التضحيات الفلسطينية.. لماذا؟ وإلى متى؟

الاجتياح الصهيوني لمخيم جنين أواخر الشهر الماضي، والعملية التي قام بها الشهيد خيري علقم ردا عليه، تطرح السؤال من جديد، حول جدوى التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني والمعاناة التي يتكبدها على كافة المستويات وفي شتى المجالات، على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني وحكومته العنصرية الإرهابية، التي لا تتوقف إجراءاتها التعسفية اليومية ضد الشعب الفلسطيني الذي قدّم في العامين الأخيرين نحو 530 شهيدا، وأكثر من 23 ألف جريح، وحوالي 15 ألف معتقل، فضلا عن مسلسل هدم المنازل، وتدمير المباني، واقتلاع أشجار الزيتون، والاستيلاء على الأراضي، ومواصلة إقامة المستوطنات…، فلماذا كل هذه التضحيات؟ وإلى متى ستستمر إذا كانت لا تصبّ في صالح مشروع وطني سياسي محدد، تقف وراءه سلطة موحدة، قادرة على استثمار هذه التضحيات من أجل تحقيق آمال وتطلعات الشعب الفلسطيني؟!

إنّ ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني يعتبر أولوية الأولويات، لتحقيق أهداف وتطلعات الشعب الفلسطيني. أما الاستمرار في مواجهة الاحتلال على ما هو عليه الوضع حاليا، فهو قفز في الهواء دون حساب، وتقديم للتضحيات دون قيمة سياسية تُذكر. الأمر الذي يعتبر جريمة كبرى في حق الشعب الفلسطيني وقضيته

أسئلة مشروعة

يلخص مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة (OCHA)؛ الأزمة التي يعانيها الشعب الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة بقوله "تتواصل الأزمة المستفحلة التي تواجه النساء والرجال والفتيان والفتيات في الأرض الفلسطينية المحتلة، مما يترك الكثير من الفلسطينيين يكافحون في سبيل العيش بكرامة.

يقف وراء هذه الأزمة الاحتلال العسكري الإسرائيلي، بما يشمله من فرض الحصار على قطاع غزة، وعدم إيلاء الاحترام الكافي للقانون الدولي، واستمرار الانقسام السياسي الداخلي الفلسطيني، وتكرار حالات تصعيد الأعمال القتالية بين إسرائيل والجماعات المسلحة الفلسطينية". ويحدد هذا التلخيص أسباب الأزمة المستمرة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة في ثلاثة أسباب على النحو التالي:

  • الاحتلال الصهيوني.
  • الانقسام الفلسطيني.
  • العمليات القتالية.

وما يهمنا في هذا التلخيص، الوقوف عند السببين الثاني والثالث من أسباب الأزمة، لعلاقتهما المباشرة بالطرف الفلسطيني الذي يتحمل المسؤولية الكاملة عنهما. وهنا يحق لنا أن نتساءل، وبصوت مرتفع: إلى متى سيستمر هذا الانقسام؟ وإلى متى ستستمر القيادات الفلسطينية في دغدغة عواطف الشعب بشعارات تتحطم يوما بعد يوم على صخرة هذا الانقسام المستعصي على الالتئام؟ وما جدوى عمليات المقاومة الشعبية أو النظامية ضد الاحتلال في ظل هذا الانقسام.

إن هذه الأسئلة وأمثالها أسئلة مشروعة، يجب على كل فلسطيني أن يطرحها باستمرار، على نفسه وعلى الدوائر المحيطة به، بحثا عن إجابة تقود إلى تحرك جدّي لإنهاء الانقسام الذي لم يعد مجرد ظاهرة سياسية مرضية في المشهد الفلسطيني، بل كارثة كبرى تغذّي عبثية الواقع الفلسطيني الراهن، وتجعل تضحيات الشعب الفلسطيني بلا معنى، وذلك للأسباب الرئيسية التالية:

  1. انقسام السلطة السياسية والقرار السياسي.
  2. تعدد برامج التحرر وتضاربها، على حساب برنامج التحرر الوطني المشترك.
  3. إضعاف الموقف الفلسطيني في مواجهة الكيان الصهيوني.
  4. زيادة التحكم الإقليمي والدولي في القرار الفلسطيني.
  5. إهدار معاناة الشعب الفلسطيني وتضحياته.
  6. إطالة أمد القضية الفلسطينية وزيادة تعقيداتها.
  7. تسهيل عملية الاختراق الصهيوني للعالم العربي والإسلامي.
  8. تمكين الكيان الصهيوني من تحقيق أهدافه القومية على حساب الشعب الفلسطيني.
  9. زيادة معاناة الشعب الفلسطيني في الشتات.

فكيف يمكن تحقيق مكتسبات لصالح تحقيق أهداف وتطلعات الشعب الفلسطيني، والحال على ما هي عليه؟ ومن هنا، فإن استمرار الوضع على هذا النحو يتناقض مع كافة المبادئ والأسس والمنطلقات اللازمة لمقاومة الاحتلال وتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني وإيقاف معاناته.

هذا يدعو جميع فئات الشعب الفلسطيني المنضوية داخل فصائل المقاومة بأذرعها السياسية والعسكرية، أو غير المنضوية، إلى إعادة النظر بصورة موضوعية مجردة؛ في الواقع السياسي الراهن للقضية الفلسطينية، بعيدا عن الانفعال والعاطفة وردود الأفعال، في منتدياتها المختلفة المنظّمة والشعبية، لتخرج بمعطيات جديدة لتطوير الوعي السياسي، وهياكله، بما يساعد على إعادة بناء الواقع السياسي الفلسطيني، لصالح تطلعات الشعب الفلسطيني، بعيدا عن التطلعات الفصائلية الضيقة. أما أن يدفن كل طرف رأسه في رماله الخاصة، ويستمر فيما يقوم به من خطط وبرامج وأعمال، ظنا منه أنها أفضل ما في الإمكان؛ فإن ذلك لعمري أكبر غبن تقدمه للشعب الفلسطيني وقضيته.

الانقسام الفلسطيني لم يعد مجرد ظاهرة سياسية مَرَضية في المشهد الفلسطيني، بل كارثة كبرى تغذّي عبثية الواقع الراهن، وتجعل تضحيات الشعب الفلسطيني بلا معنى

إعادة ترتيب الأولويات

إن هذا الوضع السياسي المزري الذي تعيشه القضية الفلسطينية بسبب الانقسام، يدعو الشارع السياسي الفلسطيني بكل مكوناته وفئاته إلى إعادة ترتيب الأولويات، وإعطاء البيت الداخلي الأولوية القصوى على أولوية مواجهة الاحتلال التي لم تحقق شيئا من تطلعات الشعب الفلسطيني حتى الآن، بل زادت من معاناته وتضحياته.

إنّ ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني يعتبر أولوية الأولويات، بما يعنيه ذلك من إنهاء الانقسام، وتوحيد القيادة الفلسطينية، والتوافق على برنامج تحرر وطني مشترك يحقق أهداف وتطلعات الشعب الفلسطيني. أما الاستمرار في مواجهة الاحتلال على ما هو عليه الوضع حاليا، فهو قفز في الهواء دون حساب، ومواصلة تقديم التضحيات دون قيمة سياسية تُذكر. الأمر الذي يعتبر جريمة كبرى في حق الشعب الفلسطيني وقضيته، تتحمل جميع الفصائل الفلسطينية المسؤولية عنها.

إن إعادة ترتيب الأولويات تتطلب تأجيل جميع أنواع المواجهة العسكرية مع الكيان الصهيوني لفترة زمنية، يلتقط فيها الشعب أنفاسه، وتعمل فيها الفصائل على ترميم هياكلها التنظيمية، وتطوير قدرات كوادرها، وتتفرغ فيها قياداتها للحوار الوطني الشامل لترميم البيت الداخلي، وحسم جميع المسائل العالقة بصورة نهائية لا رجعة عنها، وعلى رأسها:

  1. توحيد السلطة الفلسطينية، وفقا لإحدى الصيغ السياسية التي يتم التوافق عليها بين القوى السياسية، ومن أهمها: إجراء انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة، وهو الخيار الأفضل، ولكن توقيته غير مناسب، وعوامل نجاحه غير متوفرة. تشكيل سلطة ائتلافية، بناء على الوزن النسبي للقوى الفلسطينية في الشارع الفلسطيني. وتعتبر هاتان الصيغتان الأكثر ملاءمة للحالة الفلسطينية الراهنة، أما صيغة تشكيل سلطة انتقالية مؤقتة، أو حكومة ذات قاعدة عريضة، أو غيرها من الصيغ فلا تناسب الوضع الفصائلي القائم في هذه المرحلة.
  2. إعادة هيكلة المؤسسات الفلسطينية للسلطة الجديدة الموحدة، التي ستمثل الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم، بعيدا عن الهيكلة القائمة حاليا، والتي تزيد المشهد الفلسطيني تعقيدا.
  3. إعداد مشروع تحرر وطني مشترك، يتم الاستفتاء عليه من قبل جميع الفلسطينيين في الداخل والخارج، تُسخّر له كافة الإمكانيات لتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني، بعيدا عن حل الدولتين الذي يمثل مضيعة للوقت، ومحرقة للجهد والإمكانيات، ولا يصب إلا في صالح تعزيز أمن الكيان الصهيوني على المدى الطويل وهويته الطويلة المدى كدولة يهودية وديمقراطية، على حد قول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في مؤتمره الصحفي مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو في أعقاب عملية الشهيد خيري علقم.
  4. هيكلة أجنحة المقاومة لجميع الفصائل بما يضمن تبعيتها للسلطة الجديدة الموحدة من جهة، والحفاظ على قوتها وفاعليتها في دعم القرار السياسي ومشروع التحرر الوطني من جهة أخرى.
  5. إعداد الدستور الانتقالي الذي يساعد السلطة على القيام بواجباتها وتحقيق أهدافها، ويحفظ للقوى السياسية والمواطنين حقوقهم ويحدد واجباتهم.
  6. تعديل مناهج التعليم دون الجامعي، بما يتناسب مع برنامج التحرر الوطني، والمرحلة الجديدة من عمر القضية الفلسطينية.
  7. تنظيم الوضع الإعلامي وسياساته وقوانينه بما يتناسب مع هذه المرحلة.

إنّ استمرار الوضع على ما هو عليه لا يناسب المرحلة الحالية التي تمرّ بها القضية الفلسطينية، وسيظل عقل القيادة الفلسطينية منشغلا بتفاصيل عمليات المواجهة والآثار الإنسانية والنفسية والاجتماعية المترتبة عليها، وهو أمر لا ينبغي على الشارع الفلسطيني بمؤسساته وكوادره المختلفة السكوت عليه أكثر من ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.