"السابع من أكتوبر".. أزمة المثقف العربي المهزوم

كتائب الشهيد عزالدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس أثناء استعراض في وقت سابق بغزة (غيتي)

في اليوم العظيم "السابع من أكتوبر"، تبيّن الرشد من الغي، وأصبح الناس في معسكرَين أو فسطاطَين: معسكر الثقة في المقاومة الفلسطينية، ومعسكر البكاء على اللبن المسكوب، والمنهج المفقود؛ "يريدون منهجًا وبرنامجًا اشتراكيًا سوفياتيًا كما كان في فيتنام ".

 عبقرية عسكرية

معسكر الثقة في المقاومة قرأ دلالةَ اليوم نفسه، فهو اليوم المكمل للسادس من أكتوبر منذ نصف قرن من الزمان، وهو ذلك اليوم الذي توحّدت فيه الأمة العربية، مدعومة بالأمة الإسلامية، وأمة "عدم الانحياز"، والاتحاد السوفياتي "المتفكك". وكان توحد الأمة العربية، نابعًا من "عبقرية "العسكري الوطني "عبدالمنعم رياض"، ومعه العبقري الوطني "الفريق محمد فوزي".

فقد أدركا منذ وقت مبكر أن "مصر" وحدها، لن تستطيع أن تهزم" إسرائيل"، مخلب القط الاستعماري، وأن "الأمة العربية"، يجب أن تتوحّد وتخوض معركة "قومية" ضد هذا الكيان الاستعماري الذي شقّ قلب الأمة العربية، وقضى على كل مشروعات النهضة فيها، وزرع "عصابات سياسية وثقافية "، تسبّح بحمده، وهي مرتدية "الزي العربي " وناطقة باللغة العربية.

وكانت "كامب ديفيد "إجهاضًا لكل ما جرى في "السادس من أكتوبر"، وعاش "مبارك" على ذكرى ما قامَ به في ذلك اليوم بحكم مسؤوليته الوظيفية في الجيش المصري.

وأسقط الإعلام المباركي البُعد العربي من ذاكرة المصريين، فنسي الناس في مصر، مشاركات العرب في الحرب، واختصرت الحرب إلى ذكرى جميلة، وانعزلت مصر عن محيطها العربي، وجلست في صفوف المتفرجين، وتحوّل "مبارك" إلى جهاز تحذير سياسي، كلما قصفت "إسرائيل " قطاع غزة، خرجت ـ الأهرام ـ بمانشيت أسود: "مبارك يحذّر من العدوان على غزة".

وبعد إطلاق التحذير، تطلق إذاعة الأغاني الحكومية أغنية: "عربية يا أرض فلسطين"، وتعود الحياة إلى مسارها الطبيعي، وترسّخ لدى الناس في مصر وغيرها أن ما حدث في السادس من أكتوبر- وقبلها "حرب الاستنزاف" التي هزمت فيها إسرائيل وطلبت وقف إطلاق النار- كان "غلطة " ولن تعود، "حسَب قول أم كلثوم في أغنية لها".

مثقف مهزوم

ولكن "غزة" كان لها قول آخر، والمقاومة اللبنانية كذلك، وكانت حرب يوليو/ تموز 2006، بداية تحطيم النموذج العسكري الصهيوني- الأميركي، وكانت "الميركافا" الدبابة الصهيونية، المدمرة بصاروخ المقاومة، والجندي الصهيوني "الباكي "، ثمرة الحرب التي انتصرت فيها المقاومة اللبنانية.

ورغم هذا كله، لم يرَ "المثقف العربي المهزوم" غير عمارات وبنايات بيروت المدمرة، والعائلات اللبنانية المهجّرة، ولم يسمع سوى خطابات منهزمة تهاجم "حزب الله" من منظور مذهبي.

وجرت في النهر مياهٌ كثيرة، وتوحّدت الفصائل الفلسطينية بكافة خلفياتها العقائدية من اليسار واليمين ـ حسب لغة السياسة ـ على برنامج واحد، هو: "تحرير الوطن المحتل" بقوة السلاح، واستطاعت أن تنجز "افتتاحية السابع من أكتوبر"، وهي افتتاحية: "الكفاح المسلح"، من موقع القوة، والوعي بالعصر وأدواته.

وحاولت الآلة الإعلامية صهيونية الجوهر، عربية المظهر أن تقلل من المنجز، كي لا نرى غير البيوت المنهارة، والمشافي المدمرة، ولا نرى الهزيمة والانكسار في عيون وقلوب ومستوطنات الصهاينة.

نعم، هم يريدون إعادتنا لليوم السابق على يوم السابع من أكتوبر. وجاء "بايدن" ومعه جيشه الجبّار، الجرار، وأرغى وأزبد، وهدد وتوعد، واستقدم خبراء الحرب الذين شاركوا في إبادة الشعب العراقي، ولكن "أبوعبيدة" الناطق العسكري باسم "المقاومة الفلسطينية "، أصبح النجم المحبوب لدى الجماهير العربية والإسلامية لما يبثه من بيانات تثلج الصدور، وتحفز الهمم، وتقوي العزائم.

"ما قالته غزة"

أصبح "الشعب" يعلن دعمه للمقاومة بوسائل مبتكرة، لكنها ذات دلالة، مثل رسم الأعلام الإسرائيلية على الطرقات ودهسها بالأقدام، ورفع علم فلسطين على البيوت، والمركبات الشعبية، "التوك توك الهندي المستخدم في مصر تحول إلى مقاتل معنوي في جيش المقاومة ".

ولم تظهر وزارات الثقافة العربية، ولم تقم قوافل المثقّفين المدعومة من الحكومات بالأداء التقليدي، مثل: تنظيم أيام ثقافية، ومِهرجانات شعرية. وفي مصر، أحرج المثقفون وزيرة الثقافة، فنظمت أسبوع الفيلم الفلسطيني، ولم يشعر به غير سكان "حي الزمالك"، الذي تقع الأوبرا بالقرب منه.

وقامت "دار ميريت " بنشر كتاب: "ما قالته غزة"، وهو عمل تطوعي، شارك فيه شعراء من غزة، واليمن، والجزائر، ومصر، وتونس، وكتب مقدمته ـ الدكتور نبيل عبدالفتاح ـ ورسم لوحاته وصمم غِلافه الفنان أحمد اللباد، وتكفّلت "ميريت" بطبعه على نفقتها الخاصة، وبيع الكتاب بسعر التكلفة.

ورغم إشادات بعض "المثقفين" بالكتاب، لم يلقَ الترحيب الإعلامي والدعائي المتوقع؛ لأن "المثقف المهزوم" لا يريد أن يصدق ما جرى في "غزة" من هزيمة للصهيونية، والأميركان، والعنصرية، والعصابات التي سيطرت على مقدرات العالم منذ تسعينيات القرن الماضي، بعد تفكيك "الاتحاد السوفياتي "، وإعلان "العولمة الأميركية "، ونهاية التاريخ، وانتصار القيم الأميركية.

نحن لا ننكر أن الحرب في "غزة " قتلت الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، ولا ننكر أن دموعًا سالت ودمًا غاليًا أُريق على أرض الوطن المحتل، ولكن في ظل هذا الحزن والألم، كان الرجل الفلسطينيّ الذي دمّرت الطائرات بيته يلخّص المشهد بعبارة رائعة صادقة: "كله فدا فلسطين، إحنا عارفين فلسطين مهرها غالٍ". ومن يتأمل مضمون هذه العبارة، فسوف يفهم معنى مقولة "ياسرعرفات " عن الشعب الفلسطيني: "شعب الجبارين ".

وشعب الجبارين، دفع ثمن الدعاية الصهيونية والغربية التي اتهمته ببيع أرضه والهروب من الميدان، وهذا لم يكن صحيحًا، فالذين باعوا أرضهم ليسوا فلسطينيين أقحاحًا، لكن الفلسطيني الحقيقي مات، وهو يدافع عن تراب وطنه، ومن فُرض عليه التهجير، لم ينسَ قضيته، ولم يفرط فيها، ولولا الدم ما تحرّرت الأوطان.

والدليل نجده في تاريخ مصر، والجزائر. وكلُّ البلدان التي خضعت للاحتلال، دفعت الدم راضية، وتحرَّرت بدم الشهداء.

أما ـ حكماء الصهيونية ـ الذين ظلوا يتكلّمون عن "ارتفاع التكلفة وفداحة الثمن "، فهؤلاء لا يعبرون عما في أدمغتهم، بل يقرؤون من "المنشورات" الصهيونية التي تلقي بها طائرات إسرائيل قبل قصف البيوت في "قطاع غزة بدقائق"، ويردّدون عبارات التخوين نفسها والتهديد وتحطيم العزائم.

فالرجال الذين صاغوا عملية "السابع من أكتوبر"- وما بعدها من معارك من "المسافة صفر"، وأذلوا جيش الصهاينة وأجبروه على الاستعانة بالمرتزِقة، وحطموا صورته الوهمية التي رسمها في عقول الشعوب العربية على مدى عشرات السنوات- كانوا يعرفون أن البيوت ستهدم، وأن هناك ضريبة سوف يدفعها الناس.

وفي الوقت ذاته كانوا واثقين من قوة "شعب الجبارين" الذي لم يتخلَّ عن "المقاومة" ولم يلعنها، وما زال صامدًا صابرًا؛ رغم إجرام الصهاينة والأميركان، وكانوا يعرفون أن "معسكر المقاومة " لن يتخلّى عن المقاتل الفلسطيني.

خطابات العجز

ولعلَّ الذين شاهدوا المؤتمر الصحفي المشترك لوزيرَي الدفاع الإسرائيلي والأميركي، منذ أيام، رأوا هذا السقوط الأخلاقي للقيم الأميركية، التي صدّعونا بها؛ قيم الحرية، والديمقراطية، والأكاذيب الأخرى التي يروّج لها الأميركي، وإعلامه في كافة أرجاء الكوكب، ورأوا السقوط والهزيمة الصهيونية، وإعادة إنتاج الكلام القديم حول "الهولوكوست ".

وهو خطاب يكشف العجز والتخلف عن إيقاع الحياة، في ظل ثورة الاتصالات وامتلاك الشعوب وسائل عديدة متقدمة لامتلاك المعلومة. لكن "المثقف العربي المهزوم" ما زال أسيرًا للمقالات والدراسات التي تتناول "هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967″، وكأن هذه الهزيمة وقعت بالأمس.

والحقيقة التي لا سبيل لإنكارها؛ هي أن "المقاومة الفلسطينية " انتصرت، وسوف يرى المهزومون- نفسيًا ومعنويًا من المثقّفين العرب- أنها مقاومة وطنية هادفة لتحرير فلسطين، وتحرير الشعوب العربية من أوهام الصهيونية وأبواقها وخدمها من المثقفين والساسة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.