كيف يرى الإسلاميون مفهوم السياسة والتغيير؟

راشد الغنوشي رئيس البرلمان التونسي وزعيم حركة النهضة (الجزيرة)

تناولنا في المقالين السابقين من سلسلة "الإسلاميون والدرس التونسي" -عقب الانقلاب الذي حدث في تونس- فكرتين رئيسيتين هما نهاية الاستثنائية الإسلامية والإشكالات الأربع للإسلاميين في السلطة. في هذا الجزء الأخير من السلسلة نتناول كيف يرى الإسلاميون مفهوم السياسة والتغيير في ضوء ما حدث في مصر وتونس.

أولا: الإسلاميون ومفهوم السياسة

في علاقة الإسلاميين بالسياسة هناك قضيتان؛ الأولى هل استطاع الإسلاميون إعادة تعريف السياسة من منظور مرجعيتهم الفكرية والأخلاقية أم ابتلعتهم السياسة المعاصرة وأعادت صياغتهم على صورتها ومثالها؟، وهنا يدور السؤال حول علاقة الإسلامية كمثل وأفكار وقيم بالمجال السياسي، ويرتبط بهذا النقطةُ الثانية التي تثار بشأن طبيعة الصراع الدائر الآن -إقليميا ودوليا -على روح الإسلام ومن يمثله أو صوته في العالم المعاصر.

إن اختزال الإسلام إلى سياسة وسياسة فقط، وسلطة وسلطة فقط، ودولة ودولة فقط، هو أهم الأسباب الكامنة والباعثة لمسألة العنف أو التغيير بالقوة التي تبنتها إحدى الحركات الإسلامية، خاصة إذا تحول الصراع حولها من صراع سياسي إلى صراع بين "الحق والباطل"، والحق بالطبع هنا هو الذي يجسده الطرف الإسلامي، أما الباطل فهو السلطة السياسية، التي حرمت الحركة الإسلامية من العصا السحرية القادرة -كما يتوهم بعضهم- على حل جميع مشاكل الواقع

تعد لحظة الدخول الحديث للإسلاميين في الساحة السياسية منذ منتصف ثمانينيات القرن الـ20 الماضي مفصلا مهما في علاقة الإسلاميين بالسياسة، وقد كتبتُ مبكرا أواخر الثمانينيات حول تأثير تضخم المكون السياسي بالمعنى الصراعي التنافسي على الفكرة الإسلامية ذاتها وعلى الإسلاميين أنفسهم، ومما قلته وقتها ويصلح لاستحضاره الآن "بعد أن كانت الممارسة السياسية من قبل الحركات الإسلامية انتقالا بالدعوة -التي هي مطلقة من جهة أنها مناداة بالمبادئ الأساسية والقيم العليا للإسلام- إلى الحيز الرسمي، تم إعمال العامل النسبي، الذي هو هنا السياسة، من جهة أنها اجتهادات وآراء متعددة ووجهات نظر متباينة في المطلق، وبعد أن كان الهدف هو "تديين السياسة" -أي إخضاعها للمبادئ الأساسية للإسلام وقيمه العليا وتحقيق أو بناء أرضية شرعية دينية للممارسة السياسية- تم "تسييس الدين"، ليس بمعنى النظر إلى السياسة  باعتبارها جزءاً من التصور الديني الإسلامي، ولكن من جهة إعادة تفسير الدين ليتضخم فيه الشق أو الجزء السياسي على بقية مكونات البناء الإسلامي، وهذه بالمناسبة إشكالية قائمة في الفكر الإسلامي المعاصر، وبدت واضحة في السجال الذي دار بين كل من أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي حول التفسير السياسي والتفسير الحقيقي للإسلام، بالإضافة إلى الحوار بين فكر الإخوان وفكر سيد قطب كما برز في كتاب "دعاة لا قضاة".

السياسة تحولت -في إطار الممارسة من قبل أتباع الحركة الإسلامية التي دخلت ساحة العمل السياسي- إلى "تفسير مطلق" أو حقيقة كلية تعيد تفسير أو تفكيك الدين بإعطاء بعض أجزائه ومكوناته حجما أكبر من حجمه الطبيعي في التصور والرؤية الإسلامية، وقد خلق هذا ذهنا خاصا يرى كل شيء بالمنظار السياسي، وبعد أن كانت الممارسة السياسية حقيقة وقتية ارتبطت بظروف وملابسات معينة، تحولت إلى حقيقة دائمة مطلقة. وقد امتدت هذه الحقيقة "المطلقة" إلى تفكيك الواقع القائم وإعادة بنائه، فلا يرى الطرح السياسي الأزمة المجتمعية التي نعاني منها، وإنما يريد القفز إلى السلطة، تلك العصا السحرية القادرة على حل كل معضلات ومشكلات الواقع؛ ومن ثم يتم اختزال المشروع الإسلامي -باعتباره مشروعا شاملا يستهدف إصلاح حال الأمة- إلى جانب سياسي يتمحور حول السلطة؛ وصولا إليها، كما في الطرح المعتدل، أو وثوبا عليها، كما في الطرح العنيف، وعندئذ تصير المهمة الأولى "لإقامة الدين" هي إقامة السلطة السياسية الحاكمة باسم الإسلام، حتى يتسنى تطبيق "النظام الشرعي الكامل"، بدلا من إقامته في النفوس والأفئدة وواقع الأمة المعاش قبل إقامته في واقع المؤسسات السياسية.

ويستمر حديث الثمانينيات الذي امتد للتسعينيات أيضا بالقول "إن اختزال الإسلام إلى سياسة وسياسة فقط، وسلطة وسلطة فقط، ودولة ودولة فقط، هو أهم الأسباب الكامنة والباعثة لمسألة العنف أو التغيير بالقوة التي تبناها فصيل من الحركة الإسلامية، خاصة إذا تحول الصراع حولها من صراع سياسي إلى صراع بين "الحق والباطل"، والحق بالطبع هنا هو الذي يجسده الطرف الإسلامي، أما الباطل فهو السلطة السياسية التي حرمت الحركة الإسلامية من العصا السحرية القادرة -كما يتوهم بعضهم- على حل جميع مشاكل الواقع، كما حدث في التجربة الجزائرية، أو التي أخفق الإخوان المسلمون في مصر بالوصول إلى السلطة في ظلها، فالعنف الذي شهدته مصر في التسعينيات كان بجزء كبير منه ردة فعل -كما ترى أدبيات جماعتي الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر- على إخفاق حركة الإخوان في إقامة الدولة الإسلامية". هذا ما بدأت في كتابته أواخر الثمانينيات واستمر على مدار العقد التالي.

في دراسة مهمة ناقش الباحثان "دوف ديل" و"سارة فوير" بشكل مستفيض المأزق الأيديولوجي في علاقته بالواقع لدى 4 أشكال للأيديولوجيا الإسلامية في المنطقة؛ يهمنا منها ما يشيران إليه بالمفارقة التاريخية التي تواجه الأحزاب الإسلامية "فكلما تخلت هذه المنظمات عن هويتها ومبادئها الإسلامية؛ زاد نجاحها في احتلال مواقع على الخريطة السياسية لبلدانها، في حين أن الثمن الذي دفعوه هو لحماية هذه المنظمات من الاضطهاد الحكومي؛ لكنه كلفها أيضا الدعم العام، حيث أصبحت شرائح متزايدة من السكان إما تربطها بحركات أكثر تطرفا مثل داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) أو وجدت صعوبة في الإشارة إلى ما تبقى من "الإسلاموية الأصلية لهذه الأحزاب"، لكن الدرس التونسي يدعونا إلي إعادة التفكير في هذا المأزق التاريخي؛ كما طرحه الباحثان، وهنا يمكن  أن نشير إلى افتراض يستحق المتابعة؛ هل عندما اختارت الجماهير العربية في الموجة الأولى من الربيع العربي الإسلاميين بديلا للأنظمة العربية التي احتجت عليها، تصورت -ولو جزئيا- أنها يمكن أن تحل مشاكلها الحياتية والمعيشية مستندة إلى أرضية ثقافية وقيمية تنطلق من الإسلامية وتعبر عنها؟ ولكن أصابتها خيبة أمل شديدة؛ فلا مشاكلها المعيشية حلت والإسلاميون كغيرهم من الساسة تصرفوا على شاكلتهم من انتهازية مفرطة وبراغماتية وتحالفات افتقدت إلى المثالية والأخلاقية ونكوص عن الوعود والدعايا الانتخابية، ومن هنا يمكن فهم شدة رد الفعل الذي أصاب الجماهير تجاه الإسلاميين وبدا ظاهرا مع النهضة.

الصراع حول من يمثل الإسلام المعتدل

الملمح العام في هذا الصراع الذي تقوده القوى الإقليمية في المنطقة العربية وفي العالم؛ أنه يدور على إسلام منزوع الديمقراطية، مندمج في السوق، أي ذو طبعة نيوليبرالية، وممتزج بالعنف لأنه يقرن القوة الناعمة بالصلبة، برغم أنه يقدم نفسه للعالم باعتباره منفتحا متسامحا، ويلعب دورا في مناهضة التطرف العنيف، لكنه في نفس الوقت لا ينظر لحال شعوبه.

هذا الصراع الأكثر تعقيدا، ليس فقط لوصول لاعبين جدد إلى الساحة، ولكن أيضا لأنه ينطوي على تنافس داخل كل فصيل؛ فدخول اللاعبين الجدد -الإمارات العربية المتحدة وتركيا وإندونيسيا- والصراع بينهم أدى إلى زيادة طمس الخطوط الفاصلة بين القوة الناعمة الدينية والثقافية البحتة، والقومية، والصراع داخل المجتمعات الإسلامية على القيم، بما في ذلك الحريات والحقوق والأنظمة السياسية المفضلة؛ إنه دين ليس ضد الحكام وتحالفاتهم الاجتماعية الطبقية وشبكات الامتياز الدولية.

6 ملامح مشتركة لهذا الإسلام :

6 ملامح رئيسية لهذ الإسلام الذي تقدمه القوى الإقليمية وإن ساد الصراع بينها:

  1. عنيفلأنه يقرن القوة الناعمة بالصلبة سواء مورست هذه القوة بشكل مباشر مثل تركيا شمالي سوريا والعراق أو عن طريق استخدام الوكلاء كما تفعل إيران في اليمن وبلدان عربية أخرى، أو الإمارات في اليمن وليبيا.
  2. إسلام منزوع الديمقراطيةمع نزوع متصاعد لمصادرة الحريات في نظم الدول الإسلامية الداخلية، حتى تجربة تركيا الوحيدة التي اتسمت بنزوع ديمقراطي شهدت تراجعا مستمرا عن هذا المنزع منذ عام 2012 وزاد مع المحاولة الانقلابية 2016. ويشهد النموذج السعودي والإماراتي دعما لنموذج يحض على الطاعة المطلقة لولاة الأمر بغض النظر عن ممارساتهم.
  3. طبعة نيوليبرالية خالية من أي بعد اجتماعيفالنموذج الاقتصادي الذي تتبناه هذه الدول كلها يقوم على الاندماج في السوق العالمي مع اتباع سياسات نيوليبرالية لا تعالج التفاوتات في الثروة والدخل والفرص بين المواطنين.
  4. العلاقة بين الدولة والدينينطوي التنافس ضمنيا على نقاش أوسع عبر العالم الإسلامي يتطرق إلى قلب العلاقة بين الدولة والدين، ويركز هذا النقاش على الدور الذي يجب أن تلعبه الدولة -إن وجد- في تطبيق الأخلاق الدينية ومكانة الدين في التعليم والأنظمة القضائية والسياسة، فمع اشتداد معركة القوة الناعمة الدينية بين الدول المتنافسة، أصبحت الخطوط الفاصلة بين الدولة والدين أكثر ضبابية من أي وقت مضى، لا سيما في البلدان الأكثر استبدادا.
  5. العين على العالم وعدم إلقاء اعتبار للشعوبفالأهم أن تكون صورة الأنظمة متسامحة ومسالمة وفيها القبول للآخر الديني والآخر العدو (التطبيع مع الكيان الصهيوني)، حتى ولم يقبل المختلف معه في الإطار الوطني والإقليمي. ويعمق من ذلك اشتراك تلك الأنظمة كلها في الحرب على الإرهاب -الذي يختلف تعريفه من دولة لأخرى- لكنه بمثابة باب الشرعية الدولية ومدخل للقضاء على المعارضة.
  6. توظيف كثيف للمؤسسات الدينية وعلمائهابما يطيح باستقلالها ويلقي بظلاله على شرعية الحكام ومصداقيتهم؛ فالثمن المدفوع من الرعاية الحكومية مرتفع بالنسبة لهؤلاء العلماء بشكل عام؛ لأن عليهم أن يدعموا علانية أو يلتزموا الصمت بشأن الاستبداد في الداخل وعلاقة هذه الأنظمة بالهيمنة الخارجية، بينما يتحدثون عن الديمقراطية والتعددية وحقوق الأقليات للجمهور الغربي.

ويبقي التساؤل معروضا؛ هل يمكن لـ"روح الإسلام" أن تكون مكونا لتحرر شعوب المنطقة ودافعا لنضالاتها واحتجاجاتها المتنوعة التي أخذت طابع الموجات التي تتصاعد تارة وتخبو أحيانا أخرى؟

احتجاجات يعرب المتظاهرون فيها عن غضبهم من وحشية الشرطة والفساد ورأسمالية المحاسيب وغطرسة من هم في السلطة والتلاعب بالسياسة وضعف المؤسسات السياسية عن تمثيل الناس وتهميشهم الجماعي وتفاقم التفاوتات في الثروة والدخل والفرص. تطول القائمة ولكن ما يجمعها طلب الكرامة والعدالة والحرية، فالحركات الاحتجاجية في المنطقة والعالم -على مدار العقدين الماضيين- في جوهرها مطالبات بأن يحكمنا سلطة معيارية أفضل وأكثر وعدا بالكرامة والعدالة والتحرر الإنساني.

فهل يمكن لروح الإسلام أن تكون جزءا من هذه الحركة التي ستستمر وتتصاعد ما دامت أسبابها قائمة؟ أم كتب عليه الاختطاف من قبل قوى رسمية وغير رسمية، دولية وإقليمية ووطنية تسعى لتحقيق الهيمنة دون اعتبار للبشر والمواطنين العاديين؟

يصبح التساؤل مشروعا في حال استمرار الإسلاميين في المشهد السياسي؛ إلى من تقدم التنازلات ومع من تبنى التحالفات؟ والأهم على أية أسس يمكن بها أن نضمن تحقيق تطلعات شعوب المنطقة؟

ثانيا: الإسلاميون وسؤال التغيير

سؤال التغيير لا يخص الإسلاميون وحدهم؛ بل لا يزال معروضا منذ عقد من السنين، ولم تتم الإجابة عنه حتى الآن؛ فالمظالم والعقود الاجتماعية وغير الاجتماعية -التي حركت الانتفاضات العربية في أول العقد المنصرم  وآخره- لا تزال قائمة، ولم تستطع الصيغ التي نشأت أو حاولت أن تترسخ على مدار العشرية الأخيرة أن تحل الإشكال حتى الآن، ولا يزال الشعب يريد افتتح العقد الماضي بانتفاضات شملت عددا من الدول العربية واختتم باحتجاجات شملت دولا أخرى حتى إن بعض الباحثين يرون أن عام 2011 كان إيذانا ببدء عصر عالمي من التحدي والمعارضة، حيث كانت الانتفاضات العربية محورها الأكثر دراماتيكية. وهنا لا يصبح السؤال؛ ما إذا كانت ستحدث موجة احتجاج أخرى أم لا، ولكن السؤال هو متى ستحدث؟ وما طبيعتها؟ وما مطالبها؟

تدلنا الخبرة المصرية والتونسية على أحد مآزق الإسلاميين في الحكم؛ فالمشروع الإسلامي في أحد أبعاده -كما قدموه- مشروعا لإعادة تشكيل النخب الاقتصادية والسياسية للدولة العربية على نحو يسمح باختراقات من الطبقات الشعبية التي ظلت مستبعدة ومحجّمة الطاقات، لكنهم لم يستطيعوا أن يحشدوا في مواجهة ثورية ضد تحالف قمم البيروقراطية ورأس المال الكبير ومؤسسات الدولة العميقة بشبكات امتيازاتها الدولية والإقليمية.

وقد راهنت حركة النهضة التونسية -كما راهن الإخوان المسلمون- على بناء تحالفات مع قوى النظام القديم ومؤسساته أو في أحسن الأحوال تفاهمات معه؛ إلا أن هذه الصيغة قد ثبت فشلها في الحالتين. ويصبح التساؤل مشروعا في حال استمرار الإسلاميين في المشهد السياسي؛ إلى من تقدم التنازلات ومع من تبنى التحالفات؟ والأهم على أية أسس يمكن بها أن نضمن تحقيق تطلعات شعوب المنطقة؟

في الموجة الأولى من ردة الفعل على ما جري في مصر عام 2013 وسوريا والعراق؛ شهدنا تنظيم داعش باعتباره الاستجابة الأكثر تبلورا لإدارة التوحش وإن لم تكن الوحيدة، وقد ثبت فشلها. ويظل السؤال معروضا؛ ما شكل الاستجابة التي ستسود في المستقبل على سؤال تونس؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.