الحرب على غزة وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها

رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، يصر على مواصلة القتال في غزة.
رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، يصر على مواصلة القتال في غزة. من تصوير مكتب الصحافة الحكومي الذي عممها للاستعمال الحر والنشر في وسائل الإعلام

استعمل المسؤولون السياسيون الغربيون تعبيرات عدة لتسويغ تأييدهم الحربَ الإسرائيلية على غزة، التي ستبلغ شهرها الثالث قريبًا؛ بالرغم من سقوط آلاف الشهداء، وعشرات الآلاف من الجرحى، فضلًا عن الكارثة الإنسانية غير المسبوقة التي تسبّبت بها هذه الحرب.

علمًا بأن أغلبية ضحايا هذه الحرب هم من "المدنيين" وَفق الاصطلاح الغربي، وخاصة من الأطفال والنساء.

في المقال الماضي، تناولت أحد مسوغات الاستمرار في الحرب؛ بالرغم من كلفتها الإنسانية العالية جدًّا، وهو تعبير: "الأضرار الجانبية" (Collateral damage)، أما هذا المقال فسأخصصه لتعبير آخر استُخدم بكثرة لشرعنة الحرب ابتداءً واستمرارًا، وهو: "حق الدفاع عن النفس"، وقد كان هذا التعبير أول التعبيرات استخدامًا لشرعنة الخيار العسكري الذي أدى إلى هذه المجازر الجماعية والمعاناة غير المسبوقة، وفيما يأتي سأوضح كيف أن "حق الدفاع عن النفس" استُخدم لتسويغ الخيار السياسي للدول الداعمةِ إسرائيلَ؛ بمعزل عن أي غطاء قانوني أو أخلاقي.

بل حتى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي تواجه بلاده منذ نحو سنتين عدوانًا روسيًّا، انضم إلى الجوقة، فقال: إن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس "لا يرقى إليه الشك"

استُخدم "الحقّ في الدفاع عن النفس" مباشرة عقب عملية "طوفان الأقصى"، وقد لعبت الولايات المتحدة الأميركية دورًا مركزيًّا ومؤثّرًا في إشاعة هذه الحجّة وفرضها في سياق الحرب على غزة.

ففي 7 أكتوبر/تشرين الأول، طرح الرئيس الأميركي جو بايدن فكرة أن "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها وشعبها"، ثم في 15 أكتوبر/تشرين الأول، أكدت دول الاتحاد الأوروبي ما سمّته: "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وَفقًا للقانون الدولي".

وفي 21 أكتوبر/تشرين الأول، قال بيان أميركي أوروبي مشترك: إن لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها بما يتماشى مع القانون الدولي والإنساني. وفي 22 أكتوبر/تشرين الأول أفاد مصدر دبلوماسي، في مجلس الأمن الدولي للجزيرة، بأن الولايات المتحدة توزع مشروع قرار يؤكد ما تسميه: "حق إسرائيل الأصيل في الدفاع عن النفس"، وفق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.

في 23 أكتوبر/تشرين الأول، عُقد اجتماعٌ عبر الهاتف دعا إليه بايدن، وجمع كلًا من: الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، وأُصدر بعده بيان مشترك يعلن دعم هذه الدول جميعًا لـ"حق إسرائيل في الدفاع عن النفس ضد الإرهاب"، ولكنهم طالبوا إسرائيل -أيضًا- بالالتزام بالقانون الدولي الإنساني، وحماية المدنيين.

بل حتى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي تواجه بلاده منذ نحو سنتين عدوانًا روسيًّا، انضم إلى الجوقة، فقال: إن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس "لا يرقى إليه الشك".

استطاعت إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية -إذن- فرض الإطار السياسي الذي يُشرعن حربها على غزة والفلسطينيين منذ اليوم الأول (7 أكتوبر/تشرين الأول)، وتم تثبيت هذا الإطار ليجري النقاش تحته ومن خلاله، وليصبح ما عداه مجرد تفاصيل يجب أن تحتكم إلى هذا الإطار الكلي المفروض.

وهذا يفسر أمرين شهدناهما في الفترة الماضية، وهما: الأول: التكرار الممل من قبل الأميركيين والأوروبيين عامة لفكرة: "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" في كل مناسبة وفي كل تصريح.

الثاني: العنف الشديد الذي تقابل به إسرائيل أي محاولة لتقييد تحركاتها العسكرية بالقانون الدولي، أو أي مساءلة قانونية لفكرة الحق في الدفاع عن النفس بمعايير القانون الدولي نفسه.

مما يؤكد أن النقاش هنا سياسي -وليس قانونيًّا- أمران: الأول: أن الخلافات السياسية الدولية لعبت دورًا مؤثرًا في معارضة روسيا فكرةَ حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، ففاسيلي نيبينزيا المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة، قال- مطلع نوفمبر الماضي في الجلسة الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة-: "ليس من حق إسرائيل الدفاع عن النفس في الصراع الحالي؛ لكونها دولة احتلال".

فهذا التصريح لا يعكس -في الواقع- حرص روسيا على تطبيق القانون الدولي، وهي التي شنت الحرب على أوكرانيا على خلاف القانون الدولي، وإنما يعكس كيفية تسخير القانون الدولي لخدمة سياسات الدول الكبرى وخلافاتها السياسية.

الأمر الثاني: صحيح أنه كان ثمة تصريحات من قبل القادة الغربيين -سواء في أميركا أم في أوروبا- تؤكد على حق الدفاع عن النفس، إلى جانب احترام القانون الدولي وضرورة حماية المدنيين، ولكن "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس" وجد ترجمته الفعلية في الدعم السياسيّ والعسكريّ والماليّ لإسرائيل.

أما "احترام القانون الدولي" و"حماية المدنيين" فبقيت مجرد كلام؛ لم يُترجم بأي تحرك عملي أو حتى بمجرد موقف نقدي من كيفية تفسير إسرائيل حقَّ الدفاع عن النفس أو كيفية تطبيقها له، والآثار الفعلية التي وقعت بسبب استخدام هذا الحق المزعوم، خصوصًا أننا نتحدث عن جرائم حرب، وكارثة إنسانية مستمرة وغير مسبوقة.

وبناءً على هذين الأمرَين: فإن الدول التي خضعت لهذا الإطار السياسي المرسوم للحرب، تتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية سواء عن كيفية فهم إسرائيل له، أم عن كيفية تطبيقه على الأرض، خصوصًا مع وجود تصريحات إسرائيلية رسمية معلنة عن ذلك.

فقد فسر جلعاد إردان، سفير إسرائيل في الأمم المتحدة، مفهوم إسرائيل لحق الدفاع عن النفس -في الحرب على غزة- بأنه "يعني: ضمان عدم تكرار مثل هذه الفظائع أبدًا. والطريقة الوحيدة لضمان ذلك هي القضاء على قدرات حماس الإرهابية، ولهذا السبب بالتحديد قاموا ببناء بنيتهم التحتية الإرهابية داخل المناطق المدنية".

يعني هذا أن التقديرات السياسية والعسكرية هي المرجعية في "حق الدفاع عن النفس"، وأن تطبيقه يعني تدمير تلك البنية المدنية، بغض النظر عن الضحايا قتلًا وتهجيرًا وتشريدًا؛ لمجرد الزعم بأن حماس تستخدمها لتهديد إسرائيل التي هي دولة احتلال أصلًا.

ويزيد الأمرَ وضوحًا تصريحاتُ إسحاق هرتسوغ، الرئيس الإسرائيلي؛ فقد زعم أن: "إسرائيل أرسلت 6 ملايين رسالة و4 ملايين مكالمة هاتفية للمواطنين في غزة؛ وفقًا لقواعد القانون الدولي. وأعطينا إنذارًا لهم قبل الهجوم على مخيم جباليا. رجاءً اُخرجوا؛ لأنه بما أن لدينا الحق في الدفاع عن النفس، فإننا نريدكم أن تخرجوا من المكان الذي تطلق منه الصواريخ والمدافع والقنابل وقذائف الهاون على شعبنا".

طبعًا يسوق هرتسوغ هنا هذا الكلام؛ في معرض بيان أخلاقية إسرائيل والتزامها بالقانون الدولي؛ رغم أن كلامه نفسه يدين إسرائيل؛ لأنه يطالب الفلسطينيين بأن يشكروا إسرائيل على تهجيرهم من بيوتهم والتسبب بكارثة إنسانية لهم!

فكلامه نص صريح بتهجير نصف سكان قطاع غزة على الأقل من دون وجود أي ضمانات أو ترتيبات إنسانية مسبقة؛ بل إنه يختزل القانون الدولي بمجرد إرسال تحذير للناس بضرورة إخلاء مساكنهم والتوجه إلى مكان آخر في قطاع مكتظ جدًّا، وتحت القصف، ومن دون مأوى أو مكان آمن أو حتى مساعدات إنسانية!

فهمت صحيفة "لوموند" الفرنسية -في افتتاحية 10 ديسمبر 2023- أن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس أصبح هو: "الحق في تدمير كل شيء"؛ منذ أن أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أن إسرائيل تواجه "حيوانات بشرية"، وأنها "ستعمل على هذا الأساس"، ومن ثم تحوّلت إستراتيجية إسرائيل الرامية إلى القضاء على حماس إلى نشر الموت في كل مكان، وقصف المستشفيات، ونشر العَوَز وتجويع مئات الآلاف من البشر بحسَب الصّحيفة.

ولتأكيد فكرة أن ما سبق كله إنما يدور حول وضع إطار سياسي لشرعية الحرب على غزة في صورة إطار قانوني، لا بدّ من بيان ثلاثة أمور مهمة من الناحية القانونية:

الأمر الأول: أن نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي جرى توظيفها فيما سبق، تقول: "ليس في هذا الميثاق ما يُضعف أو ينتقص الحقّ الطبيعي للدول – فرادى أو جماعات – في الدفاع عن أنفسهم؛ إذا اعتدت قوّة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي".

فالمادة تتحدث هنا عن ثلاثة أمور، هي غير متوفرة بالنسبة لإسرائيل في غزة: أولها: الحق في الدفاع عن النفس في مواجهة أي عدوان صادر عن دولة أخرى (وليس عن حركة أو جماعة).

ثانيها: أن المادة تتحدث عن تحرك مباشر لرد العدوان الصادر من دولة أخرى إلى أن يتسنى لمجلس الأمن أن يتخذ التدابير اللازمة لإرساء الأمن.

وثالثها: أن هذا التحرك يجب أن يتقيد بالقانون الدولي الإنساني؛ فلا يمكن استخدام القانون الدولي وانتهاكه في الوقت نفسه؛ إذ إن شرط مرجعيته أن يتم احترامه على طول الخط وليس التعامل معه بانتقائية.

الأمر الثاني: سبق لمحكمة العدل الدولية أن أصدرت قرارًا يوضح عدم شرعية بناء إسرائيل الجدارَ العازل، وفي ذلك القرار نصّ يوضح أن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة ليست ذات صلة بما يجري داخل فلسطين، وأن الهجمات ضد إسرائيل لا يمكن عزوها لـ"دولة أجنبية"، ومن ثم فالتهديد الفلسطيني الذي تستشهد به إسرائيل لشرعنة بناء الجدار القائم داخل أرض تسيطر عليها إسرائيل، لا صلة له بالمادة 51 من الميثاق.

ثم إن حيثيات هذا القرار تنطبق على ما يجري الآن أيضًا؛ أي أن إطار "حق الدفاع عن النفس" الذي فرضته الولايات المتحدة بفضل تحركاتها السياسيّة ليس له مستند قانوني.

الأمر الثالث: أن الإطار القانوني لما يجري هو أن إسرائيل دولة احتلال، وفق القانون الدولي، ومن ثم فليس لها الحق في الدفاع عن نفسها هنا؛ إذ إن غزة ليست دولة ولا تتمتع بأي صفة قانونية مستقلة وفق القانون الدولي، فهي ليست كيانًا مستقلًا؛ لأنها جزء من "الأراضي المحتلة".

ومن ثم فإن عناوين التغطية الإخبارية التي وضعتها القنوات التلفزيونية الشهيرة كـ"السي إن إن"، والـ"بي بي سي" وغيرهما يجب أن تُساءل؛ من جهة أنها تستعمل تعبيرات مضللة من الناحية القانونية وتعكس – حقيقة – المواقف السياسية الغربية.

فعناوين مثل: "الحرب بين غزة وإسرائيل" أو "الحرب بين إسرائيل وحماس" أو نحو ذلك مضللة؛ إذ إنها تنقل النقاش من إطار "الاحتلال" إلى إطار "الدفاع عن النفس"، وبيان ذلك من خلال خمس نقاط:

  • النقطة الأولى: أن عناوين التغطية الإخبارية تنزع الحدث من سياقه القانوني والطبيعي، وهو أنها حرب تمارسها دولة عسكرية على جزء من أراضٍ واقعة تحت الاحتلال، ولا تتمتع بأي صفة قانونية.
  • النقطة الثانية: أن تلك العناوين توحي – ابتداءً – بأننا أمام "حرب نظامية" بين قوتين عسكريتين متوازيتين، في حين أن قطاع غزة ليس لديه جيش نظامي، ولا قوة عسكرية نظامية، بل هو شعب تحت الحصار منذ نحو 17 عامًا.

ومن ثم فهي -من الناحية القانونية والعسكرية النظامية- حرب من طرف واحد تواجه حركات مقاومة مسلحة تدافع عن أرضها وناسها، ولأجل هذا كله فإن تسمية ما يجري بالنزاع المسلح خطأ أيضًا من الناحيتين؛ القانونية والأخلاقية.

  • النقطة الثالثة: أن وضع النقاش في سياقه الطبيعي -وهو أن إسرائيل دولة احتلال- يحمّلها مسؤولية قانونية وأخلاقية عن الشعب الخاضع للاحتلال بموجب القانون الدولي (كتزويد السكان بالحاجات الإنسانية، فضلًا عن حماية المدنيين)؛ بخلاف ما لو كانت دولة إسرائيل تخوض حربًا مع دولة أخرى، ففي هذه الحالة لا تتمتع بأي مسؤولية تجاه سكان البلد الذي تشنّ الحرب عليه؛ لأن مسؤوليته – في هذه الحالة – تقع على عاتق دولته والسلطة التي تتولى شؤونه.
  • النقطة الرابعة: أن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت قد أقرت عام 1982 بـ"شرعية نضال الشعوب في سبيل الاستقلال والسلامة الإقليمية، والوَحدة الوطنية، والتحرّر من السيطرة الاستعمارية والأجنبية، والاحتلال الأجنبي بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح"، الأمر الذي يعطي شرعية قانونية لحركات مقاومة المحتل الإسرائيلي.
  • النقطة الخامسة: أن اختزال الحرب بكونها بين حماس وإسرائيل، أو بين إسرائيل وغزة، ينطوي على نزع صفة الإنسانية عن سكان قطاع غزة البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة غالبيتهم من الأطفال والنساء وعموم المدنيين، وهم المتضرر الأكبر في هذه الحرب، ولا يحظون بأي أهمية، بل يجري التعامل معهم على أنهم مسألة ثانوية بالنسبة للأهداف العسكرية في الحرب!.

لطالما زعم المستعمرون امتلاكهم حقَّ الدفاع عن النفس ضد مقاومة السكان الأصليين أصحاب الأرض والحق، وقد شكل هذا الحق -دومًا- غطاءً لارتكاب العديد من المجازر وأفعال الترويع والتعذيب والتجويع، وتاريخُ الاستعمار الحديث في عالمنا شاهد على ذلك، في حين أن المنظورَين؛ القانوني والأخلاقي لهذا الحق يفرضان أمرَين: اعتبار السياق الكامل للحدث، (وهو أننا أمام دولة احتلال)، والقوة التي تستطيع فرض القانون ومرجعيته؛ بعيدًا عن تلوّنات السياسيين الذين يستعملون هذا الحقَّ لإضفاء الشرعية على المزيد من أعمال القتل والقمع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.