الناشر والمؤلف في مصر.. حكاية عن الظلم والسرقة

معرض القاهرة الدولي قبلة الناشرين والزائرين والمبدعين من جميع أنحاء العالم (الأناضول)

في زمن مضى، كتب الدكتور طه حسين، رسالة إلى "دار المعارف" العريقة التي أسّسها في مصر واحدٌ من المثقفين "الشوام" في القرن الماضي، شكر فيها إدارة الدار على اهتمامها بنشر أعماله، وطلب "سلفة مالية " من الدار، حتى يستطيع الوفاء بنفقات رحلته السنوية إلى فرنسا.

وفي مسلسل "زينب والعرش" المأخوذ عن رواية "فتحي غانم"، ظهرت علاقة الناشر بالكاتب، وكانت علاقة راقية؛ الناشر ممسك بنسخة من "عقد نشر"، والكاتب الصحفي جالس جلسة اعتزاز بالنفس، والنديةُ واضحة في علاقة الطرفَين، ولكن كل هذا انتهى.

لقد أتى زمان على المؤلفين، جعلهم "مساكين" يتسوّلون النشر في الهيئتَين الحكوميتَين الخاضعتَين لوزارة الثقافة المصرية: "الهيئة العامة للكتاب والهيئة العامة لقصور الثقافة"؛ لأنَّ النشر فيهما يعني الحصول على مبلغ مالي، يستطيع به المؤلف الفقيرـ وغالبية المبدعين والمؤلفين فقراءـ التصديَ لمطالب الحياة اليومية: من طعام وشراب وكساء.

وأصبح "الفساد" متحكمًا في السلاسل التي تصدر عن الهيئتين، فلو أنّ شاعرًا أو روائيًا تربطه علاقة مع "رئيس الهيئة " وهو "دكتور" من المَرْضيّ عنهم من جانب " السلطة الثقافية" فإنّ ديوانه أو روايته أو كتابه، يجد طريقه للنشر بسهولة، والعكس صحيح.

 أغلفة قبيحة

علامات الفساد في النشر في هاتَين الهيئتين، تجدها واضحة في "فاترينات" العرض الموجودة في منافذ بيع الكتب الخاصة بهما، على هيئة أغلفة قبيحة، رديئة التصميم والطباعة، وعناوين تافهة لا تضيف للقارئ شيئًا جديدًا.

وهي في أغلب الأحوال "رسائل جامعية" لأكاديميين من أبناء "أجهزة الأمن الثقافي" الذين حصلوا على الدرجات العلمية بطرق ملتوية، تقوم على الاستلطاف والمصالح والهدايا. ونشرُ هذه الرسائل في كتب، يمثل لهم "وجاهة " وأبّهة تزيد من وزنهم الاجتماعي والإداري داخل أسوار الجامعات التي يعملون فيها.

وهيئة قصور الثقافة، هي في الأصل هيئة مهمتها تقديم الثقافة للجماهير، ولم يكن النشر من الأعمال المكلفة بها، فهي كانت تحمل اسم "الثقافة الجماهيرية" وفكرتها استوردها "الدكتور ثروت عكاشة " ـ الضابط بسلاح الفرسان ـ من دولة "يوغسلافيا" في زمن "ناصر وتيتو"، وكان توليه منصب وزير الثقافة مواكبًا لزمن تعبئة "الجماهير"، وحشدها في صف النظام الحاكم في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

حظيرة المثقفين

وجاء "فاروق حسني " وجلس على مقعد وزير الثقافة، وجعل "هيئة قصور الثقافة " تنشر آلاف الكتب سنويًا، وهو الدور الذي تقوم به " الهيئة العامة للكتاب". وابتلعت ميزانية نشر الكتب، ما كان مخصصًا للمسرح والفن التشكيلي والأنشطة الأخرى، فأصبحت عملية "نشر الكتب"، مربحة للمبدعين العاملين في "هيئة قصور الثقافة"، والهيئة نفسها تحولت إلى جهاز لامتصاص "جيش العاطلين" من المبدعين وأنصاف المبدعين والذين لا يجيدون صناعة أو حرفة يتكسّبون منها.

كان الزمن زمن "إرهاب مسلح" يواجه النظام المباركي الحاكم، وكان "فاروق حسني" يلعب لعبة: "أطْعم الفَم تستحي العين"، ونجحت اللعبة في خلق تيار من "الكَتَبة والمتعلمين" الذين يسبّحون بحمد النظام "المدني" الحاكم، وهو لم يكن مدنيًا، بل كان بوليسيًا صريحًا.

ولم يكتفِ ـ وزير الثقافة ـ بما فعل، بل قال بكل وضوح في حديث صحفي مسجّل: "أنا وزير الثقافة الوحيد الذي أدخل المثقّفين حظيرة وزارة الثقافة"، وهي بالفعل كانت "حظيرة" تسمين وعلف لمنتحلي صفة "مثقف".

والمدهش في أمر هاتين الهيئتين أنهما توظفان رقباء على الإبداع، فلا تنشران إلا ما يجيزه هؤلاء الرقباء، وهذه الرقابة جعلت المبدعين الذين يحترمون أنفسهم وإبداعهم يلجؤُون للنشر الخاص، وهنا اتّضح الظلم وظهرت السرقة، فالناشر الخاص يطلب من المبدع "مساهمة مالية"، كانت في تسعينيات القرن الماضي حوالي "ألف جنيه مصري"، وبلغت في هذه الأيام أرقامًا ضخمة.

عقد إذعان واحتيال

يدفع المبدع المساهمة المالية، ويطبع الناشر الكتاب، ويوقع عقد إذعان مع المبدع أو المؤلف، يشترط فيه عدم انتقاده على "شبكة الإنترنت"، وعدم إلزامه بموعد محدد لنشر الكتاب.

وفي حال فوز الكتاب بجائزة مالية، يكون من حق الناشر الحصول على نصف قيمتها المالية، ولو أن الكتاب "رواية مثلًا" تم تحويله إلى فيلم أو مسلسل، لكان من حق الناشر، الحصول على نسبة مما يتقاضاه الكاتب من جهة الإنتاج.

كما أنَّ مدة "العقد" لا تقل عن خمس سنوات، ويتولى المبدع أو الكاتب الدعاية للكتاب، مستفيدًا من شبكة علاقاته ومعارفه من الصحفيين والعاملين في وسائل الإعلام، ولا توجد آلية تمكّن الكاتب أو المبدع من معرفة عدد النسخ التي طبعها الناشر، أو معرفة المتحقّق من أرباح، رغم نصّ العقد على: "يحصل الطّرف الثاني على نسبة كذا من الأرباح"، والطّرف الثاني، لا يعرف عدد النسخ المطبوعة أو التي بِيعت بالفعل.

وإن امتلك الجرأة وسأل ـ الناشر الكبيرـ عن نسبة الربح حسب المنصوص عليه في العقد، تهّرب الناشر، وقال ببساطة: " الكتاب ما باعْش ولا نسخة، هو موجود في المخزن وأنا خسرت فيه".

ومع تضخّم أعداد الكتّاب والراغبين في الحصول على لقب روائي وكاتب، اتّسع مجال الظلم والسرقة في سوق النشر الخاص، ومع تقدم الصناعة في الصين- وظهور مطابع من نوع جديد، تطبعُ عشرَ نسخ أو خمسًا- تحوّل الأمر إلى "خداع ونصب"، فالمساهمة المالية التي يدفعها "المؤلف" للناشر، يدفعُ الناشرُ منها تكلفةَ عددٍ من النسخ يعطيها للمؤلف، ويستولي لنفسه على بقية المبلغ، ويعود المؤلف إلى بيته سعيدًا، فيوقّع النسخ لعائلته وأصدقائه ويحتفل بطباعة ونشر كتابه، الذي لم تطبع منه غير مجموعة النسخ التي حملها في حقيبته.

بعض الناشرين ـ من اللصوص المحترفين ـ يضع عدة نسخ من الكتاب لدى بائع صحف في وسط القاهرة أو لدى اثنَين، فيرى المؤلف نسخة من كتابه لدى هذا البائع، ويتوّهم أن كتابه يغرق الأسواق ويحتلّ أرفف المكتبات في كل القرى والمدن والمحافظات والنجوع والقِفار!

كل هذا يحدث في سوق النشر في مصر، وما زال دولاب النشر يعمل وَفق قانون "الظلم والسرقة" وما زال النيل يجري، وما زال الناشرون يأكلون لحوم أبدان المؤلفين، والقائمون على النشر في "هيئة الكتاب" و"هيئة قصور الثقافة" ينشرون الكتب التافهة ويتقاضون الأموال، وما زالت الفئران في مخازن الهيئتين الحكوميتين تلتهم ما طُبِعَ من كتب لا تحمل أفكارًا، ولا تضيف للثقافة شيئًا، وكأنَّ الهيئتين اتحدتا على هدف واحد، هو تسمين "فئران" الوطن!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.