الزلازل والكوارث الطبيعية..بين العقاب الإلهي والتراحم الإنساني

زلزال المغرب المصدر: مراسل الجزيرة
زلزال المغرب (الجزيرة)

تحمل الكوارث الطبيعية والزلازل تحديات كبرى وآلامًا لا حصر لها للإنسان والمجتمعات، بفعل ما تخلفه من أضرار على مستوى الأرواح البشرية والعمران. لذلك، هي فاجعة تفجع كل من أصابته، وتتجاوز المخلفات الجانب المادي إلى النفسي والفكري، بحثًا عن أجوبة للأسئلة التي تبحث عن تفسير للظواهر الطبيعية ومدى الآلام التي تحملها وترمي الإنسان فيها، وملاذًا آمنًا لنفس متوترة جراء هول الحدث، فتظهر تفسيرات متعددة. لكن المثير أن يظهر إسقاط سريع للعامل الديني بشكل مجتزأ في تفسير الظواهر الطبيعية، دون مراعاة لما يمكن أن يقوله التفسير العلمي أو الإنصات لنتائجه في تفسير حركة الكون والطبيعة، من قبيل العقاب والغضب الإلهي وغير ذلك. وقد ظهر هذا في الزلزال الذي ضرب المغرب مؤخرًا في إقليمي الحوز وتارودانت قرب مدينة مراكش، وكان من قبل مع الزلزال التركي وفي غيره من الأحداث المشابهة، مما يعبر عن مأزق يعيشه نمط من الوعي الديني السائد في مجتمعاتنا.

الزالال والكوارث الطبيعية وحديث العقاب الإلهي

شهد المغرب زلزالا مدمرا في مناطق تقع بين مراكش وأكادير، لكن ارتداداته غطت البُعد الجغرافي للمغرب. وكان الضرر الأكبر في بؤرة أو مركز الزلزال بمنطقة الحوز وتارودانت، وهما معًا يقعان على سلسلة جبال الأطلس ذات المسالك الوعرة وشظف العيش وقسوة الطبيعة ونقص التنمية في هذه المناطق المحافظة. لكن هذا لم يدفع البعض إلى توسيع رؤيتهم الدينية للنظر بزاوية مركبة إلى ما يوجبه الدين بالأساس، من أجل النهوض بالأوضاع الاجتماعية للساكنة وفك العزلة عنهم، باعتبار ذلك حقًا من حقوقهم. بل كان الزلزال فرصة لاستدعاء خطاب الترهيب والتذكير بأن سبب الزلزال هو المنكرات والمعاصي، وأن هذا عقاب إلهي يوجب على الناس المسارعة للتوبة.

نقر بدايةً، أن الله جل جلاله محيط بالقدرة والتصرف في ملكه، وفق إرادته ومشيئته سبحانه، "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" (سورة الأنعام: 59). ومن ثم فإن الحديث عن بعض التفسيرات التي تغذي الوعظ الديني بخصوص الزلازل والكوارث الطبيعية وضرورة مراجعتها، هو ليس حديثًا في مدى تصرف الخالق في خلقه وملكه، أو إبعاد كون الأحداث الطبيعية آيات وأمارات هادية للخلق تدل على عظمة الخالق وعجز الخلق وضعفهم، وإنما في نوع من التأويل لكل الأحداث وإسقاط فجّ لأحاديث نبوية أو آيات قرآنية كريمة دون إدراك سياقها أو سبب نزولها، مما يجعلها تخضع للتوظيف السيء في مناسبة تتطلب منطلقات أخرى ينبغي أن يتشكل عليها الخطاب الديني الموجه إلى المتضررين من المحنة والابتلاء، بما يجعله يستوعب آلام الناس وأوجاعهم ويهدئ من روعهم وتوتراتهم، فيكون الدين ملاذًا للنفوس القلقة وليس سوطًا عذاب مُسَلَّطًا على رقاب الناس.

إن أشكال الخطاب التي تتجه بالإنسان إلى نوع من الترهيب بشأن العقاب الإلهي تسيء للخالق – جل جلاله – وكذلك للدين، فهي تقصره على جانب العذاب دون الرحمة، ورحمة رب العالمين وسعت كل شيء

إن المدى الذي يحمله الاستدلال بأحاديث نبوية وآيات قرآنية من منطلق الترهيب في لحظة أزمة وألم لا يعبر فعليًا عن طبيعة الرحمة التي تُميز رسالة الإسلام. وهذا ليس تجريدًا للدين من جوانب الرهبة والجزاء والعقاب، ولكنه إبراز للخلل الذي قد يظهر عندما لا يُفهم الوعي الديني النصوص بشموليتها، دون اجتزاء أو اختزال. يجب فهمها وتطبيقها على الواقع الفردي والجماعي بما يتناسب مع الظروف والأحوال. فخطاب الترهيب في لحظات الألم والفقد، خصوصًا مع حدوث الزلازل والكوارث الطبيعية، لا يعكس حقيقة سماحة الإسلام والأخلاق النبوية التطبيقية. في هذه الظروف، يجب أن يكون الخطاب الديني كبلسم، يشفي الجراح ويخفف من وحشة الواقع، ويكون مضادًا للاكتئاب والأزمات النفسية التي قد يخوضها الأفراد بعد الكوارث. أي إن الخطاب الديني يحتاج إلى أن يُقدم الرعاية والدعم على المستوى النفسي والاجتماعي بتأنٍّ وأدب، مع مراعاة السياق والظروف الشخصية، بعيدًا عن الغلظة والفضائح.

يحمل هذا النمط من الوعي موضوع النقد، فسادا على مستوى التصور، ذلك أن انزياحا للحديث عن العقاب الإلهي في تفسير عدد من الظواهر الكونية والطبيعية، يشير إلى صورة محرفة لعلاقة الإسلام بالعلم، تلغي فاعلية العلل والنواميس في الوجود، مما يتصور عنه وجود حالة تضاد بين العلم والدين، وبين الجانب الكوني والجانب الشرعي، بينما تقدم لنا الجيولوجيا في اللحظة الراهنة تفسيرا لحركة صفائح الأرض وأسباب الزلازل واختلافها عن بعضها، والأماكن النشيطة، وهي تأتي لتدل على عظمة الخالق، لكن حشر العقاب الإلهي في لحظة ينبغي أن يتم فيها الإنصات للعلم، هو إساءة للدين وجرأة على الخالق سبحانه وتعالى، وإقصاء للعقل العلمي داخل مجال التفكير الديني الإسلامي، بينما الإسلام في جوهره متصالح مع العلم، بل يدعو للتفكر في آلاء الله وخلقه وآياته في الوجود، والنظر في الآفاق والأنفس، ويرغب في البحث عن الأسرار الكامنة خلف الظواهر لفهم حركة الطبيعة والكون.

إن الاستسلام لجانب من الوعظ الديني الذي يتخذ أشكالًا من الغلظة التي لا حصر لها في سياقنا التداولي العربي والإسلامي، هو استقالة معلنة للعقل وعودة إلى ذلك الصراع القديم الذي طرحه بعض المستشرقين وفي مقدمتهم المستشرق الفرنسي إرنست رينان في محاضرة له حول الدين والعلم بكلية فرنسا، إذ نسب للإسلام جملة من الادعاءات الشنيعة بشأن معاداته للعلم، مما دفع جمال الدين الأفغاني للرد عليه. وما زالت منذ ذلك الحين تتكرر نفس الدعوى من قبل آراء تغيب عنها الفهم الصحيح لطبيعة الدين الإسلامي وخصائصه. لكن الواقع يؤكد أن بعض الوعاظ في المجال الديني، الذين لم يصل لديهم مستوى الوعي العميق الذي كان موجودًا لدى أعلام مثل الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم، يخدمون بهذا النمط من الخطاب تلك الدعوى، ولهذا الأمر أوجه ونتائج متعددة.

أولًا: ترسيخ التناقض بين الإسلام والعلم، سواء بوعي أو بغير وعي

وهذا في الواقع يعكس علة عجز فكري تتسلل إلى العديد من وعاظ الشاشة ومتصدري مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث يصعب عليهم فهم الطابع المركب للعلاقة ومدى التمايز والتكامل بين الدين والعلم، وتأثير ذلك في العلاقة مع الله جل جلاله ومع الكون أو الطبيعة التي سخرت للإنسان من أجل الاستخلاف. وهذا الاستخلاف لن يتحقق في الوقت الراهن دون امتلاك أسرار العلم والمعرفة، أي الحصول على أسباب القوة الرمزية التي يستخدمها الإنسان لفك شفرة الوجود والطبيعة. وطالما لم يتجاوز جزء من الخطاب الديني هذه العقبة، فسيظل عاملًا لتعطيل الوعي النهضوي والحضاري.

ثانيًا: إشاعة صورة عن الإسلام والخالق -سبحانه- تغيب فيها معالم الرحمة

وتطغى عليها مظاهر الغلظة والشدة. ويكفينا هنا أن نستحضر ما ذكرناه في مقال سابق عن زلزال تركيا وسوريا: "إن أشكال الخطاب التي تتجه بالإنسان إلى نوع من الترهيب بشأن العقاب الإلهي تسيء للخالق -جل جلاله- وكذلك للدين، فهي تقصره على جانب العذاب دون الرحمة، ورحمة رب العالمين وسعت كل شيء، ألم يقل في كتابه الكريم: "ورحمتي وسعت كل شيء"، وهذا من المحكمات. إن الخطاب القرآني قد اتسق ليؤسس فهمًا يتجاوز الموروث الديني الذي حفل به الوعي البشري، مع ما خلفته الأساطير من نزاعات الآلهة وغضبها ونزعاتها الانتقامية".

ثالثًا: غالبًا ما تأتي تلك الأحاديث والآثار في سياق الحديث عن الساعة وأشراطها

وهذا الموضوع يستلزمه نمط من الخطاب الوعظي السائد، الذي يكثر من استحضار الآثار ويوظفها في ترسيخ نفسية سلبية منعزلة عن المجتمع، خالية من المبادرة والفعل الاجتماعي والحضاري. ولو تم التوجيه الصحيح لهذا النمط من الخطاب، لكان من الأولى له الانشغال بجوانب لها آثار مباشرة على الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية للإنسان، التي تتصل مباشرة برسالة الإسلام. ومن هذا المنطلق نفسه، روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "بُعثت والساعة كهاتين" وأشار بالسبابة والوسطى. لكنه لم يدعُ إلى الاستكانة أو الخمول أو الغربة عن المجتمع، بل دعا إلى تنمية الجانب العملي في الإنسان.

إن تصورًا بهذا الشكل بحاجة إلى تجاوز من داخل الوعي الديني السائد. فجملة من الآيات القرآنية التي يأتي فيها ذكر العقاب بالزلازل والخسف وغيرها من الأشكال المادية للعقاب خصت أقوامًا آخرين. استحضارها في سياق تذكير أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- النبي الخاتم، يحتاج إلى مراعاة أدب الخطاب النبوي والتفكير في علاقة الإسلام بالعلم في تصور شمولي ينطلق من المعطيات العلمية الحديثة في تفسير حركة الطبيعة والكون. إذا رجعنا إلى كتب التاريخ، سنجد أنه منذ بزوغ نور الإسلام وفي أوقات قوته وقربه من زمن النبي -عليه الصلاة والسلام- شهدت العديد من البلدان الإسلامية كوارث طبيعية مثل الزلازل في الشام وأنطاكيا وفلسطين ومصر والأندلس وغيرها، وهي جميعًا تقع على الحزام الناري للزلازل الذي أكده العلم في الوقت الحالي. وهذا يؤكد على ضرورة استعانتنا بالتفسير العلمي لفهم الكون، وإعادة توجيه الخطاب الديني نحو مستوى يظهر فيه الدين على أنه علاج للإنسان في زمن الكوارث. وهنا يأتي دور التراحم الإنساني وقيم التضامن والتكافل الاجتماعي التي هي جزء لا يتجزأ من الإسلام.

في كل أزمة تمر بها مجتمعاتنا. ومن وسط الأحزان والمآسي، تظهر لنا صور من النبل الإنساني وروح التكافل الذي يربط الفئات الاجتماعية المختلفة، تلك المحن توقظ في نفوسنا مشاعر التراحم التي تتجاوز التصورات

الكوارث الطبيعية وإذكاء التراحم الإنساني والتضامن المجتمعي

أبرز زلزال الحوز في المغرب، وقبله زلزال تركيا وسوريا، جوانب من القيم المجتمعية الأصيلة الكامنة في نسيج المجتمعات الشرقية التي تعبر عن روحها. لطالما كانت الأحزان والمآسي تعكس الأخلاق الرفيعة التي توجه الإنسان والمجتمع. قوافل التضامن والتكافل الاجتماعي التي انطلقت من جميع مدن المغرب باتجاه مركز الزلزال في مبادرات مجتمعية حرة، وكذلك النداءات المعبر عنها من قبل العديد من الدول العربية والإسلامية وغيرها، تعكس مدى التراحم العميق داخل المجتمع المغربي وتشكل بالفعل روح الشرق ككل.

إن فاجعة الزلزال، بكل ما حملته من أهوال ومصائب، تُظهر لحظة تجلي لأخلاق فردية وجماعية تعبر عن روح القيم الإسلامية ذات الطابع الإنساني. هذه القيم تدعو إلى كفالة اليتيم، والتعاضد والتراحم مع الآخر، والعطاء، وتخفيف الكرب، وإذكاء الشعور الجماعي بالأخوة المشتركة بعيدًا عن النزعة الفردية والسعي للمصلحة الذاتية. هذه القيم في نسقها العام تصلح لتكون قاعدة أخلاقية تنظم جميع المجتمعات. الحديث هنا ليس فقط عن نموذج، بل عن براديغم يمتد إلى كل جوانب الحياة الاجتماعية. وفي هذا السياق، يشكل الدين دافعًا قويًا للمبادرة والفعل، والثواب المنتظر ليس فقط في الدنيا ولكن أيضًا في الآخرة.

إن التراحم الإنساني والتضامن والتكافل الاجتماعي، بمختلف أشكاله من التبرعات والمساندة وصولًا إلى الدعم المعنوي والمادي، يمثل وسيلة لتطهير الذات الفردية من نزعاتها المادية والفردية. هذا التوجه يرقي بالشعور الإنساني نحو مسؤولية جماعية عميقة. وتلك الروح الجماعية تعد إحدى أبرز تجليات التراحم الإنساني، وهي تنزيل عملي للخطاب القرآني، وتجسيد لسنة النبي ونهجه مع أصحابه. المجتمعات تتطور وتنمو عندما تغرس هذه القيم وتعمق هذا الشعور. وهذه الروحية هي ما يجب أن يُسلّط عليه الضوء ويُعتمد في الخطاب الديني، خاصة في سياق الأزمات والكوارث.

في سياق التأمل في أشكال التضامن المجتمعي التي تجتاح جميع المناطق المغربية، نلاحظ أن هذه الظاهرة تتكرر في كل أزمة تمر بها مجتمعاتنا. ومن وسط الأحزان والمآسي، تظهر لنا صور من النبل الإنساني وروح التكافل الذي يربط الفئات الاجتماعية المختلفة. تلك المحن توقظ في نفوسنا مشاعر التراحم التي تتجاوز التصورات. وهذا يعكس قول الله تعالى للأنصار: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (سورة الحشر: 9). هذه الآية تشير إلى أهمية القيم الدينية والمجتمعية التي تنبع من القيم الإسلامية، وهي بحاجة إلى تسليط الضوء عليها. لأن هذه القيم تشكل جوهر التماسك المجتمعي وتقف في مواجهة نزعات الفردية المشبعة بالأنانية ومصلحة الذات في المعنى الفلسفي، وليس في المعنى الديني الشرعي.

تكشف الظواهر الطبيعية عن ضعف إنساني أصيل وشعور بالعجز والهوان، لكنها في الآن نفسه هي لحظة تطلع معلن وخفي إلى مصدر الرحمة المطلقة، فهذا الكائن الذي يدعي التجبر والقوة والذي بغلت كشوفاته الآفاق لم يتجاوز في واقع الأمر خلال مسيرته العلمية مع الكوارث والظواهر الطبيعية حدود الفهم والتفسير، وهو تفسير ينبغي أن نتشبث به ليتحقق لنا الوعي بالعالم الذي نعيش فيه، كما أن ذلك الشعور الإنساني الذي يبرز في لحظة عجز وضعف، هو حبل الإنسان المتصل بمصدر الرحمة واللطف، وهو نبع للعلاج النفسي والروحي للإنسان من هول الصدمة ومخلفات الهلع، وهو ما لا يتحقق بالتخويف والترهيب ونشر الفزع باسم الدين، فالدين والخالق سبحانه وتعالى ملاذ للجرحى والمنكوبين نفسيا وماديا، وتحقيق التراحم الإنساني والمجتمعي منزلة عظيمة في نفوس الخلق وهي واقعة في آلامها وجراحها، وعند الخالق وهو الرحمن الرحيم الرؤوف بالعباد، وهو القائل في كتابه الكريم: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"(سورة المائدة).

ورحم الله الشهداء وألهم ذويهم الصبر وأنعم بالشفاء على الجرحى والمصابين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.