أفريقيا بين دعم إسرائيل ودعم "طوفان الأقصى"

DURBAN, SOUTH AFRICA - OCTOBER 26: Supporters during the ANC KZN Palestinian Solidarity March on October 26, 2023 in Durban, South Africa. The group is standing in solidarity with the Palestinian resistance against Israeli and over the war in the Gaza Strip. (Photo by Darren Stewart/Gallo Images via Getty Images)
مظاهرات في جنوب إفريقيا دعما للمقاومة الفلسطينية ولوقف إطلاق النار في غزة (غيتي)

الموقفُ العامّ لدول أفريقيا جنوب الصحراء، يميلُ بوضوح إلى دعم القضيّة الفلسطينيّة، ويعود ذلك لعدّة أسباب، أهمها؛ أنّ الاحتلال الذي يعيش تحت نِيره الشعب الفلسطينيّ، منذ العام 1948، يستدعي في الذاكرة الجماعيَّة الأفريقيَّة حالةَ الاستعمار الطويل الذي عاشته الشعوب الأفريقية. إلا أنَّ الدعم الأفريقي للحقِّ الفلسطيني كثيرًا ما يشهد حالات من المدّ والجزر وَفقًا للحالة الدولية وتقاطعات المصالح.

يعتبر العام 1973 عامًا مفصليًا في عَلاقة دول أفريقيا جنوب الصحراء بالقضية الفلسطينيّة، حيث قطع معظمها العَلاقات الدبلوماسيّة مع دولة الكيان الصهيونيّ بعد حرب أكتوبر التاريخيّة. ولكن إسرائيل واصلت التقرّب لإعادة علاقاتها مرّة أخرى، وأثمرت هذه الجهود بشكل واضح بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978م، والتي فتحت البابَ مرّة أخرى لإسرائيلَ للتوغّل في القارّة الأفريقية، ثم انفتح المجال أمامها بشكل أكبر بعد اتفاقية أوسلو 1993 مع السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث شعرت الدول الأفريقية أنّ أصحاب القضية قد تصالحوا مع إسرائيل، فلماذا يتخلّفون هم؟.

نتيجة لهذه التطورات- وضغوط الولايات المتحدة الأمريكية والغرب على الدول الأفريقية- انفتحَ الباب واسعًا أمام إسرائيل للعودة إلى القارّة السمراء، واليوم هناك 44 دولة أفريقية تعترف بإسرائيل من جُملة 54 دولة في القارة، بينما أقامت أكثر من 30 دولة أفريقية علاقات دبلوماسية كاملة، وتبادلت السفراء مع إسرائيل.

استغلّت إسرائيل حالة الاعتراف الأفريقي والانفتاح الكبير نحوها، وعملت على تطوير علاقاتها مع الدول الأفريقية، وتوثيق عُرى التعاون في المجال: الأمني، والعسكري، والزراعيّ، وهو ما تحتاج إليه أفريقيا بشكل كبير، لا سيما أنّ خُمْس سكانها يعانون- بشكل دائم- من الجوع ونقص الغذاء.

ولكنّ إسرائيل لم تنجح في كسب ودّ الدول الأفريقية، كما تريد، حيث ظلّت هناك كتلة صلبة مناهضة للتمدّد الإسرائيلي في القارة ومؤسساتها الجامعة، وتجلّى ذلك واضحًا عندما خسرت إسرائيل معركة نَيل صفة العضو المراقب في الاتحاد الأفريقي، وتمكّن التكتل الذي تقوده جنوب أفريقيا والجزائر من تحقيق نصر دبلوماسيّ كبير، عندما رفضت غالبية الدول الأفريقية منح إسرائيل صفةَ العضو المراقب في الاتحاد الأفريقيّ في قمّة العام 2022م.

ردّ الفعل الرسميّ

تفاعلت معظم الدول الأفريقية مع عمليّة "طوفان الأقصى"، وتباينت المواقف بين الدعم الكامل للمقاومة، كما هو الحال في جمهورية جنوب أفريقيا، وبين الانحياز إلى صفّ إسرائيل، كما في موقف جمهورية توغو.

أصدرَ الاتحاد الأفريقي بيانًا، أكّد فيه ضرورة العودة إلى طاولة المفاوضات؛ لإنهاء الصراع بين إسرائيل وحركة "حماس"، ودعا رئيس المفوضيّة موسى فكي إلى العودة لطاولة التفاوض دون شروط مسبقة؛ بغية الوصول إلى حلّ نهائيّ بقيام دولتَين تعيشان جنبًا إلى جنب.

أمّا جمهورية كينيا، فقد كان موقفها منحازًا إلى إسرائيل، حيث صرّح وزير خارجيتها قائلًا: إنّ كينيا تندّد بشدّة بالهجوم الغادر، حسب تعبيره، وأبدى أسفه لوقوع قتلى وجرحى جرّاء الهجوم، ولم يتطرّق إلى ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني في غزّة من مجازر، بينما قال الرئيس الكيني وليام روتو: لا شيءَ يبرّر الإرهاب. وعلى ذات النهج سارت جمهورية توغو، وقال وزير خارجيتها: إنّ توغو تدين بشدّة الهجوم الذي شنّته حركة "حماس" ضد المدنيين، وطالبَ بإطلاق سراح الرهائن.

في المقابل تبنّت جمهورية جنوب أفريقيا موقفًا قويًا مؤيدًا للمقاومة، ودعت إلى وقف الأعمال العدائية، وقالت بشكل واضح: إنّ تصاعد التوتر ناتج عن استمرار الاحتلال غير الشرعيّ للأراضي الفلسطينية، والتوسّع المستمر في المستوطنات، بالإضافة إلى استمرار إسرائيل في اقتحام المسجد الأقصى وتدنيس المقدّسات الإسلامية والمسيحية، فضلًا عن القمع الوحشيّ المستمر الذي يتعرّض له الفلسطينيون.

يزيد التأييد الشعبي للمقاومة الفلسطينية في دول غرب أفريقيا عنه في دول الجنوب والشرق بسبب اتساع رقعة الحريات هناك مقارنة ببقية القارة، وللكثافة النسبية للمسلمين وتعدد الحركات الإسلامية فيه

وأصدر حزب المؤتمر الوطنيّ الأفريقي الحاكم بيانًا قال فيه: إنّ ما قام به مناضلو "حماس" لم يكن عملًا مفاجئًا، ولكنه جاء نتيجة لاستمرار الاحتلال. وأكّد أن ما يجري في فلسطين المحتلة، يذكر بتاريخ الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

وأصدرت وزارة خارجية السنغال بيانًا عبّرت فيه عن قلقِها بشأن ما يجري في غزّة، وطلبت بصفتها رئيسة لجنة الحقّ الفلسطيني في الأمم المتحدة، بضرورة إحياء المفاوضات بين الطرفَين في أسرع وقت ممكن لتحقيق قيام دولتَين مستقلتَين. وفي نيجيريا، دعت وزارة الخارجية إلى ضبط النفس وخفض التوتر ووقف إطلاق النار، والجلوس إلى طاولة المفاوضات للبحث عن حلّ سلمي. كما قامت الحكومة هناك بإجلاء أكثر من ثلاثمائة من رعاياها المسيحيّين الذين كانوا في رحلة دينية لزيارة الأقصى والمعالم المسيحية في فلسطين. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أنّ نيجيريا مهتمة جدًا بتطورات الصراع في فلسطين وآثاره الاقتصادية المحتملة وتأثيره على سوق الطاقة العالمي، باعتبارها أكبر دولة أفريقية مصدرة للنفط.

ويلاحظ من استعراض مواقف الدول الأفريقية من معركة "طوفان الأقصى"، أنّ هناك تيارَين يتصارعان داخل القارّة إزاء هذا الصراع التاريخيّ، حيث تتبنّى جنوب أفريقيا ونيجيريا والسنغال- ضمن دول عديدة أخرى- موقفًا داعمًا للمقاومة، وينادي بوقف القتال والحوار لتنفيذ حلّ قيام دولتَين مستقلتَين، فيما نجد دولًا أخرى تدعم الموقف الإسرائيليّ وعلى رأسها كينيا، توغو، غانا، والكنغو الديمقراطية.

ردّ الفعل الشعبي

ردود الفعل الشعبيّة على "طوفان الأقصى" كانت واسعة جدًا، وأسفرت عن دعم أفريقي شعبيّ كبير للمقاومة، وتعدَّدت مظاهر التّعبير الشعبيّ من التظاهرات الحاشدة في الشوارع، كما هو الحال في جنوب أفريقيا، ونيجيريا، والسنغال، إلى خطب المساجد وحلقات النقاش في الجامعات، إلى المقالات والمناظرات الصحفية على امتداد القارة الأفريقية.

أسهم الإعلام الحرّ وتعدّد المنابر الإعلامية في القارة في تنوير الرأي العام مباشرة بالانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها الآلةُ العسكرية الإسرائيلية يوميًا في حقّ الشعب الأعزل في غزة، وهالتهم مناظر الدماء والأشلاء البشرية والموت الجماعي للأطفال والنساء والتدمير الممنهج والوحشي للمنازل على رؤوس ساكنيها. ومما عزّز الدعم الشعبي الأفريقي للمقاومة، هو انحياز الغرب الكامل لإسرائيل والدعم السياسي والمالي والعسكري الذي تقدّمه لها الولايات المتحدة الأمريكيّة والدول الغربية عامة، يأتي ذلك في وقت يتصاعد فيه الرفض الشعبي الأفريقي لسياسات الدول الاستعمارية في القارة والتي يحملها كل إخفاقات الأنظمة الأفريقية الكارثية منذ الاستقلال، وقد رأينا الثورة العارمة ضد الوجود الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي.

ويزيد التأييد الشعبي للمقاومة بصورة أكبر في دول غرب أفريقيا عنه في دول الجنوب والشرق، ويعود ذلك إلى عدة أسباب منها:

  • اتساع رقعة الديمقراطية والحريات هناك.
  • الكثافة النسبية للمسلمين وتعدد الحركات الإسلامية في ذلك الجزء من القارة.

وقد عبّر عدد من قادة المجتمع المدني الأفريقي عن أسباب دعمهم المقاومةَ، فقال رئيس الجالية المسلمة، وعضو البرلمان السابق في جنوب أفريقيا: "لقد رأينا كيف يتصرف الصهاينة ضد المسيحيين أيضًا، ما يؤكد أنّ القضية ليست إسلامية فقط وإنما مسألة حقوق إنسان يتم انتهاكها، وبلاد يمنع فيها العيش بحرية." ودافع في هذا السياق عن الحقّ في حمل المقاومة السلاحَ، وقال: "إن حركة التحرر في جنوب أفريقيا اضطرت لحمل السلاح ليكون لها تأثير."

وفي جمهورية السنغال، نادى رئيس التجمع الإسلامي السنغالي الشيخ مختار كيبى بـ"وقفة حقيقية لمساندة الشعب الفلسطيني لينال كافة حقوقه."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.