الهدنة التي عمّقت معضلة اليوم التالي لوقف إطلاق النار

الرئيس الفلسطيني محمود عباس (رويترز)

 

يبدو أنَّ معضلة قرار وقف إطلاق نار دائم في قطاع غزة هي مشكلة سياسية إسرائيلية وغربية أكثر منها عسكريةً عملياتية. فقد ألزمت إسرائيل نفسها بهدف صعب المنال تحت ضغط الصدمة التي تسبب بها هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

فبعد حوالي خمسين يومًا- من قصفٍ رهيب، وماكينة قتل جماعي غير مسبوقة تسبّبت بذبح أكثر من 15 ألف مدني فلسطيني حتى الآن- وقفت حماس نِدًا بنِد أمام إسرائيل في مفاوضات الهدنة المؤقتة من أجل تبادل السجناء.

وعكست عمليات التبادل خلال أيام الهدنة سيطرةً وتحكمًا من قبل القسام على مناطق القطاع، بما فيها شمال غزة الذي تحاصره أكثر من 350 آلية مدرّعة وآلاف الجنود الإسرائيليين.

إنّ كابوس إسرائيل الحقيقي يكمن في جواب السؤال الصعب، من سيحكم غزة في صباح اليوم التالي لوقف إطلاق النار؟ وإجابة هذا السؤال معقدة ومتشعّبة، فهي لا تطرح سؤال الحكم والسلطة في غزة فقط، وإنما تطرحه في تل أبيب أساسًا، حيث يُجمع المتابعون على أن نهاية نتنياهو السياسية هي النتيجة المحسومة التي بدأت بها الحرب.

بالإضافة لذلك، فإنّ سؤال الحكم في الضفة الغربية، هو الآخر يطلّ برأسه بشكلٍ ما، فمع تلاشي هيبة السلطة الفلسطينية سياسيًا وأمنيًا، يبدو حكم الرئيس عباس هو الآخر تحت تهديد تطور الديناميات الاجتماعية في الضفة المحتلة، التي تتفاعل مع مشهد غزة بطريقةٍ كانت من المحرّمات يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول.

كانت الكيانية السياسية للسلطة الفلسطينية طوال السنوات الماضية هدفًا لليمين الإسرائيلي، الذي طوَّر في العقد الأخير رؤية وظيفية جديدة لدور السلطة الممكن في الضفة الغربية، تقوم أساسًا على نزع السياسي، وتركيز المحلية الخدماتية، في مقاربة لفكرة "روابط القرى الفلسطينية" في سبعينيات القرن الماضي تحت حكم الليكود.

وهو دور دعمته الدول المانحة الغربية، الشريكة عن قصد أو بدون قصد في إنتاج الشكل الحالي للسلطة في الضفة الغربية.

الطريق إلى رام الله

فخلال السنوات الماضية بدت المقاطعة في رام الله مبنًى حكوميًا فاقدًا للزخم، معزولًا عن الأجندة الدولية والإقليمية. ولم تُسجل زيارات رفيعة المستوى لمسؤولي السلطة إلا على وقع التصعيد العسكري في غزة.

ففي حرب 2021، كما في هذه الحرب، تذكر المسؤولون الغربيون الطريق إلى رام الله، وأن شيئًا ما يمكن نقاشه هناك في ضوء التصعيد الحاصل، بعد شهور وسنوات من اعتداءات الاحتلال المسكوت عنها في حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى، وعموم الضفة.

هكذا المسألة في العشر سنوات الأخيرة، تبقى انتهاكات الاحتلال قابلة للتغطية بالصمت أو بإدانات رفع العتب، إلى أن تقرر الفصائل الفلسطينية في غزة كسر ذلك الصمت.

يرسل الرعاة الدوليون رسالة مفادها، أن المسكوت عنه فلسطينيًا مسكوتٌ عنه دوليًا. وهي معادلة منطقية يعيد الحكماء إنتاج تعبيراتها اللفظية بطرقٍ شتى منذ الأزل.

يمكن القول: إن زخم ربطات العنق الدبلوماسية في رام الله، تصنعه البزات العسكرية في غزة؛ هكذا رسم الفاعلون الدوليون قاعدة تجريبية في السياسة الفلسطينية.

وهكذا كان التفاعل الدولي الراعي للمسارات السياسية الفلسطينية – الإسرائيلية، سلبيًا على الدوام مع الضحية قليلة الكلفة. فقد اجتمع العالم لصناعة مسار مدريد فقط بعد الانتفاضة الأولى، واجتمع من أجل دمقرطة الفلسطينيين عبر انتخابات مدعومة دوليًا بعد الانتفاضة الثانية. يتحول الشرق الأوسط لعاصمة الدبلوماسية العالمية عندما يصرخ الاحتلال فقط.

مع كل الاستثمار الدولي في صناعة الاحتلال الفاخر، تختلف النتائج هذه المرة. فالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أُضعفت إسرائيليًا وغربيًا إلى الحد الذي لم تعد فيه جوابًا لسؤال غزة وما بعد حربها.

وإذا تمكّنت حماس من النجاة واستمرارها في حكم القطاع- وهو الراجح فيما يبدو قياسًا على المشهد الحالي- فإنّ قناعاتٍ سياسيةً جديدة ستتشكل ليس في فلسطين وحدها، وإنما في العالم برمته.

هذه الحرب لم تُثِرْ فقط عناد المقاتلين، بل أثارت حتى حفيظة الحلفاء والمسالمين من دولٍ ذات علاقة وثيقة مع الغرب، وسلام مع إسرائيل. فمصر والأردن وقفتا بثبات حتى الآن أمام مشروع التهجير الذي عكس وقاحةً دولية منقطعة النظير؛ إذ يطلب الاحتلال وحلفاؤه أن يدفع الضحايا كلفة التخلص من أنفسهم.

احتلال قليل التكاليف

نجح الاستثمار الدولي في تثبيت ديناميات تعاقد فلسطينية – إسرائيلية في الضفة الغربية أنتجت احتلالًا عالي المردود قليل التكاليف، لكنه يفشل في تقديم هذه التعاقدية اليوم كإجابة موثوقة عن سؤال اليوم التالي لحرب غزة. فهذه الحرب لحظة حقيقة نادرة تكشف عن ثمن اختلال التوازن في كل شيء؛ سياسيًا وأخلاقيًا وإستراتيجيًا.

خمسون يومًا من استنفار العالم، ووقوفه على رِجلٍ واحدة، لتبدو إجابة اليوم التالي غائبة، ويبدو استمرار الحرب خيارًا وحيدًا لتفادي تلك اللحظة، لكنه ليس الخيار الأسهل بالتأكيد.

هذه الحرب تفقد زخمها، حتى عند داعميها من الدول الغربية. وهذه المسألة تحديدًا كانت مصدر القلق الإسرائيلي، وسبب التعنت الأساسي في إمضاء صفقة التبادل الحالية، التي ما كانت لتتم لولا خوف نتنياهو من السقوط قبل انتهاء الحرب.

هل سيتقبل العالم من جديد توحشًا يمضي بلا أفق؟ فظهور حماس ومقاتليها بكامل قوتهم وقدراتهم العملياتية خلال هذه الهدنة بدا ملمح هزيمةٍ لنتنياهو وجيشه، وقد يبدو سببًا في تآكل دعمه الدولي.

هذا الظهور يقول للعالم الداعم الحربَ، كم خمسين يومًا أخرى سيحتاج من أجل تحقيق الهدف المعلن للحرب؟ وإن كانت هذه الهدنة تمنح جوابًا لهذا، فما جدوى استمرار الحرب، في ظل استمرار حركة الاحتجاج العالمية، التي تثير انقسامات سياسية رأسية وأفقية في كبرى الديمقراطيات الغربية؟

وضعت غزة الجميع في زاوية ضيقة. قد لا يحفز الإحباط الكبير الذي أثاره الموقف الغربي لدى الرأي العام أملًا في تغيير موقفه. وهو كذلك لو كان العامل الأخلاقي وحده من يحدد تلك المواقف.

هذه الهدنة نقلت الجدال من الأخلاقي إلى ما هو واقعي. قد تشتد الحرب أكثر على المدنيين الأبرياء في غزة، وتحصد آلافًا جديدة من أرواح الأطفال من أجل تحقيق إستراتيجية الاحتلال في صناعة ضغط شعبي على المقاتلين.

لكن، وبعكس المأمول من القتل الإسرائيلي في غزة، يتشكل بدون قتال شيء مختلف في الضفة الغربية وخارجها من حواضن التفاعل الفلسطيني وما بعدها، حيث يصعد نجم حماس إلى مستويات لم تحصل منذ تأسيسها.

هكذا يساهم الاحتلال الإسرائيلي، والراديكالية السياسية الغربية في أكبر عملية تجنيد في تاريخ القضية الفلسطينية، ليفتح ذلك الباب على احتمالات قد لا يكون فيها رابح مستقبلًا، إلا من رأى أن الفاقد لكل شيءٍ أصلًا، لا يخوض حربًا خاسرة مهما كانت نتيجتها.

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.