراء ما تثيره هذه الأحداث والوقائع من تأثير على أنماط التفكير وطرق الفهم، وقد كانت كلها من طبيعة مفصلية وفارقة.

هل تسمح لي -عزيزي القارئ- بأن أمارس بعضًا من هوايتي في هذا الشأن متسائلًا عن: ما الجديد الذي يمكن أن يقدمه لنا "طوفان الأقصى" في فهم العالم من حولنا؟

هداني تفكيري -وأرجو ألا أكون مخطئًا- إلى أن ما يمكن أن يقدمه لنا "طوفان" الأقصى هو التأكيد على مناهج النظر التي يجب أن تحكم تفكيرنا في القرن الواحد والعشرين التي أظن -وبعض الظن ليس بإثم- أنها تختلف كليًا عن طريقة التفكير التي حكمت القرن العشرين والتي كانت الثمانينيات من القرن الماضي بداية التحول عنها، ولكنها تعززت كثيرًا في العقد الأخير من القرن العشرين.

تستند مناهج النظر المعاصرة إلى أسس عدة منها:

  • أولًا: انتفاء اليقين المعرفي، حيث الظواهرُ معقدة ومركبة ومترابطة بما يمكن معه لعامل أو فاعل صغير أو حدث بعيد أن يحدث تأثيرات ممتدة وعميقة ومؤثرة في مجمل العالم، وقد يتغير به مجمل النظام أو يحدِث نقلات نوعية فيه.

"طوفان الأقصى" من هذه النوعية من الأحداث التي ستحدث تأثيرات ممتدة في الإقليم وفي العالم، وبالطبع في القضية الفلسطينية والكيان الصهيوني. لا يبدو للحرب على الفلسطينيين سياقٌ واحد، بل سياقات متعددة. قد تبدو منفصلة في أحيان، لكنها متقاطعة ومتشابكة، وهو ما يزيدها تعقيدًا.

النكبة والنزوح الجديد، مستقبل ما يطلق عليه محور المقاومة في ظل قواعد الاشتباك الحالية، علاقة إيران وتركيا بالقضية الفلسطينية -حيث يبدو أن مصالحهما تفوّقت على المأساة الفلسطينية- شلل الأمم المتحدة، وعجز النظام الدولي عن فرض وقف إطلاق النار أو الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، شكل الحكم في إسرائيل بعد الحرب، العلاقة بين الحربَين في غزة وأوكرانيا، مستقبل السلطة الفلسطينية، التنافس في النظام الدولي وتحوله من القطب الواحد إلى التعدد.. تطول القائمة وتتسع لكن المؤكد أن حدثًا مثل الطوفان سيترك آثاره المباشرة وغير المباشرة على هذه السياقات جميعًا.

الحديث عن المستقبل معقد ويتسم بعدم اليقين، حيث يتداخل كثير من العوامل، مثل: التغير المناخي، والتطورات التكنولوجية، والأوضاع الاقتصادية، ويفاجئنا كثير من الحوادث كجائحة كورونا والحرب الأوكرانية وطوفان الأقصى …إلخ.

هيكل النظام الدولي لم يستقر بعد، وأظنه يتجه إلى التفتت والفوضى. يشهد تنافسًا بين الولايات المتحدة والصين، ولكنه لا يشبه -نتيجة التداخل والمصالح المشتركة- بحال الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والغرب.

ويشهد -أيضًا- بروز قوى جديدة على المسرح كالهند التي لم تعد بحكم تصاعد القومية الهندوسية تنتمي إلى الجنوب، ويعاد التفكير في العولمة من خلال إعادة هيكلة سلاسل التوريد، كما تتصاعد الهويات المتلبسة بالقومية المتطرفة واليمين الشعبوي المتطرف، ويصاحب ذلك كلَّه تغيرٌ في وظائف الدولة وأدوارها وهياكلها، وتوزعٌ في السيادة فيها بين ناعمةٍ وصلبةٍ، وفاعلين جددٍ بجوارها وخصمًا منها، وقد يحلون محلها ويقومون ببعض وظائفها، وتحولٌ في هياكل الاقتصاد وطبيعته وخرائط المؤثرين فيه …إلخ.

كل هذه العوامل وغيرها؛ أنتجت بنى غير مركزية، وبات يسيطر عليها منطق الشبكية لا الهياكل المستقرة، وتتوزع قواها وأشكالها بين مركز تدور حوله وبين لامركزية تصل إلى التفسيخ والتشظّي.

الطوفان كما قضى على نظرية الردع الإسرائيلية والتفوق التكنولوجي للكيان الصهيوني؛ فإنه في نفس الوقت أنهى المفاهيم الكلية الشاملة الاختزالية، مثل: مفهوم الغرب، واليهود، والجنوب والعرب

في الطوفان؛ نحن بصدد معركة كبرى بين هياكل مستقرة مركزية -كما في الجيش الإسرائيلي والجيوش الغربية- وبين هياكل لا مركزية تعمل متصلة ومنفصلة ومتمايزة عن بعضها بعضًا داخل فلسطين وخارجها.

في فلسطين تتعدد قوى المقاومة، كما يعمل التنظيم المسلح لكل فصيل بطريقة لامركزية. تجمعهم أطر تنسيقية وإستراتيجيات كلية، ولكن كل فصيل أو مجموعة داخله تتحرك وفق ما تمليه عليها مقتضيات الواقع. بهذا يجب فهم التباين في حماس بين السياسة وبين السلاح.

وفق هذا المنطق؛ سنكون بإزاء تعدديات تصل إلى السيولة، وتغير دائم في الوظائف والأدوار تنتفي معه الثنائيات المتعارضة من قبيل تدخل الدولة وانسحابها في الاقتصاد، أو تمايز بين البنى العلمانية وتلك الدينية، أو بين التقليدي والحديث، أو بين القديم والجديد، وفي حالتنا بين الكفاح المسلح والنضال السلمي …إلخ.

الاستناد إلى اليقين المعرفي يعني أنه يمكن اعتماد وحدات تحليل مستقرة على مدى زمني طويل. الدولة كانت وحدة التحليل الأساسية في السياسة، والمجتمع وحدة كلية -كما في التحليل الرأسمالي، والذي يمكن النظر إليه من منظور الطبقات المتماسكة – كما في التحليل الماركسي.

في الطوفان يبرز بقوة دور الفاعلين من غير الدول من حركات وتنظيمات وشبكات تتحرك في المقاومة المسلحة أو من خلال التظاهر السلمي العالمي. فاعليتهم جميعًا تتأتى من عدم وجود هيكل يجمعهم، ولكنْ أفكار تضمّهم أو شبكات تحشدهم وتعبئهم حول هدف مشترك.

في هذا السياق لا يمكن النظر إلى المجتمع الفلسطيني أو الإسرائيلي باعتبارهم كلًا واحدًا في مواقفهم وأولوياتهم، قد يغلب تيار سائد لحظة الحرب -كما في المجتمع الإسرائيلي، أو لحظة المقاومة -كما في المجتمع الفلسطيني- ولكن حتى اللحظات الجامعة تشهد تباينًا واختلافًا كما بين الضفة وغزة لدى الفلسطينيين، مما سيكون له تداعياته المستقبلية.

مع اليقين المعرفي لا يمكن أن ندرك سيرورة المفاهيم وتطورها؛ بل نتعامل معها في شكلها النهائي، ويصبح الهدف أو المقصد هو الوصول إلى معاييرها الكلية الشاملة؛ أي المنتج النهائي. وَفق هذا التصور؛ لم نعد بإزاء نهايات مفتوحة؛ بل محطة واحدة ووحيدة يجب أن يصل إليها الجميع.

الحديث عن اليوم التالي والصفقات الجديدة يفترض أن المنطقة خلت من البشر القادرين على أن يرسموا مصيرهم ويفرضوا اتجاهات مختلفة عن تلك التي وضعت على الورق أو جرى التفاوض عليها بين الساسة.

  • ثانيًا: انتفاء المفاهيم الكلية الشاملة، والثنائيات اللاتاريخية المتعارضة الاختزالية: إذا انتهى اليقين المعرفي؛ فلا يمكن الحديث عن مفاهيم كلية شاملة لا تاريخيّة اختزالية متعارضة يحكمها منطقُ "إما أو".

في القرن العشرين وجدنا مفاهيم كثيرة تشيع من قبيل: الغرب في مواجهة الشرق، والإسلامية في مواجهة العلمانية، والاشتراكية في مواجهة الرأسمالية، والقطاع الخاص في مواجهة العام، والأصالة في مواجهة المعاصرة …إلخ. كثرت المفاهيم، ولكن ما يجمعها أنها لا تاريخية، كلية وشاملة ذات طبيعة أيديولوجية.

الأيديولوجيا تعبير عن النقاء الفكري؛ وهي إذ تقدم تفسيرًا شاملًا للكون والحياة وموقع الإنسان منهما؛ إلا إنها من طبيعة صراعية؛ لأنها تتأسس على مواجهة الخصوم الأيديولوجيين؛ الآخرين الأغيار.

الكل يبحث عن النقاء الأيديولوجي والتطبيق المثالي بما يخدم الاستقطاب ويغذّيه. نحن نحتاج إلى الثنائيات المتعارضة، وما يصدر عنها -بالرغم من أن الواقع دائمًا على خلاف هذا النقاء الفكري- ليستمر الصراع.

من يخرج عليه فهو منشق -كما في تجربة الاتحاد السوفياتي- بالرغم من أن المنشقين كانوا يبحثون عن تطبيق مثالي أو أفضل لها. في الغرب كانت المكارثية في أحد مظاهرها بحثًا عن النقاء الأيديولوجي، وفي عالمنا العربي تم استدعاء – لى سبيل المثال- مفاهيم الحاكمية والجاهلية ممن يناهضون الدولة؛ دولة ما بعد الاستقلال، والتطرف والإرهاب لوصف من يخرج على أيديولوجية الدولة التي هي من طبيعة مختلطة تجمع بين عناصر متباينة.

مفهوم الغرب -الذي شاع ولا يزال يستخدم برغم غياب أية دلالة له الآن- مفهوم كلي شامل لا تاريخي يضم عناصر متباينة، وهذه سمة لصيقة بطريقة التفكير في القرن العشرين التي تقوم على الاستقطاب بين ثنائيات متعارضة. وهو أيضًا مفهوم اختزالي يستند إلى اليقين المعرفي؛ لأنه يرتبط بالأيديولوجيا: الشرق في مواجهة الغرب، والاتحاد السوفياتي أو الكتلة الشرقية في مواجهة الغربية، واليهود في مواجهة المسلمين. المفاهيم الكلية الشاملة تستخدم في الصراع وهي تفترض النقاء الكامل لضمان استمرار الصراع وتغذيته.

الطوفان كما قضى على نظرية الردع الإسرائيلية والتفوق التكنولوجي للكيان الصهيوني؛ فإنه في نفس الوقت أنهى المفاهيم الكلية الشاملة الاختزالية، مثل: مفهوم الغرب، واليهود، والجنوب والعرب.

اندلعت المظاهرات في الغرب تضامنًا مع الفلسطينيين، وضمت أطرافًا متعددة هي من صلب الغرب. كان أحد مكوناتها الأساسية الشباب اليهودي غير المتصهين، أما الجنوب فقد تباينت مواقفه من الطوفان؛ إذ قادت جنوب أفريقيا جزءًا منه في مواجهة الإبادة الجماعية في محكمة لاهاي، في حين تخلت الهند/ مودي ذات الطبعة الهندوسية القومية المتطرفة عن ميراثها التاريخي في مساندة القضية الفلسطينية.

في الزمن المعاصر لا يمكن الصدور عن المفاهيم الكلية الشاملة؛ بل من الضروري رسم الخرائط التفصيلية وبيان المواقف المتعددة. بدون ذلك لا يمكن للتفسير، أو التحليل، أو بناء الموقف السياسي، أو الفكري أن يكون له معنى. التعامل بالمنطق الكلي الشامل يغطي على الظواهر؛ أي يخفيها ولا يسمح باكتشافها.

يضم كل مفهوم مكونات متعددة وتفاصيل متباينة تستدعي رسم خرائطها وبيان تعدديتها، وفي هذا الإطار لا يمكن الحديث عن بنيات متمايزة عن بعضها بعضًا، بل يكثر التداخل والامتزاج.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.