ثغرات لا بدّ من سدها في جدار الصمود الفلسطيني في غزة

مقاتلون فلسطينيون يقتادون جنديا إسرائيليا أسيرا خلال عملية طوفان الأقصى
مقاتلون فلسطينيون يقتادون جنديا إسرائيليا أسيرا خلال عملية طوفان الأقصى (مواقع التواصل الاجتماعي)

عملية "طوفان الأقصى" التي حدثت في السابع من أكتوبر 2023م، تستحق كل ما قيل فيها وكُتب عنها، وما سيقال ويكتب في المستقبل، من إشادة وتقدير، وهي لو وجدت الإرادة الكافية للاستثمار فيها لشكّلت منعطفًا تاريخيًا يقود إلى تغيير الواقع السياسي للعديد من الدول العربية والإسلامية في المنطقة، ولكانت بداية النهاية لحقبة من الهيمنة والاستعمار والعربدة في المنطقة كلها.

وهي بقدر ما تمكّن من خلالها الشعب الفلسطيني من إعادة تقديم صورته العظيمة وقدرته الهائلة على الصمود وإنتاج مقاومة فذّة استثنائية، كشفت عن طبيعة الاحتلال الإسرائيلي، ومدى الضعف والهشاشة اللذين يعاني منهما على أكثر من صعيد.

بعد مرور ما يزيد على 100 يوم على هذه المعركة، لا بدّ من تسليط الضوء على عدد من الثغرات المرافقة للمعركة والتي تستدعي التحرك الفوري لسدّها ومعالجتها، إن لم يكن من أجل دعم المقاومة الفلسطينية والنضال المشروع للشعب الفلسطيني، فاستجابة للضمير الإنساني والقيم الدينية والقومية لوقف هذه المجزرة المفتوحة والإبادة الجماعية التي ينفذها جيش فاشيّ تجاوز كل القوانين والأعراف الدولية، وتحدَّى وما زال كل المؤسسات الدولية. وأيضًا لمحاولة التذكير بالواجب من جهة، وبالفرصة التي ما زالت قائمة للاستثمار في تلك المعركة الاستثنائية.

ولعلّ من أبرز الثغرات في المشهد المصاحب للموقف البطولي في قطاع غزة ما يلي:

  • أولًا: عدم انخراط كافة المكونات الفلسطينية في المعركة، والمقصود هنا الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948 والشعب الفلسطيني في الشتات، حيث ما زالت مساهمة هذه المكونات في المعركة محدودة ولا ترقى إلى المستوى المطلوب الذي يجعلها تساهم مساهمة مباشرة وفاعلة في تحقيق إنجاز وطني فلسطيني نوعي.

مع أن طول أمد المعركة ينبغي أن يشكل حافزًا ومبررًا موضوعيًا لهذه المكونات للانخراط في المعركة، بغضّ النظر عن الآليات والوسائل والأدوات، بما يراعي ويتلاءم مع طبيعة كل منطقة جغرافية وكل مكوّن فلسطيني.

لكن من غير المنطقي أن يبقى دورها مقتصرًا على التضامن والمساهمة المعنوية، ينبغي أن يكون هنالك انخراط واضح ومباشر ومؤثر في هذه المعركة. ولعل هذه من أهم الأزمات التي عانى منها النضال الوطني الفلسطيني على مدى عقود طويلة، إذ لم تتمكن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، ولو لمرة واحدة، من أن تجند كل مكونات الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده في معركة مشتركة في مواجهة الاحتلال.

هذه الأزمة يجب أن يضعَ الفلسطينيون لها حدًا ويخططوا جيدًا لخوض مواجهاتهم بشكل موحد ومتكامل ومنسق في معركة تحرير أرضهم ونيل استقلالهم ومواجهة هذا العدوّ الفاشيّ.

  • ثانيًا: الأداء السياسي للقيادة الرسمية الفلسطينية. "م ت ف والسلطة الفلسطينية"، فمما تعانيه هذه المعركة الثغرة الكبيرة في أداء المستوى السياسي، حيث إن القيادة السياسية الفلسطينية الرسمية -والمقصود هنا قيادة منظمة التحرير وما لديها من سلكٍ دبلوماسي وممثلين ومؤسسات- تبدو غير منسجمة تمامًا مع المعركة، ولا تتعامل معها بما تستحقّ.

ففيما يخوض الشعب الفلسطيني معركةً غير مسبوقة في تاريخه بكل بسالة وصمود، وتبدع حركات المقاومة في الميدان، تُظهر القيادة السياسية عجزًا كبيرًا في الأداء، ينمّ عن انفصال عن الواقع، وانعزال عن حركة الشعب الفلسطيني. ولعلّ هذه المعضلة من الأسباب التي تطيل في أمد هذا العدوان، وهذه المجازر بحق الشعب الفلسطيني.

إن الوقت ما زال متاحًا والضرورة ما زالت ملحّة لتحرك وأداء سياسي يرقى لمستوى هذه المواجهة، فلمُّ الشمل الفلسطيني أولًا، والتحرك على المستوى العربي والإسلامي والدولي للجم هذا العدوان ابتداءً، ومن ثم للاستثمار فيه سياسيًا بما يخدم التطلعات والحقوق الوطنية الفلسطينية- واجبُ اللحظة.

  • ثالثًا: الانقسام الفلسطيني: الانقسام الفلسطيني أيضًا ثغرة كبيرة في المشهد، وهي نقطة ضعف كبيرة للفلسطينيين، يستثمر فيها الاحتلال بشكل كبير. تسانده في ذلك الولايات المتحدة الأميركية أيضًا، التي استثمرت في هذا الموضوع منذ بداية الحرب، وهي تبذل جهودًا كبيرة، وتتحدث بشكل علني وصريح حول ضرورة الحفاظ على الهدوء في الضفة الغربية، ونزع كل فتيل قد يقود إلى تأجيج الأوضاع فيها. وهذا يعني بطريقة أو بأخرى العمل على ضمان استمرار الانقسام الفلسطيني.

الانقسام الذي أخذ أشكالًا جغرافية وسياسية وميدانية، فتحوّل إلى انقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وبين حركتي حماس وفتح، أو بين المقاومة والقيادة السياسية، وهو ما ينبغي الالتفات جيدًا إليه.

إذا كان في ظل هذه الدماء الغزيرة وهذه المجازر التي لا تتوقف لا يستطيع الفلسطينيون تجاوز انقساماتهم، فمتى يمكنهم ذلك؟. إذا كانت كل هذه التضحيات وهذا الصمود وهذه البطولة وهذا الالتفاف العالمي حول القضية الفلسطينية لا تدفع القيادات الفلسطينية لتجاوز الانقسام وترتيب البيت الفلسطيني وإنجاز الوحدة فما الذي يمكنه فعل ذلك؟ وأين القوى والفصائل والنقابات والاتحادات الفلسطينية من هذا الأمر؟، لماذا لم نشهد أيَّ تحرك ضاغط لإنجاز الوحدة وللمساهمة في حماية الشعب الفلسطيني ومقاومته ومنجزاته المحتملة من هذه المعركة؟.

  • رابعًا: غياب الظهير العربي والإسلامي الرسمي، وضعف التفاعل الشعبي: لا أحد يمكنه تصور حجم الألم والمرارة التي يشعر بها الفلسطيني، وبالذات في قطاع غزة، نتيجة الخِذلان والضعف في المواقف العربية والإسلامية الرسمية.

ورغم ما يظهره الفلسطينيون بشكل عام، وقادة المقاومة بشكل خاص من تعالٍ على الجراح وحرصٍ في التعامل مع العرب والمسلمين، حيث يستمرون في مناشدتهم وشكرهم والإشادة ببعض مواقفهم على ضعفها، فإنَّ حجم ألمِهم وشعورهم بالمرارة كبير جدًا. فلم يتصور أحد أن يصل الضعف إلى حد أن أمّة يزيد عددها على مليارَي إنسان ولديها من الإمكانات والمقدرات الكثير، تعجز عن مدّ يد العون لشعب مضطهد، هو بالأساس يقاتل نيابةً عنهم ودفاعًا عن مقدساتهم.

هذه الأمة تعجز عن تقديم الدعم على الأقلّ في الشقّ الإنساني منه. لقد استبشر البعض خيرًا باجتماع منظمة التعاون الإسلامي، لكن سرعان ما خاب الظن. هذا العجز الذي يظهره العالم العربي والإسلامي، إن استمر على حاله فسيكون العالم العربي والإسلامي أمام حقبة جديدة من الهيمنة الأميركية والعربدة الصهيونية قد تستمرّ لعقود قادمة.

  • النقطة الخامسة والأخيرة: عدم وجود دعم عسكري للمقاومة، فالاختلال هائل في موازين القوى العسكرية؛ نظرًا للانحياز الغربي المطلق للاحتلال، وعدم جرأة أي من الدول العربية والإسلامية أو حتى القوى الدولية المؤمنة بالحق الفلسطيني والمؤمنة أيضًا بالحقوق والقيم الإنسانية كالحرية والعدالة والحق في تقرير المصير والحق في مقاومة الاستعمار، على تقديم دعم ملموس ومباشر ومادي للمقاومة الفلسطينية، بما يساعد في ردم هذه الفجوة الكبيرة في الإمكانات والقدرات العسكرية.

إن التوازن القائم في الميدان اليوم، رغم الفارق الكبير في القدرات العسكرية، يعود إلى البطولة والصمود والثبات الفلسطيني، ولعلّ الذي أحدث فارقًا كبيرًا ورجّح معادلة الميدان لصالح المقاومة الفلسطينية هو الإنسان الفلسطيني المقاوم والاستثنائي، الذي يقاوم بكل بسالة وبالحد الأدنى من المقومات المادية والعسكرية ويلحق كل هذه الخسائر بجيش مدجج بالأسلحة -ومدعوم من أعتى القوى الدولية، وبالذات الولايات المتحدة الأميركية، التي دشنت جسورًا جوية وبحرية لإمداده بالذخيرة والسلاح- ويحرمه من إنجاز أيّ من أهدافه في هذه الحرب. فكيف سيكون الحال لو دُعمت المقاومة عسكريًا وأُسندت من بعض أشقائها!

إنَّ استمرار وجود هذه الثغرات يشكل خطرًا ليس فقط على قطاع غزة، شعبًا ومقاومةً، بل وعلى مستقبل القضية الفلسطينية بمكوناتها المختلفة، وإن استمرار مواقف الأطراف المختلفة -آنفة الذكر على ما هي عليه- سيسجل على أنه تخاذل وتخلٍّ عن المسؤولية الدينية والوطنية والقومية والأخلاقية في لحظة تاريخية فارقة، وسينعكس على تلك الأطراف ومستقبلها، في المديَين: المتوسط والبعيد، سواء بتفاعل عوامل داخلية أو خارجية مرتبطة بدول الهيمنة في العالم.

إن حديثَ الاحتلال عن المرحلة الثالثة من الحرب والتي يمكن أن تستمرّ لأشهر أو أكثر، يفتح المجال أمام انخراط الفلسطينيين في كلّ مكان في موجة مقاومة طويلة مع الاحتلال تشبه الانتفاضة الثانية "انتفاضة الأقصى"، يمكن أن تقود إلى هزيمة الاحتلال وإنجاز بعضٍ من الحقوق السياسية الفلسطينية، وتدفع العالم للإقرار بضرورة حلّ القضية الفلسطينية، وأنه لا يمكن لأحد أن يتجاوز الفلسطينيين وقضيتهم.

كما أنها قد تشكل فرصة لكل الشعوب والدول العربية لتعيد حساباتها وتعدّل مواقفها بما ينسجم مع واجباتها الدينية والقومية والإنسانية، وبما يخدم مصالحها ومستقبلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.