غزة و"جهاد الدفع" بين الحكم والفتوى

من القصف الإسرائيلي على خان يونس في جنوب قطاع غزة (الفرنسية)

في ظل الحرب الإسرائيليّة على غزة وأهلها- والتي خلّفت 11 ألفًا و500 مدني، بينهم 4710 أطفال و3160 امرأةً حتى تاريخ كتابة هذا المقال- أثار عددٌ من المشايخ النقاش حول مفهوم الجهاد وتطبيقاته في سياق الحرب الدائرة، وتحديدًا "جهاد الدفع". ويمكن أن نميّز – في هذا النقاش – بين ثلاثة مواقف رئيسة:

  • الموقف الأول؛ عبّر عنه بيان أعلنه تجمع أطلق على نفسه "مؤتمر علماء الأمة"، وقد قرّر البيان أن جهاد دفع العدوان في فلسطين متعيّن "على كل من كان قادرًا من المسلمين إلى حين إنهاء هذا العدوان إلى غير رجعة". وهذا الواجب يبدأ بـ "من هم بالداخل الفلسطيني"، فإن عجزوا عن رده وصده "فإنه يتعين الجهاد – بحسب المستطاع – على دول الطوق التي تلي فلسطين". و "من تولى عن القتال في داخل فلسطين وعن الجهاد في دول الطوق وتركه فارًّا من واجبه المتعلق به، فهو في حكم الفارّ من الزحف عند تعينه شرعًا"، و"يتحمل وزره بقدر ما يقع من أضرار وأخطار؛ بسبب توليه وتخليه وفراره".
  • الموقف الثاني؛ عبّر عنه الشيخ السعودي سليمان الرحيلي، فقد انشغل – على وجه الخصوص – بمسألة وجوب الجهاد على مَن هم خارج الدولة المعتدى عليها في حال عدم كفاية أهلها للدفاع عنها، ومن ثم قرر أمرين:
  1. الأول: أن ما قرره الفقهاء من أن الجهاد هو فرض على من يلي المعتدى عليهم من إخوانهم؛ مقيَّدٌ بما إذا "كانت الأمة الإسلامية دولة واحدة، تحت راية واحدة، تحت ولي أمر واحد".
  2. الثاني: أن "الذي يخرج من بلده إلى بلد آخر" للقتال مع إخوانه يكون – في هذه الحالة – "طالبًا للعدوّ وليس دافعًا" له، ومن ثم يُطلق على هذا "جهاد الطلب"، وتسري عليه أحكامه؛ من كونه فرض كفاية ولا يكون إلا بإذن ولي الأمر وإذن الوالدين إلى غير ذلك. وقد أوضح الرحيلي أن الواجب على المسلمين "ألا يهيجوا الناس بالعواطف العواصف" من خلال "النداءات التي تُوجّه إلى شباب المسلمين ليتركوا بلدانهم ولا يقفوا عند مواقف حكامهم"، وأن النصر الواجب لإخوتنا في فلسطين يتقيد بما هو مشروع لنا، وهو الدعاء العام والدعاء الخاص.
  3. الموقف الثالث؛ عبّر عنه الشيخ السعودي محمد بن عمر بازمول، فقد قرر أن جهاد الدفع له ثلاث أحوال:
  • الأولى: المواجهة مع الكافر؛ فإما أن يدفعه وإما أن يقتله؛ فهذه صورة دفع الصائل. وهنا لا يُشترط في الدفع شرط ويتعين قتال الصائل.
  • الثانية: أن يَدْهم العدو بلاد المسلمين ولكن لا نكون في مواجهة معه، "ويمكننا الرجوع إلى ولاة الأمر والتحرك بحسب توجيهاتهم"، وهنا لا بدّ من إذن الإمام.
  • الثالثة: "إذا تمكن العدو من البلد وأصبح مستقرًّا فيها، فههنا صورتان: الأولى: ألا ندخل معه في صلح: فإن كنا في حالة ضعف فعلينا الصبر، وإن لم نكن في ضعف يُراعى ما يحقق المصالح ويدرء المفاسد.

نصوص فقهاء ما قبل الدولة متكاثرة وتدل على أنه في حالة نقص الكفاية لدفع العدو، ينتقل الوجوب إلى كل من تقوم به الكفاية من المحيطين بهم لتحقيق المقصود، وهو دفع العدو؛ بغض النظر عن حدود الدولة القُطرية المُحْدثة

الصورة الثانية: أن ندخل في صلح مع العدو المستقر في بلادنا، فالأصل في هذا حفظ الصلح، ودخول بعضنا في الصلح يُلزم البقية بحفظ هذا الصلح، وإذا اعتدى هذا العدو الذي صالحناه على مسلمين آخرين "يُقدم حفظ الصلح على نصرة إخواننا". أما مناوشة أفراد لهذا العدو المستقر في البلد والذي تربطنا به علاقة صلح؛ بما يجر الضرر على المسلمين في البلد، فلا تدخل في جهاد الدفع أصلًا، بل هي نقض للصلح وينبغي الأخذ على أيدي هؤلاء المناوشين.

تعكس المواقف الثلاثة السابقة إشكالية فهم الجهاد واستعادته في ظل الدولة القومية، وقد التبس عليها الفرق بين الحكم والفتوى؛ فأحكام الجهاد – كما هي مسطرة في فقه ما قبل الدولة القومية – معلومة ومنضبطة، ولكن الإشكال ينشأ اليوم من الفتوى، أي تنزيل تلك الأحكام في سياق الدولة القومية، كما في حالة الحرب الدائرة اليوم على غزة مثلًا.

فالموقف الأول السابق لا يُعد فتوى؛ لأنه لا يصور المسألة بل يكتفي بعبارات عامة كقوله: "كل من كان قادرًا" من "الداخل الفلسطيني" ثم من "دول الطوق" و"بحسب المستطاع". فلا ذكر هنا لمسألة العهود والصلح، ولا تفاصيل عن مفهوم القدرة على الجهاد وأدواته في عالم اليوم التي تحتاج إلى عُدة وعتاد، بل إن البيان يؤقت الجهاد بحالة "إنهاء العدوان إلى غير رجعة" دون مناقشة أو بحث لموازين القوى وتطورات المعركة المفتوحة على احتمالات عدة. ولا يحدد البيان – كذلك – مفهوم الفرار وصورته المعينة في هذه الحالة؛ رغم أنه يرتب على الفرار أحكامًا قاسية، فهل المخاطب به الأفراد أم الدول؟ وهل يدخل في الوجوب والإثم من كان من "دول الطوق" من أعضاء هذا التشكيل المسمى "مؤتمر علماء الأمة"؟ وما صورة تطبيقه؟

أما الموقف الثاني فيحاول تنزيل الموروث الفقهي في سياق الدول القُطرية المتعددة؛ متمحورًا حول "طاعة ولي الأمر" واحتكاره لتقدير المصالح، والالتزام بالنظم الرسمية. وقد قام صاحب هذا الموقف بتغيير مدلول كلام فقهاء ما قبل الدولة ليتسنى له تنزيل الجهاد على واقع الدول القُطرية اليوم، وتحديدًا الدولة غير الديمقراطية التي يستأثر فيها ولي الأمر بتقدير المصالح العامة، حيث يتم افتراض أن المواطن فيها لا يملك أي قدرة على الفهم أو الفعل السياسي، ومن ثم كان من الطبيعي أن ينتهي الرحيلي إلى حصر نصرة الفلسطينيين المشروعة بالدعاء لهم فقط؛ لأن أدوات الفعل السياسي والضغط الشعبي ونقد السياسات الرسمية التي نشهدها في دول الغرب ليست مطروحة في تصور الرحيلي للدولة.

والواقع أن نصوص فقهاء ما قبل الدولة متكاثرة وتدل على أنه في حالة نقص الكفاية لدفع العدو، ينتقل الوجوب إلى كل من تقوم به الكفاية من المحيطين بهم لتحقيق المقصود، وهو دفع العدو؛ بغض النظر عن حدود الدولة القُطرية المُحْدثة.

ولهذا قال ابن تيمية – مثلاً -: "بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة". وقد لوحظ في نص الرحيلي ترتيبات ما قبل الدولة القومية، ولكن الإشكال ينشأ – مجددًا – حول كيفية تنزيل هذا الوجوب في ظل دول اليوم، وهو ما لم يعالجه – أيضًا – الشيخ الكويتي فيصل بن قزاز الجاسم الذي تصدى للرد على الرحيلي لإثبات أن وجوب الجهاد يتناول دول الطوق أيضًا، ولكن هل يتناول ذلك الحكومات أم عموم الأفراد أيضًا؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك في حروب اليوم؟

من الغريب أنّ الرحيلي لم يتنبه إلى أنّ الواقع اليوم أننا أمام عدوّ "محتل"، فكيف يُعتبر الجهاد لدفعه جهاد طلب؛ رغم شدة وضوح المسألة في الفقه وفي القانون الدولي، ولاسيما أن الرحيلي يحتكم – في تنزيله للحكم على الواقع – إلى إكراهات الدولة القومية ونظمها، وإلا فكيف يمكن اعتبار جهاد مَن هو مِن خارج الدولة المعتدى عليها لدفع العدوان عن دولة إسلامية أخرى "جهاد طلب"، ومعلوم أن جهاد الطلب يكون فيه المسلم طالبًا لا مطلوبًا، ويهجم فيه على أرض العدو؟ لا يمكن اعتبار ذلك جهاد طلب إلا لو احتكمنا إلى منطق الدولة القومية وجنسيتها المحدودة بحدود قومية.

أما الموقف الثالث، فإنه – أيضًا – لا يقدم فتوى؛ بل إن كثرة تفريع صاحبه لأحكام جهاد الدفع وصوره اليوم؛ نأى بتعليقه عن أن يكون فتوى؛ لأن بازمول لا يوضح أي حال من تلك الأحوال الثلاثة تنطبق على ما يجري في غزة تحديدًا. فهل ما يجري اليوم هو مواجهة من باب دفع الصائل؟ أم أنه يندرج ضمن الحالة الثالثة التي تمكن العدو فيها من البلاد واستقر فيها؟ ثم إن كان كذلك فهل تنطبق على غزة الصورة الأولى التي لا صلح فيها، أم الصورة الثانية التي فيها صلح؟. الأمر متروك – إذن – لفهم كل قارئ واجتهاده في تنزيل تلك الصور على الواقع.

يميز فقهاء ما قبل الدولة بين ثلاثة مفاهيم رئيسة:

الأول: دفع الصائل أو المعتدي الذي يعتدي على النفس أو العرض أو المال.

والثاني: جهاد الدفع، حيث يهجم العدو على بلاد المسلمين، وههنا يميزون – كذلك – بين ما قبل المواجهة وبين لحظة المواجهة التي تنطوي على عنصر المفاجأة فتسقط فيها الشروط.

والثالث: جهاد الطلب الذي يكون فيه المسلمون طالبين لا مطلوبين، وتكون المعركة على أرض العدو. ولكل حالة أحكامها وتفاصيلها في أحكام فقهاء ما قبل الدولة، ولكن مدار الإشكال اليوم على كيفية استثمار هذه الأحكام في سياق الدولة القومية وفي تنزيلها على وقائع بعينها.

هنا تضطرب أفهام المفتين كما في المواقف الثلاثة السابقة، ومن هنا نشأت جماعات الجهاد المعاصرة. كما أن هذه المشكلة نفسها هي التي أدت إلى استثمار مفهوم الجهاد لخدمة سياسات دولية، كما شهدنا في أفغانستان قبل عقود حين تم تسهيل أنشطة الجهاد بدعم سياسي دولي ومحلي، وكما جرى من تسهيل أنشطة الجهاد من قبل بعض دول المنطقة بعد حرب العراق 2003.

ولكننا نواجه اليوم اتفاقًا عامًّا على منع دعم الفلسطينيين إما قناعة وإما استجابة لضغوط أميركية، وذلك بحجة القضاء على حركة حماس. بل إن أي دعوة لوقف الحرب أو إرساء هدنة إنسانيَّة أو أي نقد للممارسات الوحشية الإسرائيلية تُفَسر على أنّها دعم لحماس، في مقابل تواطؤ دولي على تَكرار مقولة: "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" من دون قيد أو شرط، الأمر الذي يُضفي مشروعية أخلاقية وقانونية على حربها الوحشية وسلب ذلك من الفلسطينيين، والله المستعان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.