الأحزاب السياسية الإسلامية.. كيف يعود الربيع من جديد؟

Abdelilah Benkirane, secretary-general of Morocco's Islamist Justice and Development Party (PJD) speaks during a new conference at the party's headquarters in Rabat, Morocco early October 8, 2016. REUTERS/Youssef Boudlal TPX IMAGES OF THE DAY
حزب "العدالة والتنمية" المغربي (الجزيرة)

تناولنا في المقال السابق أهم الأسباب التي أدّت إلى إخفاق الأحزاب الإسلامية في هذه الحقبة بعد الربيع العربي، وحتى تستعيد هذه الأحزاب السياسية الإسلامية ربيعها فإنها تحتاج إلى الآتي:

1. التجديد القيادي:

فأبرز الأزمات التي لحقت بالأحزاب السياسية الإسلامية وفقًا لعمر عبيد حسنة "عجزها وعدم قدرتها على استنباط قيادات متجددة ومعاصرة -بالقدر المأمول- تضمن القدرة على التواصل". ولاحظ هذه المشكلة محمد عمارة في بعض الأحزاب والحركات الإسلامية، وأوضح الارتباط بين صفة (الرشد) وشخص (المُرشد) فيها، لأنها بنتْ أمرها على مواهب الشخص لا على بناء المؤسسة، وذلك أثمر وحدانية الرأي فيها، فإذا غاب المُرشد غاب الرُّشد.

والتجديد القيادي لا يعني استبعاد القيادات التاريخية التي لها رصيد من الخبرة ومعرفة التاريخ، لكنه يعني تحقيق الشمول والتكامل بين مختلف أنماط القيادات، فتضمّ الأحزاب في أجهزتها القيادية كما يقول الترابي ممثلين من: أهل السبق والخبرة، وأهل الخطاب الجماهيري، وأهل العطاء والتنظيم الداخلي، وأهل السمت الديني التقليدي، والشباب، والمرأة، وأصحاب التجديد، وأهل التمثيل المخصوص للمناطق التي قد تحرم بسبب الانتخاب المباشر، فكانت إجراءات الضم بالانتخاب التكميلي غير المباشر تتيح فرصة لاستدراك ذلك.

الأحزاب السياسية الإسلامية بحاجة إلى الانتقال من القوة الناعمة إلى القوة الصلبة مع الاحتفاظ بالقوتين معًا. تتمثل القوة الناعمة في الاهتمام بالشباب والمرأة وتشكيل التحالفات مع الأحزاب ذات النفس والهم الوطني الصادق، أما القوة الصلبة فإنها تتمثل في المال والإعلام والجيش والتشبيك مع منظمات المجتمع المدني المحلية والمنظمات الدولية.

2. تعزيز ممارسة النقد والنقد العلني:

فالأحزاب التي تضيق بالنقد والمُراجعات، وتتستر على الأخطاء، بحجة سلامة الصف، وحماية أسرار التنظيم، وعدم فسح المجال للتصيّد… إلى غير ذلك من الحجج، هي أحزاب -كما يقول خالد داود- تربّي الفساد وتنمّيه في مؤسساتها وسلوكها، حتى يقضي عليها. فالحضارات تنتحر داخليا كما يقول خالص جلبي، والدول تنهزم بالتفكك الداخلي، والعضوية تمرض بضعف المقاومة أكثر من سطو الجراثيم، وسقوط الغصن بالنخر الداخلي أكثر من زوبعة الريح، وإسرائيل تنتصر بتناقضات الوسط القومي (العربي) أكثر من جبروتها.

فليس كل من يُوجّه نقدًا للأحزاب أو الحركات الإسلامية بوجه عام يلزم أن يكون عدوًّا لها، أو متآمرًا عليها. فنقد الذات ضرورة، يجعل الحزب في حالة مراجعة دائمة وتصحيح مستمر وتطوير متواصل، يمكّنه من تحقيق تَحولات نوعية وصناعة مبادرات واعدة، تؤهله لتحقيق أهدافه والوصول إلى غاياته المنشودة.

كما أن الإبقاء على الأخطاء وعدم الكشف عنها وتبصير الأفراد بها ومن ثم معالجتها هو أشبه ما يكون بوجود ألغام موقوتة تزرع في جسم الحزب؛ لذلك يؤكد عمر عبيد حسنة أن فلسفة التبرير وتوقف المناصحة وتعطيل الحوار وعدم دراسة جوانب التقصير هي عوامل لا تفضي إلى تكريس هذه الأخطاء ونموها، وإنما تؤدي إلى تكرارها.

3. التعبير عن هموم الناس المعيشية:

فالحزب ابن بيئته، فلا جدوى ولا معنى لتمثيل الجماهير إذا لم تُعبّر الأحزاب عن همومهم وتتحدث بلغتهم، خصوصًا مع وجود أنظمة مستبدة تكرّس الفقر والتهميش والحرمان في حياة الناس من أجل إشغالهم بحياتهم اليومية، ومن ثم خروجهم من دائرة المجال السياسي. وفي مقابل إفقار الشعب، تذهب الثروة إلى فئة قليلة تمثل حاشية المستبد وبطانته، تشمل الوزراء وكبار الموظفين والممارسين لأعمال السمسرة، ومن يتولون عضوية مجالس إدارة الشركات الكبرى، ومن ثم تتعزز فكرة المواطنة بالثروة على حساب المواطنة بالقانون. وللخروج من هذا المأزق، تحتاج المجتمعات لكي تحفظ كرامتها وتسودها العدالة إلى أحزاب قوية شعارها التضحية وقول كلمة الحق مهما كلف ذلك، في إطار النضال السلمي المشروع؛ فالأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية، كما يقول الكواكبي.

وهنا تأتي أهمية قول كلمة الحق والتضحية من أجل الحرية والعدالة، فالحرية هي شجرة الخلد، وسقياها قطرات من الدم الأحمر المسفوح (الكواكبي). وهذا لا يعني اتخاذ العنف طريقًا، فهذه الوسيلة تخدم الاستبداد أكثر مما تضرّه، لكن على الأحزاب ومن قبلها الجماهير أن تتولى وضع حد للتعدّي والانحراف وللظلم والفساد والاستبداد، وذلك باللجوء إلى المقاومة الجماعية والمدنية السلمية. فمن أبرز وسائل المقاومة -من دون إخلال بأمن المجتمع- ممارسة التعبير والتظاهر والرفض والعصيان السلمي لإحقاق الحقوق ومنع التعدي وتحقيق الإصلاحات المطلوبة، فـ(أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، والعافية المفقودة هي الحرية السياسية ومهرها كثرة الطلاب، لأن استمرار الاستبداد داء عضال تنتج عنه أمراض اجتماعية عديدة في ميادين السياسة والتربية والاقتصاد وغيرها.

4. المزج بين القوة الصلبة والقوة الناعمة:

الأحزاب السياسية الإسلامية بحاجة إلى الانتقال من القوة الناعمة إلى القوة الصلبة مع الاحتفاظ بالقوتين معًا. تتمثل القوة الناعمة في الاهتمام بالشباب والمرأة وتشكيل التحالفات مع الأحزاب ذات النفس والهم الوطني الصادق، أما القوة الصلبة فإنها تتمثل في المال والإعلام والجيش والتشبيك مع منظمات المجتمع المدني المحلية والمنظمات الدولية، ونسج خيوط العلاقات مع القوى الدولية. فأردوغان ما كان له أن يبقى بعد محاولة انقلاب 2016 لولا علاقته القوية بالجيش، ومرسي ما أطيح به إلا بسبب عدم احتوائه للجيش والإعلام. وهذا لا يعني تسيس الجيش أو تحزيبه، لكن من المهم أن توكل قياداته إلى الصادقين الوطنيين فيه.

5. التعدد الثقافي والاجتهادي داخل الحزب:

تكمن أهمية التعدد الثقافي والاجتهادي والآراء بوجه عام داخل الحزب في مدى قدرة تعامل كوادر الحزب على القبول بالرأي الآخر داخل الحزب وخارجه، وعلى مدى التماسك داخل الحزب الذي يتشكَّل من أطراف متعددة المنابع والاجتهادات والآراء، وهو مؤشر مهم لعامل النمو أو الاضمحلال. فإذا كانت (الأيديولوجية) الغالبة والمؤثرة هي التي ترتكز على التعصب وعدم الاعتراف باجتهاد الآخر، فإن عوامل التناقض سوف تتصاعد، سواء بين الحزب والمجتمع من خارجه، أو بين كوادر الحزب أنفسهم، وهو مؤشر غير إيجابي لمستقبل الحزب السياسي.

وإذا كانت (الأيديولوجية) الغالبة للحزب تتّسم بالتسامح وعدم التعصب والقبول بالرأي الآخر والاجتهاد، فإن التفاعل الخلَّاق بين كوادر الحزب المتعدد المشارب وبين الحزب والمجتمع من خارجه سوف يساعد على نموّه وتطوره، ويعطي مؤشرًا إيجابيًّا لمستقبل الحزب السياسي. وهنا يحتم الوقت على الأحزاب الإسلامية القيام بدراسة ما يمكن تسميته بـ"الطيور المهاجرة"، والمستقطبة من بعض الخصوم السياسيين، بحيث يتم الاقتراب من مشكلاتهم والاستماع إلى ملاحظاتهم، وإصلاح ما يمكن إصلاحه في إطار الممكن والمتاح، واستقالات عدد لا يستهان به من قيادات وأعضاء النهضة شاهد على ذلك.

فالاختلاف والتعدد عامل إثراء وتنوع، على النحو الذي دعا إليه أدغار موران في قوله "ينبغي أن ندرك وحدة تكفل التنوع وتؤيده، وتنوعًا يُسجل داخل وحدة. والخطوة الأولى في هذا الطريق هي الاعتراف بالتعدد والاختلاف لا إخفاؤه، لذلك ينبغي تجنب إخفاء الوحدة عندما تظهر الاختلافات، وتجنب إخفاء الاختلافات عندما تظهر الوحدة".

6. استغلال الفرص:

رغم كل ما لحق بالأحزاب السياسية الإسلامية من تراجع وتشريد في بعض البلدان وقتل في بلدان أخرى، فإن عليها أن تتذكر المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي صاحب نظرية (التحدي والاستجابة)، ومفادها أن الجميع ممكن أن يتعرض لصدمة كانت شخصية أو مجتمعية أو حضارية. وتكون استجابته لهذه الصدمة إما استجابة (انطوائية)، ومن ثم العودة إلى الماضي والتغنّي به، أو تكون الاستجابة (انبساطية) ومن ثم القفز إلى المستقبل والنظر إليه؛ الأولى سلبية والثانية إيجابية. وهي نظرية تنطبق كثيرًا على حال كثير من المسلمين؛ عندما سقطت الحضارة الإسلامية كانت الاستجابة سلبية، ومن ثم كانت الردّة قوية إلى الماضي والتغني به.

على الأحزاب أن تستفيد من دروس هذه المرحلة وتتجاوزها، وتنظر إلى المستقبل بإيجابية، وتستغل الإيجابيات وتستثمرها، فتراجع العدالة والتنمية المغربي نسف الأسطورة المنتشرة في العالم العربي وهي أن الإسلاميين يدخلون إلى السلطة ويسيطرون على كل شيء ولديهم قدرة على البقاء في السلطة إلى أمد بعيد. هذا الشيء ليس لمصلحة الأنظمة السلطوية في المنطقة التي بقاؤها مرتبط بتخويف الناس من الإسلاميين؛ فتجربة المغرب أثبتت أن الأحزاب الإسلامية أحزاب ديمقراطية تأتي إلى السلطة وتخرج منها بصناديق الاقتراع، مثلها مثل أي حزب علماني ليبرالي. فالعدالة والتنمية خرج إلى المعارضة من دون أحداث شغب ومن دون رصاص حي في صدور المسالمين، ومن دون حرق لجثث الأبرياء في الميادين، فلا توجد قوة خارقة فوق الديمقراطية الحقيقية.

ومن الإيجابيات أن هذه الأحزاب تنتهج الإصلاح السياسي طريقًا وحيدًا لإصلاح المجتمع والدولة بخلاف بعض الحركات الإسلامية الجهادية التي لا تؤمن بالتغيير إلا عن طريق العنف المسلح. ومن الإيجابيات محاولة البعض إيجاد علاقة صدامية بين الأحزاب السياسية الإسلامية مع الأنظمة الحاكمة، فأخفقت بفضل براغماتية هذه الأحزاب (العدالة والتنمية المغربي نموذجًا)، وحاليًّا يتم خلق هذه العلاقة في تونس بين مؤسسة الرئاسة وحركة النهضة.

فنقطة البداية إذن هي التشخيص السليم للواقع، وإيجاد الوعي الحقيقي بطبيعة المنطق الصِرَاعي، والتحديات التي تقف في طريق مسيرة الأحزاب، لكي تستجيب لها عمليًّا، وعدم تركها تتفاعل وتستفحل وتتمدد في عمق الزمان ومتاهات المكان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.