محنة المقاومة: الإجماع المعاكس

شباب فلسطينيون أثناء معسكر تدريبي لكتائب القسام في غزة (غيتي)

المقاومة الفلسطينية تحارب على جبهتين:

1- جبهة الصليبية الجديدة مُستترةً خلف قناع الصهيونية تطوي صدرها ويحرك وعيها ميراث ألف عام من الحروب الصليبية والاستعمارية وترتيبات الهيمنة والسيطرة.

2- ثم جبهة الإجماع المعاكس العربي – الإسلامي الذي تشكل في العقود الخمسة الأخيرة حول أمرَين كانا محظورين حتى نهاية عقد الستينيات من القرن العشرين، أولهما: الاعتراف بإسرائيل، وثانيهما: الانضواء تحت هيمنة الأحلاف الغربية.

فعند منتصف القرن العشرين بات مؤكدًا أن الاستعمار القديم – أي الأوروبي – دخل طور النهاية، وأن الاستعمار الجديد – أي أميركا – سوف يرث تركته، وكان شرط التسليم والتسلم من الاستعمار القديم إلى الاستعمار الجديد له وجهان: مقاومة المد الشيوعي بالانخراط في الأحلاف الغربية، ثم الاعتراف بإسرائيل.

صمدت الحركة الوطنية التقليدية – بكل أطيافها – ضد الترتيبات بكاملها، كانت الحركة الوطنية تستمد شرعيتها وشرفها من مكافحة الاستعمار كله: قديمه وجديده، فلا فرق بين هيمنة أوروبية وأخرى أميركية.

انقلاب هادئ

ثم هذه الحركة رغم تناقض مصالحها مع المد الشيوعي، ورغم أنها كانت تراه خطرًا عليها كرأسمالية وبرجوازية صاعدة، فإنها لم تكن ترى في ذلك الخطر مبررًا كافيًا للانضواء تحت حماية الأحلاف الغربية التي لم تكن أكثر من تغيير قناع الاستعمار، كذلك فإن الحركة الوطنية التقليدية رفضت الاعتراف بإسرائيل بأي وجه من الوجوه.

ثم جاءت القيادة الناصرية التي لم تكتفِ بمجرد رفض الأحلاف ورفض الاعتراف، وإنما شاركت في قيادة حركة تحرر عالمي ضد الاستعمار بكافة تجلياته بما في ذلك الصهيونية التي صارت دولة في فلسطين المحتلة.

ثم حدث انقلاب كبير، هادئ، بالتدريج، ضد التراث الثوري للحركات الوطنية التي واجهت الاستعمار، وضد مفاهيم التحرر الوطني، حدث على مدى خمسين عامًا من مطلع سبعينيات القرن العشرين حتى يومنا هذا، تلاشت فيها أفكار المقاومة، حتى صار الاعتراف بإسرائيل ليس محرمًا ولا عبئًا ولا عيبًا، العكس صحيح، صار الاعتراف بإسرائيل – في السر أو في العلن – جواز العبور للمستقبل؛ مستقبل أنظمة الحكم التي فقدت تعدد الخيارات، وبات المسار الإسرائيلي هو الحل الذي لا يمكن الاستغناء عنه.

لقد جاء "طوفان" الأقصى 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م مثل ليلة قدر خير من ألف شهر، لكن ما أعقبه من حرب إبادة كاملة وشاملة كشفت حقيقة ما قد جرى من تطويع وترويض للعالمين العربي – الإسلامي في أنفاق الاعتراف والأحلاف على مدى خمسين عامًا.

بينما بقيت إسرائيل ترجمة صادقة أمينة للصليبية الجديدة، مجرد واجهة صهيونية، يحتشد من أمامها، ويحتشد من خلفها، ويحتشد عن يمينها، ويحتشد عن شمالها وعي وروح وهمة وحقد وغلّ وسموم ألف عام من عدوان الغرب على الشرق الإسلامي تحت مسميات شتى مختلفة بينما جوهرها واحد.

أطماع واستخفاف

وبينما احتشد الغرب بكل قوته عن يمين الصهيونية وشمالها ومن أمامها ومن خلفها، حدث العكس والنقيض تمامًا في حالة المقاومة الفلسطينية، انفضّ الأشقاء عنها، انفضّ عنها العرب، انفض عنها المسلمون، انفضوا عنها من كل الجهات، انفضوا عنها في السر والعلن.

هو انفضاضٌ كاملٌ، يقابله التزام كامل بأمن إسرائيل والتزام كامل بالانضواء تحت هيمنة الغرب، التزام لا فكاك منه سواء كانت تفرضه نصوص تعاقدات ملزمة أو تفرضه موازين الأمر الواقع.

في هذه الخمسين عامًا الأخيرة، تغيرنا من النقيض إلى النقيض، تغيرنا إلى الأسوأ، لكن لم تتغير إسرائيل، ولم يتغير الغرب، بل ازدادت أطماع إسرائيل وجرأتها علينا، وزاد استخفاف الغرب بنا واستهانته بردود فعلنا.

في مثل هذه اللحظة تقف المقاومة مفردة وحيدة، الأقربون من عرب ومسلمين ليسوا معها، والأبعدون من أعدائنا في كل العصور يحتشدون ضدها. هذه لحظةٌ حاسمة، كاشفة لما هو قائم – فلم يعد مجهولًا ولا خبيئًا – منشئة لما هو قادم، وهو مجهول أكثره.

هذه لحظة من النوع الذي يصعب أن يُطوى ويمر، والأرجح أنها سوف تفتح بابًا تزدحم على عتباته الأسئلة الوجودية الكبرى. أسئلة حول وجودنا كأمة، وأسئلة حول وجودنا كدول وشعوب، أسئلة حول وجودنا كمِلّة وحضارة وثقافة، وأسئلة حول وجودنا كشركاء أو كخاضعين لحضارة غربية قاهرة ظافرة.

أسئلة قلقة مقلقة لا يهرب منها فرد ولا مجموع، أسئلة تستحضر التاريخ وتستبصر المستقبل .

صراع وجودي

جوهر الصراع واحد من اقتحام الصليبية القديمة القدس 1097م حتى اقتحام الصليبية الجديدة غزة 2024م، هذه الصليبية الجديدة – تحت قناع الصهيونيّة – امتداد طبيعي للصليبية الأولى، والصهيونية ليست أكثر من اختراع أوروبي أملته الضرورة واستدعته الحاجة وقبلته المصلحة.

ويمكنك أن تقارن بين الأدوار التي لعبها كبار رجالات أوروبا خلال القرنين: الثاني عشر والثالث عشر حيث الحملات الصليبية ضد المشرق الإسلامي، تقارنها مع أدوار كبار رجالات أوروبا خلال القرنين: الرابع عشر والخامس عشر، حيث الحروب الصليبية ضد الغرب الإسلامي فيما عرف بحروب الاسترداد.

ثم تقارنها مع أدوار كبار رجالات أوروبا خلال القرنين: السادس عشر والسابع عشر، حيث الكشوف الجغرافية وتطويق البرتغال، وإسبانيا، وهولندا للعالم الإسلامي، ثم تقارنها مع أدوار كبار رجالات أوروبا خلال القرون: الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين من غزو الهند عند منتصف القرن الثامن عشر، حتى اقتسام ممتلكات الخلافة العثمانية – بما فيها القدس وفلسطين – في العقد الثاني من القرن العشرين.

قارن بين كل هؤلاء الرجال الذين قادوا الحملات ضدنا على مدى ألف عام سوف تجد نفسك في داخل فصول متعددة لكن في مدرسة واحدة لها رؤية واسعة وإطار جامع يشمل كل تفاصيلها في نسق منظم مفهوم له أول وليس له آخر.

فقد بدأ – ومازال مستمرًا – صراعٌ وجوديٌّ ضخم كان ومازال مفتوحًا على كل الآفاق والاحتمالات.

إنسانية صلاح الدين

1-  في ص 130 من كتابه " حضارة أوروبا العصور الوسطى "، ترجمة قاسم عبده قاسم، يقول موريس كين : " وفي 15 يوليو 1099م، تم اقتحام المدينة المقدسة (يقصد القدس)، وإذ كان الصليبيون يشهقون من شدة الفرح، وأيديهم ملطخة بدماء المذابح التي ارتكبوها في الشوارع، أدوا صلاة الشكر في تلك الليلة بكنيسة القيامة ".

2-  في ص 31 من كتاب " الأخبار السنية في تاريخ الحروب الصليبية " يقول مؤلفه سيد علي الحريري : " دخلت العساكر الصليبية المدينة – أي القدس – في 15 يوليو 1099م، لسبع بقين من شعبان 492 هجرية، وكانت مدة الحصار أربعين يومًا.

ثم إن العساكر الصليبية فتكوا بالمسلمين فتكًا ذريعًا، وصاروا يقتلون الرجال والنساء والكبار والصغار والبنين والبنات، وقتلوا داخل المسجد (يقصد المسجد الأقصى) ما ينوف (أي ما يزيد) عن سبعين ألفًا من المجاورين، فيهم العلماء والزهاد والعباد، حتى كانت الجثث ملقاة في الأزقة والأسواق"، " وانعقد مجلس مشورة الصليبيين وقرر أن يقتل كل مسلم أو يهودي باقٍ في المدينة، فخرج المسلمون بعد الاستئمان (أي طلب الأمان)، والتجأ اليهود إلى كنيسهم، فحرق الصليبيون جميع الحي بما فيه الكنيس ومن فيها ."

3- في ص 45 من كتاب " مفاتيح أورشليم القدس، حملتان صليبيتان على مصر 1200 – 1250 م "، يقول مؤلفه ريمون ستامبولي : " انتصر صلاح الدين على الفرنجة في حطين في 4 يوليو 1187م، فعادت القدس، المدينة المقدسة، والرمز الأخير للمسيحية، إلى السلطان المنتصر، وقد عرف صلاح الدين كيف يتعامل مع المسيحيين بإنسانية وشهامة الفرسان، مما أجبر المؤرخين اللاتين على الكتابة عنه بكل التقدير والإعجاب"، ويقول ريمون ستامبولي: " وقد كان من السهولة أن تتم مقارنة سلوك صلاح الدين بالمذابح التي جرت عند غزو الصليبيين لأورشليم القدس عام 1099م ".

4- في أثناء الحرب العالمية الأولى، أخلى العثمانيون مدينة القدس، انسحبوا منها دون قتال مع قوات الحلفاء، اختار العثمانيون الانسحاب حتى لا يقع قتال يترتّب عليه تدمير المدينة المقدسة، حدث ذلك في 9 ديسمبر/ أيلول 1917م، فانتهى بذلك الحكم العثماني للقدس الذي استمر 673 عامًا.

إبادة آخر القلاع

وهنا يقول رولف شتاينجر، في كتابه " ألمانيا والشرق الأوسط منذ زيارة القيصر فيلهلم الثاني إلى المشرق في العام 1898م حتى الوقت الحاضر "، يقول في ص 37: " وفي التاسع من ديسمبر حصل البريطانيون على القدس، حصلوا عليها من دون أي مقاومة، وقد ارتفعت في روما أصوات أجراس الكنائس، ما عدا كاتدرائية القديس بطرس، احتفالًا بهذا الحدث "، ثم يقول: " ودخل الجنرال اللنبي إلى مدينة القدس بتاريخ 11 ديسمبر 1917م، دخل القدس ماشيًا على قدميه، مثلما يفعل الحجاج المسيحيون، دخل ماشيًا تنفيذًا لتعليمات الأركان العامة للجيوش البريطانية في لندن".

منذ دخل الصليبيون القدس 15 يوليو/ تموز 1099م، ودخل الفرنسيون القاهرة 24 يوليو/تموز 1798م، ودخل صلاح الدين القدس 4 يوليو/تموز 1187م، ودخل الإنجليز القدس 9 ديسمبر/كانون الأول 1917م، وانعقدت إرادة إسرائيل على إبادة آخر قلاع المقاومة في غزة شتاء 2024م.

محطات متعددة في صراع مفتوح، هذا الصراع يقف الآن على عتبات لحظة مصيرية حاسمة، إسرائيل والغرب – أوروبا وأميركا – يريدون هذه المحطّة الأخيرة نهايةَ صراع الألف عام .

فهل يكون لهم ما أرادوا ؟. ذلك موضوع مقال الخميس المقبل بمشيئة الله .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.