في تفسير التوحش في سلوك الاحتلال تجاه الفلسطينيين

لجرحى الفلسطينيون الذين تم إجلاؤهم من المستشفى الإندونيسي في شمال قطاع غزة (الفرنسية)

دأبت حكومات الاحتلال الإسرائيلي المتعاقبة على التنظير لفكرة ديمقراطية الكيان وطبيعته "المدنية والحضارية"، وعلى أنه الديمقراطية الوحيدة في المنطقة العربية، والامتداد الحضاري للغرب، وأنه خط الدفاع الأول عنها في مواجهة بربرية الشرق. وقد تميز رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو أكثر من غيره في التركيز على هذه الفكرة في كتاباته ومخاطبته الإعلامية للغرب، وركز دومًا على فكرة أن "إسرائيل" تخوض هذه الحروب والمواجهات نيابةً عن الغرب، وقد ذكر ذلك في آخر اجتماع له مع سفراء عدد من الدول الغربية.

في الوقت ذاته، استمر الاحتلال في وسم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، ومحاولة ربطها بكل تجارب الحركات المتطرفة والإرهابية في العالم، وقد نجح في دفع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى تبنّي تلك الرواية، وإدراج غالبية حركات المقاومة الفلسطينية على قوائمها للإرهاب.

إلا أنّ سلوكه المتوحش في الحرب الدائرة على غزة اليوم، تجاوز كل تلك الادعاءات، وكشف عن الطبيعة الراسخة للكيان كدولة احتلال استيطاني إحلالي فاشيّ. ورغم كل محاولاته في بداية المعركة لإظهار المقاومة كمجموعات إرهابية، ومحاولة ربطها بتنظيم "داعش"- من خلال عدد كبير من الروايات الكاذبة والتي تساقطت سريعًا، وكُشف كذبها وفبركتها حتى أمام ومن خلال الإعلام الغربي ذاته الذي تبنّى تلك الروايات في البداية- ظهرت الحقائق واضحة أمام العالم، وبدأت الشعوب والمؤسسات وجهات دولية كثيرة تتبنّى الرواية الفلسطينية المحقة، وترفض وتدين السلوك المتوحش للاحتلال، والمتمثل في محاولة إبادة الشعب الفلسطيني في غزة وتهجيره من جديد، من خلال ارتكاب عدد هائل من المجازر أدّت حتى اليوم لاستشهاد ما يقارب 15 ألفًا من الفلسطينيين، غالبيتهم من الأطفال والنساء.

السلوك المتوحش للاحتلال الإسرائيلي يشبه إلى حد كبير سلوك الأنظمة الفاشية والدكتاتورية في العالم، كما أنه يتطابق مع سلوك القوى الإمبريالية في كل عصر، فهو امتداد لوحشية وإجرام المغول والنازية والمحتل الفرنسي في الجزائر، والأميركي في فيتنام والعراق وأفغانستان، وغيرها من القوى الإمبريالية التي اعتمدت المجازر والبطش بالشعوب والمدنيين، وسيلةً للإخضاع، وطريقًا للسيطرة والهيمنة. وهو بالتأكيد لا يفكر ويتصرف بشكل طبيعي- لأنه إن فعل ذلك لا يمكن أن يكون محتلًا- ذلك أن السلوك الطبيعي والعقل والفطرة السوية لا يمكن أن تقبل القهر والظلم وسلب الحقوق والحريات. فالمحتل له طبيعته الخاصة، التي لا تشبه الآخرين، طبيعته المرضيّة التي تجعله قادرًا على التوحش والتصرف كشيء مختلف عن البشر وبعيدًا عن طباعهم.

الاعتقاد بالتفوق، والنظرة الدونية للآخر هي من أهم سمات الحركة الصهيونية، والتي قادت لتصنيفها رسميًا في الأمم المتحدة  كحركة عنصرية

النقاط التالية يمكن أن تساهم في فهم وتفسير هذا السلوك الإسرائيلي الذي يبدو منهجيًا ومتعمدًا ومدركًا:

  1. القناعة الداخلية بعدم وجود حقّ له في هذه الأرض- وبزيف ادعاءاته التاريخية والدينية حولها، وفقدان شرعية الوجود عليها- يدفعه، وفي محاولة لتعويض ذلك، للاعتماد على القهر والتخويف والقمع والتفوق في امتلاك القوة الذي قد يقود- كما يظن- إلى الإخضاع، لضمان البقاء. وهو في ذلك يستلهم تجارب دول أخرى أقدمت على إبادة السكان الأصليين وقتل الملايين من المواطنين لفرض وجودها، كما حدث مع الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا على سبيل المثال.
  2. إعادة رسم عقيدة عسكريّة جديدة قائمة على إلحاق الأذى الهائل بالحاضنة الشعبيّة والبنى المدنيّة، وكافة مقوّمات الحياة الطبيعية، لكل من يفكر في المقاومة أو يواجه الاحتلال، وهو ما يعني الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، ويطابق أفعال النازية والفاشية تمامًا. ويمكننا القول إنه يحاول أن يطور على ما عُرف بعقيدة الضاحية الجنوبية التي استُخدمت في لبنان عام 2006، وينتج منها نسخة 2023 الأكثر دموية وعنفًا ووحشيةً، بعد أن ضربت عملية القسام العسكرية في السابع من أكتوبر عقيدة ومنظومة الاحتلال العسكرية والأمنية التي اعتمد عليها لعقود طويلة، فقد قُهر الجيش الذي لا يقهر، وانهارت قواته بطريقة فاجأت الجميع أمام رجال المقاومة الفلسطينية، واتضح مدى عجز منظومته وأجهزته الأمنية التي لم تتوقع العملية، ولم تتمكن من إحباطها، وكذلك تبددت أوهام التفوق التكنولوجي الذي طالما تغنى الاحتلال به، وانبهرَ به الكثير من الأطراف الإقليمية والدولية.
  3. عدم الانتماء للمنطقة فكريًا وثقافيًا وتاريخيًا واجتماعيًا، ما يجعل الاحتلال الإسرائيلي متحررًا من تبعات هذا الانتماء والارتباط بمكونات المنطقة. فانعدام الصلات القومية أو الفكرية والثقافية مع شعوب المنطقة، يجعل الاحتلال غير مهتم بنظرتهم له أو بعلاقاته المستقبلية معهم؛ لاعتقاده أنه موجود رغمًا عن إرادتهم، وبقاؤُه مرتبطٌ باستمرار التنكر لهذه الإرادة وقمعها.
  4. الاعتقاد بالتفوق، والنظرة الدونية للآخر، وهذه من أهم سمات الحركة الصهيونية، والتي قادت لتصنيفها رسميًا في الأمم المتحدة- ولفترة طويلة- كحركة عنصرية. وفي هذه المعركة تجلت هذه الصفة بشكل كبير في الخطاب الصهيوني سواء على لسان وزير الحرب أو على لسان الكثير من الصحفيين والأكاديميين والمحللين، وحتى عوائل الجنود، الذين وصفوا الفلسطينيين في غزة بأنهم "حيوانات بشرية"، وأنه لا يوجد أبرياء في غزة سوى الأسرى الإسرائيليين والأجانب، وأن كل سكان غزة إرهابيون يستحقون الموت.
  5. الخوف الذي يسكن أعماق كيان الاحتلال بكل مكوناته، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي. هذا الخوف المرتبط ببعض العوامل التي ذكرت أعلاه، يحرص الاحتلال على إخفائه دومًا، والعمل على إظهار صورة معاكسة له حتى وإن كانت زائفة؛ لأن ظهور أيّ من علامات الخوف أو الضعف ستعني اقتراب النهاية. وللتغطية على هذا الخوف العميق المسكون به الاحتلال- والذي عبر عنه عدد كبير من قياداته من خلال كثرة الحديث عن الخطر الوجودي- يرفع من وتيرة البطش والقتل والمجازر والتدمير "أي التوحش"؛ ليظهر ما يعتقده قوة تساعده على إحداث التوازن النفسي لديه.
  6. ضمان عدم المساءلة والمحاسبة على وحشيته وجرائمه التي لا يتوقف عن ارتكابها؛ نظرًا لاستمرار النفاق والانحياز الغربي الذي يوفر للاحتلال الغطاء لكل جرائمه، ويحول بينه وبين المساءلة من قبل المؤسسات الدولية، يتقاطع ذلك مع الضعف العربي والإسلامي وعدم القدرة على لجم عدوانه ومعاقبته عليه، ولو بالحد الأدنى كقطع العلاقات السياسية والاقتصادية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.