من مفارقات أخبار "الأيام الأخيرة": روسيا.. نافالني.. أوكرانيا.. والحرب على غزة

هولنديون يضعون الزهور والشموع أثناء تجمعهم في ميدان دام بأمستردام في 17 فبراير بعد وفاة زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني في معسكر اعتقال شمال روسيا (الأناضول)

في قوس يتوسّط زحمة من الأحداث الكبيرة والمهمّة، تناقلت وسائل إعلام متطابقة خبرَ وفاة المعارض الروسي أليكسي نافالني في أحد السّجون الروسية، مثيرًا برحيله المثير للجدل كثيرًا من الأسئلة المتعلقة بحيثيات الوفاة وأبعادها.

وهي التي من المرجّح بشدّة أن تبقى عالقة لتتحول لغزًا آخر يضاف إلى ألغاز تضفي مزيدًا من الدرامية على المسار الذي يتّخذه عالم اليوم نحو وجهة تحرّك مخاوف متعاظمة لدى فئات متزايدة من ناس هذا العالم المضطرب بشدّة.

"مقتل فرد مأساة، أما مقتل الآلاف فمجرد إحصائية"، هكذا تحدث الزعيم السوفياتي الشيوعي الراحل جوزيف ستالين عن إزهاق الأرواح في أوقات تدور فيها رحى التاريخ نحو مراحل جديدة، مستندًا، من طرف خفي، لنظرة تسقط الرؤية الداروينيّة على التاريخ، مستفيدة ممّا قررته تلك النظرية في الطبيعة بشأن "أصل الأنواع" من أنّ تطورها مدين بالأساس إلى بقاء الأقوى في صراع لا أخلاقي دون رحمة.

في حديث ستالين، ما يشير إلى جوهر عميق ينتظم الدولة الروسية في مراحلها المتعددة والمتناقضة حتى الصّراع الدموي بل الوحشي.

وهو الخيط الناظم الذي يبدو أنه كان كامنًا بقوة في أعماق عميل الاستخبارات الروسية، الذي أصبح في وقت لاحق رجل الفدرالية الروسية وقيصرها القوي، ذلك الذي استعاد أمجاد الاتحاد السوفياتي دون الحاجة إلى محتوى أيديولوجي صلب، ولا إلى راية تزدان بمطرقة ومنجل.

رجل يكافح اليوم فقط لترميم ستار حديديّ كان يبقي المخاطر بعيدة عن موسكو، وهو الهاجس الذي تعاظم مع تحرك قوات فاغنر صوب العاصمة الروسية بتوجيهات وتهديدات من قائدها الراحل هو الآخر في ظروف غامضة وملغزة يفغيني بريغوجين.

روسيا اليوم تشهد رحيل نافالني وهي مستغرقة في حرب غير تقليدية بالمعنى الإجرائي والرمزي في أوكرانيا، معنية بنصر وجودي ذي طابع تاريخي، كما يبدو من الحوار الذي جمع الرئيس فلاديمير بوتين مع الصّحفي الأميركي تاكر كارلسون، حيث أثار حنق الإدارةَ الأميركيّة، وعواصم غربية اعتبرته مجرد بروباغندا لمن أصبح في نظرها طاغية ودكتاتورًا، بل ومجرم حرب يقود دولة مارقة عن سرب الحضارة والتنوير الذي يقوده المعسكر الليبرالي.

لهذا السبب بالتأكيد أصرّ بوتين على استحضار التكوين الأكاديمي للصحفي الأميركيّ الذي باتت تتهدّده- فيما يبدو- ملاحقات قضائية محتملة لما اعتبر مديحًا أغدقه على روسيا، وما يقدمه حاكمها لشعبه، مقابل نقد لاذع لفشل وفساد النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة، وعامة الغرب الليبرالي.

خيط ناظم

استدعى بوتين التاريخ وحاضر فيه، لا ليؤطر فقط كلامه عن الحرب في أوكرانيا، وإنما كذلك ليسهبَ في حديث أثاره سابقًا عن الأزمة العميقة والبنيويّة التي يمرّ بها الغرب الليبرالي.

بوتين كان قد قال مرارًا؛ إن الغرب بانقياده إلى الليبرالية المتوحشة فقَدَ ما تبقى له من عقل وجودي وسياسي واجتماعي، وبات خطرًا على الإنسان منذ أن ذهب في اتجاه إعادة تعريف العائلة وشرّع لزواج المثليين، واتجه أكثر فأكثر إلى مصادرة الأطفال رمزيًا وفعليًا من أسرهم، بل ومصادرة طفولتهم لفائدة أيديولوجية، أكد الرئيس الروسي أنها لا تقود سوى إلى خراب الإنسانية ونهاية مجتمعها الواسع مع بطء تدريجي في التنفيذ.

لم ينسَ بوتين أن يتحدث كذلك عن عدم تقبل الولايات المتحدة فكرة نشوء عالم متعدد الأقطاب، ما جعل الغرب يبادر بقيادة واشنطن منافسيه وخصومه والمختلفين معه حتى، بإجراءات وإطلاق أزمات بل والاستثمار في صراعات دامية كي يستبق أي نزعة استقلالية يمكن أن يراها لدى روسيا، أو الصين، أو كوريا الشمالية، أو إيران، ناهيكم عن دول أقل شأنًا وقوة تدور في فلكها.

هكذا ظهر الرئيس الروسي جمَّاعًا لصور متعددة تقلبت بينها الروح الروسية القادمة من تاريخ سحيق، فهو الآن قيصر مهيب مع ناتج سوفياتي صلب، وزعيم دولة نفخ في روحها بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من الانقسام والتردي في الضعف والهوان، وهو إلى ذلك أرثوذكسي متدين يحمل لواء الدفاع عن الفِطرة والعائلة والفضيلة.

روسيا بوتين التي توفي فيها المعارض أليكسي نافالني في واحد من سجونها في ظروف أقل ما يقال عنها إنها مثيرة للجدل، لا ترى في الديمقراطية الغربية ما يغريها بأن تتخذها قانونًا لألعابها السياسية والفكرية والاجتماعية، فهي عند بوتين وصفة مفلسة استنفدت أغراضها، فأفرغت التجربة الغربية من محتواها، ما كرس الشرق أفقًا للبحث عن مخرج من هذا المأزق التاريخي الذي تجلّى إفلاسَ دول وسترات صفراء في فرنسا، وصعودًا للشعبوية في الولايات المتحدة، أعقبها وصول رئيس طاعن في السنّ إلى البيت الأبيض.

معركة رمزيات وسرديات حامية الوطيس، يردّ عليها المعسكر الغربي بتوصيف طريف للديمقراطية الروسية البديلة، تلك التي شرعت تلاقي صدى لدى دول ملّت الأسلوب الغربي في التعامل معها، كما حدث في بلاد أفريقية عدة.

توصيف يراها أشبه ما تكون بمتحف للتاريخ الطبيعي، ذلك الذي تنتشر في قاعاته حيوانات محنّطة تبدو للوهلة الأولى حيّة تكاد تتحرّك بين فينة وأخرى، في حين أنّها فارقت الحياة منذ زمن، توهم الناظر إليها بالحياة وهي غارقة في عوالم العدم.

صراع الأنماط

هكذا هي الديمقراطية الروسية في نظر المعسكر الغربي: صلاحيات مطلقة مكدسة في يد زعيم فرد لا رادّ لإرادته، ولا احتمال لقيام ثقل موازٍ له، فضلًا عن معارضة تتهدد سلطانه.

في روسيا- بوتين ستجد كل شكليات الدولة الحديثة من مؤسسات سيادية وأخرى أهلية، مع طيف واسع من وسائل الإعلام، إضافة إلى مجتمع حزبي تفسح فيه مساحة لبعض المنابر والأصوات المعارضة التي تكسر بها صورة نمطية معروفة عن النظم الدكتاتورية، كما استقرت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية من القرن العشرين.

ديمقراطية تتحول فيها المنجزات إلى أساطير تروّج لها أجهزة الدعاية، في شكل مكرمات رئاسية لا تنتهي، تجسد حكمة الرئيس وسياسته الرشيدة وقراراته المحكومة بالنجاح الحتمي والباهر.

ضمن هذا المنظور يتهم المعسكر الليبرالي روسيا كما تتهمه هي بأن الحياة السياسية والاجتماعية فيها رسميًا وشعبيًا، مجرد حفلة تنكرية مفتوحة، يغيب فيها الجوهر الأخلاقي الحقيقي، ويعاد ضمنها إنتاج الاستبداد، وتتحول في سياقها المكاسب البشرية في الحرية واستقلال الإعلام والفصل بين السلطات، إلى تسميات تدل على نقيض ممارساتها.

وهو ما نفهم معه أن تصبح منصات التواصل الاجتماعي والهجمات السيبرانية من أكثر ساحات الاحتراب المفضلة لدى موسكو، تجيد فيها منازلة الغرب بآخر مخترعاته وصيحاته، وما توصل إليه من أدوات لصنع الرأي العام والتأثير عليه.

في هذه الرؤية تصبح وفاة المعارض نافالني المقابل الصارخ لدور روسيا الفعلي في عدد من الصّراعات الدّامية التي شغلت عالم اليوم، وأثخنته كما هو الحال في سوريا وليبيا وغيرهما، ويصبح في الجهة الأخرى الموقف الأميركيّ والغربي من روسيا على هذا الصعيد المقابل الصارخ هو الآخر؛ لانخراطه في مساندة المذبحة التي يستمر الجيش الإسرائيلي في اقترافها ضد الفلسطينيين في غزة وغيرها.

ضمن هذا الإطار جاءت المقارنات التي ساقها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أكثر من مناسبة بين الحربين في أوكرانيا وغزة، داعيًا في واحدة منها كل من أزعجته مشاهد الحرب ومآسيها في أوكرانيا إلى أن يلقي نظرة على مجريات الحرب الإسرائيلية على غزة.

إدارة الفوضى

أهي الفوضى الخلّاقة التي تحدثت عنها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس، وهي تشير إلى رؤية الولايات المتحدة للشرق الأوسط والعالم عشية الغزو الأميركي للعراق، وقد وصلت (تلك الفوضى) إلى مرحلة متقدمة باتت فيها صراعًا على المكشوف وخليطًا من المواقف والمواقف المضادة وخطوط اشتباك ساخنة ودامية بل ونذر حروب عدة بعضها غير بعيد عن الصين؟

ربما ذلك وأكثر، فما هو بادٍ للعيان يتمثل في معركة أوسع من أي رقعة قُطرية، تتعلق بنظام عالمي قائم، وآخر بديل يعمل على اندراج أوسع وأقوى في المشهد الدولي، يخوض معارك استرداد للمساحات والمجالات ذات الأولوية الحاسمة.

في مثل هذا الصراع تمرّ موازين القوى إلى تدافع شرس، تستخدم فيه كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، والمبررات الحقيقية والمفتعلة؛ لأجل حجز مقعد قيادي متقدم في عالم تقول بوادر مرحلة ما بعد الذكاء الاصطناعي؛ إن البشرية لن تكون – مستقبلًا- كما عرفناها من قبل؛ نظرًا لعدة اعتبارات، لعل من بين أهمها تقدم غير مسبوق ومتوازٍ لإمكانات مخيفة للاستفادة من أكثر الفتوحات العقلية رعبًا، وفي نفس الآن مواجهة مستوى لا سابق له من القدرة على التزييف وخلق عوالم أخرى افتراضية ومعززة.

ماتَ نافالني.. فيما تستمر الحرب الإسرائيلية على غزة، وتلك التي تشنها روسيا على أوكرانيا.. في رقعة شطرنج دولية يتقابل فيها سيدا البيت الأبيض والكرملين.. تفسح المجال لحكومة يمينية متطرفة كتلك التي يقودها نتنياهو لتصف الجيش الذي يقترف واحدة من أبشع المجازر ضد المدنيين أطفالًا ونساء وعزلًا بكونها حربًا نظيفة تُدار من قبل جيش هو "الأكثر أخلاقية في العالم"..!!

مفارقات.. يراها البعض علامة من علامات "الأيام الأخيرة".. لزمن استنفد أغراضَه.. بعد أن مني بإفلاس أخلاقي صارخ.. شاع معه كسل عقلي بات يرى البحث فيها مجرد ترف فكري لا يقود إلى تغييرها، بينما تتمسك أصوات بأن رصدها وتفكيكها مدخل لإدراك ما تيسّر من شفرة مستقبل القرية الكونية الظالم أهلها.. بنحو.. أو بآخر.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.