العنابي والأبيض.. قراءة علمية في الهوية البصرية لعلم قطر

qatar flag
علم قطر (شترستوك)

في عام 2015 بدأت العمل ضمن دراسة ممولة من الحكومة الأميركية لفهم التغيرات المناخية في العالم العربي وتحديدا في عُمان والمغرب، كانت قطر بالمصادفة محطة أخيرة في جزء من هذه الدراسة، ولكنها كانت أيضا أكثرها غرابة وإثارة.

في ظاهرها، بيئة قطر صحراوية جافة مسطحة توحي أنه "لا شيء هنا يتغير"، وبالتالي لا وجود لتغيرات مناخية تستدعي الدراسة، وسيكون البحث وراء تاريخ هذه التغيرات "مضيعة للوقت"، غير أن بعض الشواهد في صور الأقمار الصناعية دفعتني للشك في صحة هذا الافتراض، ولكنها لم تكن دقيقة بما يكفي لتأكيد أي شيء.

أمواج البحر والعَلَم

قررت في آخر يوم من المهمة العلمية إرسال طلب إلى وكالة الفضاء اليابانية للحصول على صور عالية الدقة عبر القمر الصناعي "إيه إل أو إس 2" (ALOS2) للمناطق التي يراودني الشك حولها في وسط قطر سعيا للتحقق، وفي غضون ذلك هممت بقضاء بعض الوقت على ساحلها، وهناك شاهدت بعيني الأمواج ترسم خطوطا على الشاطئ تشبه كثيرا لوحة طبيعية لعلم قطر.

الأمواج ترسم خطوطا على الشاطئ تشبه كثيرا لوحة طبيعية لعلم قطر (الجزيرة)

وجدت ذلك أمرا محيرا، ثم حين عدت إلى الولايات المتحدة وجدت الصور الحديثة للأقمار الصناعية وقد وصلت من اليابان تدل على أن تغيرات مناخية مهمة حدثت بقطر، عكفنا 7 سنوات على دراسة تلك البيانات وقمنا بنشرها في ورقة بمجلة "آي إس بي آر إس" (ISPRS) المرموقة في مطلع هذا العام.

وظل يراودني سؤال: إلى أي حد رسمت التغير ات المناخية هوية هذا المكان؟ وقد ازدادت قناعتي بأن كل معالم الحياة في شبه الجزيرة الصغيرة تعكس التغيرات المناخية المهمة التي عاشتها، وأن أهل قطر تعايشوا مع تلك البيئة المتغيرة، وجعلوا منها هويتهم، واستوحوها أول ما استوحوا في علمهم، وشغلني حقا فهم الهوية البصرية لهذا العلم المميز.

وهنا، أسعى إلى تقديم قراءة جديدة لدلالات الرموز والألوان في ذلك العلم وتصور جديد لقصة ميلاده، وهي قراءة تكونت على مدى السنوات الماضية التي عكفت فيها مع فريق علمي على دراسة البيئة القطرية، ووجدت خلالها ارتباطا وثيقا بين "العَلَم" بشكله الحالي وبين معطيات تلك البيئة، وتفسيرا علميا لنشأته قبل أكثر من 100 عام يبدو أكثر تماسكا مما سجلته الوثائق التاريخية البريطانية للأعوام 1916 و1931 و1936 التي يتضارب فيها تفسير رموز العلم.

ومع هذه القراءة الجديدة نفهم سر لون العلم وشكله وحجمه المميز عن أعلام الدول العربية، ومبررات ذلك التشابه مع علم الجارة البحرين، وغيرها من خصوصيات ذلك العلم الذي ارتبط تاريخيا بالسفن القطرية أكثر من ارتباطه باليابسة.

"العنابي والأبيض" في السجلات البريطانية

تقول الروايات التاريخية التي تقدمها السجلات البريطانية إن اللون الأبيض في علم قطر يرمز إلى السلام، والعنابي يرمز إلى الدم المتخثر الذي أريق في حروب قطر، ولا سيما في النصف الأخير من القرن الـ19، أما الرؤوس التسعة فترمز إلى أن قطر هي تاسع الإمارات المتصالحة، وذلك بعد إبرام الاتفاقية القطرية البريطانية في عام 1916.

ويتماشى التفسير البريطاني للهوية البصرية للعَلَم مع الفكر الاستعماري السائد في مطلع القرن الماضي الذي كان يرى العرب من منظور النزاعات والحروب، والتي كان للقوى الاستعمارية ذاتها دور كبير في إشعالها تارة وإخمادها تارة أخرى حسب مصالحها، ومن ثم، فمن الطبيعي لكاتبي الوثائق -في غياب تفسير محلي- أن يروا العلم قطعة قماش بيضاء ملطخة بالدماء متماشيا مع الصورة النمطية لديهم، فيكون "العنابي" هو لون دماء الشعوب المتنازعة أو لون النصر في تلك النزاعات، و"الأبيض" هو رمز السلام الذي صنعه تدخلهم، والمثلثات التسعة تشير إلى عدد الإمارات التي وقعت اتفاقيات معهم، أي أن تفسيرهم للعلم يدور بالأساس حول الدور البريطاني في المنطقة.

ورأيي أن المدخل الصحيح لفهم منشأ العلم القطري هو التمعن في الهوية البصرية لبيئة شبه جزيرة قطر، فكثيرا ما كانت أعلام الدول وليدة البيئة الطبيعية، فعلم لبنان مثلا مستوحى من شجرة الصنوبر، وعلم ولاية كاليفورنيا مستوحى من الدب الجبلي.

لكن، كيف يمثل هذا الشكل واللون الفريد بيئة قطر؟

هنا ربما علينا أن ننظر إلى البحر وليس إلى البر كما فعلت الوثائق البريطانية، وأسجل في هذا الإطار ملحوظتين:

  • الأبيض لون اليابس القطري المكون من حجر جيري ناصع البياض
    العنابي هو لون الشعاب المرجانية حين تكشفها مياه البحر، والأبيض لون اليابس المكون من حجر جيري ناصع البياض (الجزيرة)

    الأولى: أن علم قطر أكثر استطالة من بقية الأعلام العربية، بل والعالمية (في النسبة بين طوله وعرضه)، والأعلام بهذا الشكل تناسب بصورة أكبر الاستخدام البحري لتكون أكثر وضوحا مع حركة الرياح فوق السفن، وقد كانت السفن القطرية القديمة تخصص مكانا لذلك العلم في جزئها الخلفي، وهذا يرجح مرة أخرى النشأة البحرية للعلم بعيدا عن قصة الحروب التي تدور معطياتها في اليابسة، وهو أيضا ما تؤكده وثيقة 1936 للاستخدام البحري للعلم.

  • الثانية: يتماشى اللون الأبيض في العلم مع لون اليابسة في شبه جزيرة قطر المكونة من الحجر الجيري الناصع البياض (Limestone)، فيما يتماشى اللون العنابي مع "الشعاب المرجانية" (Coral Reef) التي تحيط بشواطئ شبه جزيرة قطر، وتظهر للعيان مع حركة المد والجزر في عدة مناطق مثل "الخور" و"الشمال" وعموم المياه الضحلة المحيطة بشبه الجزيرة، ويدعم ذلك الارتباط بين العلم والبيئة دراسة نشرتها مكتبة قطر الوطنية كشفت أن الصبغة المستخدمة تاريخيا في لون العلم مستخرجة من الشعاب المرجانية في منطقة الخور.

وفي ثقافة الخليج وشبه الجزيرة العربية يُرمز إلى البحر في الأعلام القديمة باللون الأحمر الذي يجسد الشعاب المرجانية تحت المياه ويراها البحارة أثناء الغوص بحثا عن اللؤلؤ والصيد.

ولنفس السبب سمي البحر الأحمر بهذا الاسم، وكانت الأعلام القديمة للكويت والإمارات والبحرين كلها باللونين الأحمر والأبيض، ويمثل اللونان إذن الأرض والبحر على الأرجح وليس الدم والسلام كما ورد في الوثائق البريطانية.

وإذا اتفقنا على أن علم قطر هو إذن شارة بحرية فإن المثلثات التي يحتويها عند التقاء العنابي بالأبيض تمثل الشكل الذي ترسمه أمواج الخليج على الشواطئ الهادئة في المياه الضحلة حول قطر والبحرين (Sine Waves) .

ويتكون هذا الشكل المثلث بسبب انكسار أمواج صغيرة ببعضها البعض على شواطئ شبه مسطحة بسبب وجود تيار مواز للساحل في ظاهرة معروفة في علم دراسة خواص السواحل، والتي أعكف على دراستها مع فريقي العلمي في قطر منذ سنوات من خلال تعاون بين مؤسسة قطر وجامعة جنوب كاليفورنيا ووكالة ناسا، وكانت هذه الدراسة بداية تساؤلي عن سر هذا العلم الذي ترسمه كل موجة في سواحل قطر إذا أمعنت التأمل.

علما قطر والبحرين.. سر التشابه

وفي ضوء ما سبق، فمن الطبيعي أن يتشابه علما قطر والبحرين، إذ تقع الدولتان في منطقة المياه الضحلة والتي تنخفض فيها الأمواج في منتصف غرب الخليج، وقد يكون "العلمان" إذن رمزين بحريين استُخدما للإشارة إلى الملاحة في تلك المياه الضحلة والهادئة القريبة من الشاطئ، وهي مياه لا تستطيع السفن الكبيرة الإبحار فيها، إذ تمثل خطرا على سلامتها لإمكانية اصطدام جزئها السفلي بالقاع الغني بالشعاب المرجانية.

الشكل المثلث يتكون بسبب انكسار أمواج صغيرة ببعضها البعض على شواطئ شبه مسطحة بسبب وجود تيار مواز للساحل وفي انعدام أمواج عمودية

وهذا يفسر رمزية اختيار شكل المثلث دون الأشكال الهندسية الأخرى الموجودة في العلمين، ولا تتعارض الفرضية حول رمزية عددها في علم قطر (9) الذي يرمز إلى عدد الإمارات المتصالحة، وعددها في علم البحرين (5) يشير إلى أركان الإسلام، ولكنها تفسر لماذا اختيرت المثلثات وليس النجوم مثلا أو أي رمز آخر.

والعلم بهذه الصورة ومن منظور بحري خالص يرمز إلى أهم ما يبحث عنه "البحّار القطري" عندما يكون في وسط البحر، وهو الشاطئ أو "بر الأمان"، فاللون العنابي هو البحر الذي يبدو بلا نهاية، ثم يأتي في آخره ذلك الشاطئ الأبيض الذي تتكسر عليه الأمواج المثلثة، ولذلك يبدو اللون العنابي أكثر امتدادا من اللون الأبيض للتعبير عن اتساع البحر وامتداده.

والأغلب أن هذا العلم البحري كان يُستخدم أساسا كدليل يهدي السفن لليابسة، ففي غياب منارات كبرى لهداية السفن إلى الموانئ البدائية أو للساحل قبل 100 عام وأكثر في هذه المنطقة وفي غياب تضاريس بارزة يُهتدى بها إلى البر كان رفع هذا العلم يعني الطريق أو الاقتراب من اليابسة.

الأعلام والسفن

لفتت نظري ملاحظة ضمها خطاب بريطاني في تلك السجلات القديمة تطالب السفن القطرية بالالتزام برفع أعلامها في المياه العميقة للخليج، مشيرا إلى أن قباطينها كانوا يتعمدون إخفاء الأعلام في تلك المناطق التي تمر بها السفن الكبرى ليقوموا بقرصنتها مخفين هويتهم.

وإذا أخذنا في الاعتبار أن الاتهام بالقرصنة كان المبرر البريطاني الأبرز للسيطرة على سواحل الخليج العربي عبر اتفاقيات ما تعرف بالإمارات المتصالحة فإن تلك الرواية تبقى محل شك، فضلا عن أنها لا تتسق مع طبيعة الحياة والنشاط البحري في هذه المنطقة، أي قطر، فما الذي يدفع صيادي اللؤلؤ الثمين إلى قرصنة السفن في بحر شبه مغلق يعرف كل من يبحر فيه الآخر؟!

وقد يعطينا هذا تفسيرا جديدا لما ورد -بلا تفسير- في تلك الوثائق البريطانية عن سبب ظهور العلم تارة واختفائه تارة أخرى من فوق السفن القطرية المبحرة في الخليج، فالعلم يرفعه الربان حين يرى الشاطئ بعينيه ليدل من وراءه على اتجاه اليابسة، وينكسه إذا أبحر في المياه العميقة، إذن هو شارة بحرية ذات دلالات للملاحة البحرية، ولم يكن إخفاؤه بهدف القرصنة.

استخدام العلم في خلفية السفن للاهتداء به بصريا للعودة إلى الشاطئ (الجزيرة)

الشعاب المرجانية وسر الخريطة

على مدى قرون لعبت الشعاب المرجانية والمياه الضحلة دورا فاعلا في حماية شواطئ قطر من الأطماع، حماية وصلت إلى حد اختفائها من أغلب الخرائط التاريخية، إذ كان يرسم تلك الخرائط رحالة يبحرون بموازاة الشواطئ ويوثقون ما يكتشفونه، ولما كان الإبحار مستحيلا وسط الشعاب المرجانية وفي المياه الضحلة فإنهم لم يتمكنوا من رؤية البر، لغياب أي تضاريس تمكنهم من رؤيته عن بعد، ولذلك لم يستطيعوا رسم شبه جزيرة قطر، في حين احتوت تلك الخرائط مثلا على وصف دقيق لمعالم السواحل الإيرانية لمقابلتها مياها عميقة تمكن من الإبحار فيها ووجود جبال تسهل رؤيتها من المياه المقاربة للساحل.

وحدهم البحارة القطريون والبحرينيون بقواربهم الصغيرة ومعرفتهم بالممرات البحرية الأكثر عمقا كانوا يستطيعون النفاذ إلى البر، وبغير أعلامهم الهادية ما كان يمكن الوصول بأمان إلى الشاطئ، ولعل هذا ما منعهم من إعطاء تفسير لعلمهم كما ذكر في وثيقة 1936، لأنه كان جزءا من منظومة ملاحة بحرية تحميهم من اقتحام الغزاة سواحلهم.

ولعل غياب هذا التفسير الأكثر منطقية لعلم دولة قطر كان سببه غياب وثائق قطرية مكتوبة عن طرق الملاحة البحرية التي كانت تورث شفاهيا من جيل إلى جيل، فلم تصل إلى الغرباء، فضلا عن قوى ذات طابع استعماري، وبهذا بقي التفسير الوحيد المتاح أمام كاتبي الوثائق البريطانية هو ذلك المستنِد إلى رؤيتهم النمطية للمنطقة، والتي لا ترى في الصحراء إلا قبائل متنازعة وحروبا ودماء، وهو سوء فهم مستمر حتى يومنا هذا.

ولا يزال التطور البيئي الفريد لقطر وسواحلها محل دراسة فريقنا العلمي لتأكيد هذه الفرضيات، وكيف كانت المعرفة -وليست الحروب- جزءا لا يتجزأ من التراث الوطني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.