هل بمناهضة النيوليبرالية نناهض العنصرية؟

ميدان - وعود النيوليبرالية وما بعد الحداثة

يا محتجي العالم اتحدوا

الإدانة الدولية للعنف العنصري من قبل سلطات إنفاذ القانون الأميركية ليست جديدة، لكن النطاق والامتداد الاستثنائيين لرد الفعل على مقتل جورج فلويد الذي أشعل أسابيع من الاحتجاجات في ٦٠ مدينة على الأقل يمثل تغييرا.

في العديد من الأماكن حول الحشود انتباههم إلى ممارسات دولهم.  في نيوزيلندا، شدد السكان الأصليون على ضعفهم إزاء التنميط العنصري.  في بريستول، إنجلترا، أطاح المتظاهرون تمثال إدوارد كولستون تاجر الرقيق البارز وألقوه في الميناء.  في بلجيكا، أضرم محتجون النار في تمثال للملك ليوبولد الثاني.  تجاوز رد الفعل إدانة الظلم العنصري، فعندما أطلقت شرطة مينيابوليس النار على الصحفيين الأجانب بأسلحة "غير مميتة" أدى ذلك إلى انتقادات من الحكومات للاعتداء على حرية الصحافة.

 

قامت احتجاجات واسعة النطاق في أوروبا ردا على مقتل جورج فلويد بإلقاء أضواء لم يسبق لها مثيل على العلاقة بين الدول الأوروبية وسكانها السود. تحولت الحشود في بلدان متنوعة مثل النمسا وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا والمملكة المتحدة والمجر وجمهورية التشيك إلى إدانة العنصرية ليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن أيضًا في أوطانهم.

في عام ٢٠٠٣ شهدنا الملايين يتدفقون في ٢٠ مدينة على الأقل لمناهضة الحرب على العراق، وتم اختيار يوم مولد مارتن لوثر كينغ -ملهم حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة- ليؤكد العمق التاريخي لنضالات الشعوب الممتدة، ويربط بين حركات السلام في العالم وبين حركة الحقوق المدنية.

هناك تكافل تاريخي بين حركات التحرر الوطني من الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية وبين حركة مناهضة العنصرية في الولايات المتحدة، خاصة حركة الحقوق المدنية ١٩٥٥، بما يمكن معه القول إن مناهضة الاستعمار تغذت بمناهضة العنصرية.

العلاقة بين الفصل العنصري في الستينيات وأوائل التسعينيات جعلت من نيلسون مانديلا وغيره من أبطال المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا أبطالا أميركيين من أصل أفريقي.

قبل عقد تقريبا اندلعت الموجة الأولى من الربيع العربي التي انطلقت من تونس لتمتد إلى مصر ومن ثم إلى معظم البلدان العربية، وإن تفاوتت قوتها واستمرارها من بلد لآخر، وقد كان هذا الحراك ملهما لحركة الميادين في أوروبا وأميركا اللاتينية.

من بداية الألفية الثالثة شهدنا نضالات واحتجاجات متنوعة، أخذت طابع الموجات التي تتصاعد تارة وتخبو أحيانا أخرى، يعرب المتظاهرون فيها عن غضبهم من وحشية الشرطة والفساد ورأسمالية المحسوبية وغطرسة من هم في السلطة والتلاعب بالسياسة وضعف المؤسسات السياسية عن تمثيل الناس وتهميشهم الجماعي، وتفاقم التفاوتات في الثروة والدخل والفرص، تطول القائمة ولكن ما يجمعها طلب إنساني عالمي على الكرامة والعدالة والحرية.

ولكن لماذا يجب أن نتوقف أمام هذه الموجة العالمية من الاحتجاج ضد العنصرية التي جعلت الصحفي كيم زيتر يكتب أن التأثير العالمي لحركة الحياة السوداء في الأسابيع الأخيرة بدا وكأنه تحول "ضخم مثل سقوط جدار برلين"، ولماذا يجب فهمها في سياق عقدين من الاحتجاجات المتواصلة؟ أي من بداية الألفية الثالثة، وما علاقة هذه الاحتجاجات بتفشي فيروس كورونا؟

الدولة وصناعة التمييز الممنهج

 

في العرق، كما في الحرب علي الإرهاب، والحرب علي الهجرة غير النظامية، والحرب علي الجريمة المنظمة، والحرب على الوباء تستخدم الدولة المعاصرة -في حروبها تلك- آليات متشابهة لتحقيق النصر على عدو غير واضح المعالم والحدود، ويتم تعريفه وفق مصالح كل دولة رغم التحالفات بينهم، وفي الحروب كل شيء مشروع أو يمكن شرعنته لتحقيق النصر الذي لا يأتي أبدا.

تسير الدولة تجاه المختلف عرقيا أو ثقافيا أو دينيا، أو الإرهابي، أو المهاجر غير الشرعي، أو المجرم قانونا في مسارات متعددة تبدأ بنزع الإنسانية لتنتهي بنزع المواطنة عن الشخص أو الفئات المستهدفة.

وتستخدم في سبيل ذلك الآليات التالية:

١- نزع الإنسانية: الأميركيون السود والمهاجر والإرهابي مجردون من الإنسانية، ومن ثم يجب ألا يعامل من نزع إنسانيته بالمساواة لأنهم يعتبرون أقل قيمة، ويتم الاعتداء على حياة هذه المجموعات تماما عن طريق تحويلهم إلي صور نمطية أو أرقام لا معني لها، وعندئذ يبدأ العنف الممنهج المبرر أو "المشروع". أدركت هذه الحقيقة في السجن فتجاوزات مؤسسات إنفاذ القانون لا يمكن لها أن تستمر في عنفها المنظم تجاه المسجونين، ولا يمكن لتابعيها أن يحافظوا على درجة هذه التجاوزات واستمرارها دون نزع الإنسانية عن الطرف المقابل الذي يتحول إلى عدو في حروب غير واضحة المعالم والأهداف.

٢- التجريم: المجرم مخلوق من الخيال القانوني باستخدام أدوات الدولة، ويأتي احتكارها للعنف من خلال مؤسسات إنفاذ القانون ليضمن تنفيذ وتطبيق التجريم على فئات محددة، وتتطور من خلال استخدام التقنيات التشريعية والإجراءات البيروقراطية لتصنيع الجماعات المجرمة، وتكون الدعايات والأيديولوجيات والأفكار لإضفاء الشرعية المعنوية على التجريم القانوني.

استمر حبسي الاحتياطي لمدة ٣ سنوات ونصف رغم أن أقصى مدة للحبس الاحتياطي وفق القانون الذي تم تعديله من النظام نفسه سنتان فقط، هل يمكن أن يتم ذلك إلا بنزع الشرعية القانونية عنك بعد نزع الإنسانية.

ثنائية المجرم/غير المجرم تخلق المعيارية المعنوية والتشغيلية للمجالين العام والخاص معا. وتستخدم الدولة مفاهيم الحرب والأمن القومي والسيادة لتعزيز نطاق المشروعية الموضوعي والمجالي، وتحديد الفئات والأفراد المشمولين بها والخارجين عنها، وكثير من الاجراءات القانونية في الحروب المتعددة التي تشنها الدولة تستند إلى الإجراءات الاستثنائية من عدم افتراض للبراءة (المهاجر غير الشرعي)، أو الحق في محاكمة عادلة (غوانتانامو)، أو عدم إدانة أفراد الشرطة في الأحداث العنصرية لأنهم في حالة دفاع مشروع عن أنفسهم.

من الملاحظات الهامة التي التقطها بخبرة السجن أن من يمتلك القوة في الدولة المعاصرة ينتج اللاشرعية القانونية وهي تتضمن تهميش اجتماعي وفكري وسياسي وعرقي، ورغم قدرة من يملك القوة على تحديد اللاشرعية، فإن ذلك ينتهي عادة إلى نزع المشروعية عن الفئات التي تحاربها. نظام ٧/٣ في مصر اتخذ التدابير القانونية كافة التي تضمن تصحير المجال العام، إلا أن التزامه بالشرعية التي أنتجها تظل معدومة. ففي حالتي استمر حبسي الاحتياطي لمدة ٣ سنوات ونصف رغم أن أقصى مدة للحبس الاحتياطي وفق القانون الذي تم تعديله من النظام نفسه سنتان فقط، هل يمكن أن يتم ذلك إلا بنزع الشرعية القانونية عنك بعد نزع الإنسانية.

٣- تطور التمييز ليكون ثقافيا: فأوضاع الفقراء والفئات الضعيفة والسود في الولايات المتحدة والإرهاب هو نتاج لطباعهم وليس نتاج لتخلي الدولة النيوليبرالية في الولايات المتحدة والعالم عن سياسات الدعم الاقتصادي والاجتماعي للفئات الأكثر ضعفا في المجتمع، والمسلمون جميعا -في سياسات الحرب على الإرهاب- تهديد للحضارة بحكم ثقافتهم ودينهم، والفقراء باتوا كذلك لأنهم لا يريدون أن يعملوا، وليس بسبب سياسات إعادة التكيف الهيكلي التي جعلتهم أكثر ضعفا.

٤- صناعة التهديد: المهاجرون تهديد للوظائف ومستوى معيشتنا، والمسلمون تهديد للحضارة الغربية بقيمها، والسود تهديد للهياكل المنظمة، والفيروس تهديد للاقتصاد والعولمة قبل البشر وصحتهم، والإرهاب تهديد للدولة الوطنية، والفقراء تهديد للنمو الاقتصادي والاستقرار السياسي… إلى آخره. هكذا يعيش الإنسان المعاصر في تخويف مستمر ليبقي الحال كما هو عليه عند إلقاء اللوم على الأقليات والفقراء والجماعات الإرهابية والعمال المهاجرين رغم أنهم جاءوا لملء فجوة توفر عمالة رخيصة في ظل تحولات اقتصادية.

في سياسات التخويف دائما يتم استبدال شيء بآخر عبر ثنائيات متعددة يبرز التناقض بينها: الحماية من الفيروس في مقابل انتهاك الخصوصية والتنازل عن بعض حقوق الإنسان، وفي الحرب على الإرهاب الحفاظ على الدولة في مقابل إغلاق المجال العام، وفي الهجرة الرفاهية الاقتصادية في مقابل منع الهجرة… إلى آخره. المشكل أن الحروب لا تنتهي ولا تحقق الهدف الذي تم التنازل له: القضاء على الفيروس أو الاستقرار أو زيادة الوظائف أو الرفاهية الاقتصادية.

٥-التصنيف والإزالة: فالدولة تستثمر قوتها في تحديد المشمولين بمواطنتها، وتخلق الاستبعاد الوطني وتحوله إلى مؤسسات. الدولة تخلق عملية إزالة موحدة من خلال توسعة الجرائم التي تؤدي إلى الإزالة هي تستخدم على سبيل المثال آليات إثبات قانونية أقل للفئات التي تشن عليها الحرب، وتوفر حماية إجرائية أقل من القانون العادي لهذه الفئات، ففي مكافحة الإرهاب ومناهضة الهجرة غير الشرعية ومواجهة عنف الأقليات، هناك اتساع دائم للسلطة التقديرية لمؤسسات إنفاذ القانون أو زيادة للعقوبة.

ماذا تعلمنا هذه الآليات؟

١-إذا تم محو المختلف دينيا ولغويا وعرقيا واجتماعيا فلن يبقى أي شخص في أمان، وسيكون هو الهدف التالي فقط. مأزق الدولة المعاصرة عجزها عن إدارة التنوع على المستويين الوطني والدولي رغم أنه بات التحدي الأساسي للدول جميعا، ديمقراطية وتسلطية.

٢-يجب التنبه إلى أنه في كل مرحلة من مراحل صراع الدولة المعاصرة مع قضية ما يترك لهذه القضية أن تقود المجالات الأخرى وتعيد تشكيلها، ففي الولايات المتحدة لم يتم صياغة سياسات جديدة للهجرة بعيدا عن سياسات الحرب على الإرهاب بعد ١١ سبتمبر، كما جرى تصحير المجال العام في مصر منذ ٢٠١٣ في إطار الحرب على الإرهاب. سياسات الهجرة للاتحاد الأوروبي تقود علاقاته الخارجية وهي أحد المحددات الأساسية في دعم الأنظمة -جنوب المتوسط- وإن اتسمت بالتسلطية.

٣-انتقاص حقوق الفئات التي يتم شن الحرب عليها بتحويلها إلي غير مواطنين؛ هي المقدمة الضرورية لانتهاك حقوق المواطنين أنفسهم، فقد أثبتت الدراسات أن الحقوق التي يتم انتقاصها في هذه الأوقات، أوقات الحروب والأزمات، لا يتم استردادها خاصة أننا ننتقل من حرب لأخرى على مدار العقدين الماضيين.

عقدان من النضال ضد النيوليبرالية

 

نحن ندرك أن هياكل السلطة تختلف من بلد لآخر، وكذلك المظالم التي تتحرك عليها الاحتجاجات، ولكن إدراك المشترك مسألة هامة:

  • التغييرات الرئيسية التي تقودها القاعدة الشعبية متباعدة وموجهة تجاه قضايا متعددة وفي مجلات شتى، ولذا فهي تأخذ شكل جبهات أيديولوجية وسياسية واسعة، وهي سمة للاحتجاج على النيوليبرالية التي هي ليست مشروعا سياسيا فقط بل هي مشروع شامل يعيد صياغة هياكل السلطة والثروة العالمية داخل الدولة ليكون على مثاله، وهي تستخدم في سبيل ذلك أدوات متعددة وتوظف مؤسسات شتى جوهرها خلق المعيارية العالمية، قيميا ومؤسسيا وقانونيا وإجرائيا من خلال آليات السوق.

الحركات الاحتجاجية على مدار العقدين الماضيين في جوهرها مطالبات بأن تحكمنا سلطة معيارية أفضل وأكثر وعدا بالكرامة والتحرر الإنسانيين. هناك رفض معياري للعبودية والعنصرية وعدم المساواة والتفاوتات بين البشر والتمييز أيا كان نوعه، وللحرب.

النيوليبرالية تظهر في كل ركن من العالم لأنها ممارسات صغرى للحكم والثروة وليست أيديولوجية، ويكون الاحتجاج عليها مثيلا لها حين يظهر في أركان عدة يبدو أنه لا رابط بينها.

ويعمق من هذا تحول الاحتجاج من اعتماد على المؤسسات الكبرى كالنقابات العمالية فيما مضي إلى الاستناد على شبكات واسعة غير هرمية ولا مركزية من الفاعلين المؤقتين.

 

العنصرية في الولايات المتحدة نظامية وممنهجة وتتحرك على الهياكل الأعمق لعدم المساواة، وهي سمة أميركية مركزية ودائمة كما أكد أحد منظري العرق.

لكن الدرس الهام في هذه النضالات أنه عندما تدافع مجموعة من البشر بنجاح عن حقوقها فإن ذلك يعطي الإلهام والثقة للآخرين، حدث هذا في الربيع العربي ويحدث الآن في مناهضة العنصرية، وسيحدث دائما في المستقبل.

  • هناك عجز حتى الآن عن مواجهة القمع الهيكلي لمعظم المواطنين من تحالفات نخب أصبحت ثرية تماما ولكنها منفصلة عن شعوبها.

لذا فكثير من خبراء مناهضة العنصرية يرون أنه لا يمكن حل معضلتها دون تغيير جذري في الولايات المتحدة، وهو ما لم يتحقق على مدار قرن ونصف حتى الآن. العنصرية في الولايات المتحدة نظامية وممنهجة وتتحرك على الهياكل الأعمق لعدم المساواة، وهي سمة أميركية مركزية ودائمة كما أكد أحد منظري العرق.

خبرة العقدين تقول إن المحتجين يعرفون ما يحتجون عليه، لكنهم غير قادرين حتى الآن على تقديم مشروع بديل يفكك بنى السلطة والثروة، وهنا يكون السؤال هل يتحول الاحتجاج إلى معارك تتراكم فيها الانتصارات في سلسلة متعاقبة، أم أن النيوليبرالية -وكما فعلت الرأسمالية دائما- قادرة على تجديد نفسها وإصلاح أخطائها؟ وهل سيتطور إدراك المحتجين بأن نضالهم اليوم الذي يتعلق بسياسات الحياة اليومية هو جزء من عقد منتظم من حرب دائمة على النيوليبرالية الضارة؟

الجائحة.. إعادة اختراع الحكومة مع تعميق التفاوتات

تتسم الأوضاع في ظل الفيروس بعدم اليقين مع عجز عن إدراك ملامح المستقبل، ويسرع الوباء من الديناميكيات الكامنة؛ فهو يبرز التطرف في كل أمر، كما يعمق من خطوط الفصل التي تتجمع حول العرق والطبقة، لأنه يزيد التفاوتات في الدخل والثروة والفرص.
وبينما فشل الوباء في وقف العنف بين الدول، فقد أوجد وفاقم المخاطر على المدى القصير والمتوسط للعنف وعدم الاستقرار داخل الدول.

بالفعل، فقد عزز كوفيد-19 الاتجاهات التي تعمق من خطر العنف وعدم الاستقرار داخل الدول، والتراجع الديمقراطي والانهيار الاقتصادي واستهداف الأقليات.

لقد أتاح تفشي الوباء فرصاً جديدة لاستهداف الأقليات والقمع الحكومي، وقد وجد أولئك الذين كانوا كبش فداء أو يستهدفون بالعنف من الفئات المهمشة غطاء وحتى وقودا جديدا في الجائحة والأزمة الاقتصادية المصاحبة. ازداد التمييز الديني الذي ترعاه الدولة، وكذلك خطاب الكراهية والعنف ضد الفئات المهمشة والمختلفة دينيا أو عرقيا.

في الوقت نفسه، وفرت تدابير احتواء الفيروس التاجي وإنفاذها العنيف غطاءً للقمع الذي تقوده الدولة، والذي من المرجح أيضًا أن يزيد من مظالم بعض المجموعات، ويضعف الثقة المدنية ويزيد من الاضطرابات.

النيوليبرالية مجموعة معقدة من أدوات السياسة والترتيبات المؤسسية والتدخلات التقنية التي تنطوي على إعادة اختراع الحكومة بشكل يضمن سيطرتها وقوتها في مجالات وانسحابها من أخرى. كشف الفيروس هذه الحقيقة، فرغم الإنفاق العسكري الباهظ على مدار السنوات الماضية والحضور المتزايد لقوات إنفاذ القانون في عديد المجالات فإن ترسانة الأسلحة هذه وسيطرة الشرطة لم تستطع أن تتعامل مع تفشي الفيروس.

وقد التقط أحد الباحثين بذكاء أن الفيروس التاجي أثار اضطرابًا كبيرًا من خلال الكشف عن عجز الدولة الحديثة في مواجهة حدث واسع النطاق وكارثي. "نحن مضطرون لرؤية أن هناك فجوة لا يمكن تجاوزها بين معايير واتفاقيات إدارة الدولة المناسبة خلال الأوقات الروتينية ومنطق التعامل مع حالة الطوارئ"، وهنا تكمن مشكلة الدولة الحديثة التي تقوم في المقام الأول على منطق الروتين وتنكر التمايز النوعي لمنطق الطوارئ.  كلما زاد تفوق النظام في الإدارة السليمة في ظل الظروف الروتينية قل استعداده للتعامل مع سيناريو الطوارئ غير المسبوق.

وبالتالي، فإن أزمة الفيروس التاجي تستدعي دراسة جديدة لما يمكن توقعه من الدولة الحديثة، لأن الطلب على المساعدة من مؤسسات الدولة كبير بشكل خاص في أوقات الطوارئ، هناك حاجة لإعادة النظر في البنى والهياكل التي تحتفظ بها الدولة في الأوقات الروتينية وخلق التوازن الضروري بين منطق الروتين ومنطق الطوارئ.

ملمح آخر من المقرر أن يؤدي الوباء في المدى القريب إلى عهد جديد من حكومة أكبر وأكثر تدخلا. إدارة الوباء سوف تتطلب حكومات أكبر، حيث تسارع الدول إلى إنشاء أدوات جديدة موسعة للسيطرة على الأمراض وإدارة المجال العام والمراقبة الاجتماعية علي أمل الحد من تفشي الأمراض في المستقبل. عصر الحكومات الكبيرة يعود لكنه سيظهر بطرق مختلفة تماما عن حقبة الستينيات والسبعينيات.

فبعد عقود من زخم السوق الحرة، تتبنى الحكومات في الدول المتقدمة والأسواق الناشئة على حد سواء أدوارًا مؤثرة وطويلة الأمد لها في الأعمال الأساسية.

ومع تعثر منظمة التجارة العالمية، من المحتمل أن يكون هذا مجرد بداية لمجموعة من الإعانات العامة، والإعفاءات الضريبية والمشتريات الحكومية والتخزين ومتطلبات الشراء المحلية وغيرها من الخطط التي ستضعها العديد من الدول لتشكيل الإنتاج والوصول إلى مجموعة أكبر من السلع والخدمات التي تعتبر ضرورية، لأسباب تتعلق بالأمن القومي – يتم تعريفها الآن على نطاق أوسع من أي وقت مضى لتشمل خطر الانقطاع أو الاعتماد المفرط على الصين أو توفير الوظائف.

من المؤكد أن جهود الحفاظ على التجارة الحرة وربما توسيعها لن تنتهي. لكن العديد من هذه المفاوضات سوف تفترض، وأحيانًا تبرز، تدخلًا حكوميًا مباشرًا أكثر في الأسواق.

بعد ٣ عقود من تكوين الثروة على نطاق لم يسبق له مثيل تاريخيا، هل نكون الآن -بتدخل الحكومات- على أعتاب فترة غير مسبوقة من إعادة توزيع الثروة في شكل ضرائب أعلى لتمويل التوسع في الرعاية والخدمات الأخرى؟

بعض الدراسات تشي بغير ذلك، السمات التوزيعية للخسائر في الوظائف والدخل أكثر إثارة للقلق. ووفقًا لمسح أجراه بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي مؤخرًا، فقد تم تسريح 39 ٪ من العاملين في الأسر التي يقل دخلها السنوي عن 40000 دولار.

تضررت النساء بشدة، وكذلك الأقليات: من بين 20.5 مليون وظيفة اختفت في أبريل/نيسان، كانت 55٪ من النساء، مما رفع معدل البطالة للنساء إلى 15٪، ومعدل النساء الأميركيات من أصل أفريقي والنساء من أصل إسباني إلى 16.4٪ و20.2٪ على التوالي.  ليس هناك شك في أن الوباء كان محفزا لعدم التكافؤ في الفرص.

 

 تتراكم الأضرار الطويلة المدى على الناس والاقتصاد مع مرور الوقت، ويصبح عكس ذلك أكثر دون تدابير الإغاثة والتحفيز.

  • أولئك الذين صمدت وظائفهم أثناء صدمة كوفيد-١٩ هم بشكل غير متناسب في المهن ذات الأجور المرتفعة نسبيًا التي يمكن أن تستوعب ترتيبات العمل من المنزل.

-كلما كان التعافي الاقتصادي أبطأ شعرت بفقدان الوظائف والدخل لفترة أطول، وسيزيد ذلك من عدم الاستقرار المالي والمؤسسي والاجتماعي والسياسي.

-سيؤدي الاعتماد المتزايد للأتمتة والرقمنة إلى زيادة مشكلة التوظيف، حتى أطفال العاطلين عن العمل قد يعانون، فمن المحتمل أن يكونوا أقل قدرة على التكيف مع التعليم عبر الإنترنت خلال الوباء وأقل احتمالية أن يكون لديهم المعدات والظروف للقيام بذلك.  وستستمر الفجوات التعليمية في الاتساع، الأمر الذي يديم دورة انعدام الأمن.

  • تتراكم الأضرار الطويلة المدى على الناس والاقتصاد مع مرور الوقت، ويصبح عكس ذلك أكثر دون تدابير الإغاثة والتحفيز.

حتى في أفضل سيناريو، لن تتعافى خسائر الدخل والناتج القومي على الفور. سيضطر العديد من الأفراد والشركات إلى تحمل ديون من شأنها على المدى الطويل أن تمنع الإنفاق والاستثمار. ولكن لن يتأثر الجميع بالتساوي، سيقع الضرر بشكل غير متناسب على الأسر الأكثر فقراً، والتي بدورها ستستهلك أقل وستبطئ إحياء الطلب وبالتالي سرعة التعافي.

  • إن جزءًا غير متناسب من العبء الصحي والاقتصادي يقع على من هم أقل قدرة على تحمله.  يجب على الإدارات المختلفة دعم وتعزيز تدخلات الطوارئ الكبرى لتخفيف بعض هذا العبء وتعزيز النمو. وبخلاف ذلك، ستتفاقم المشاكل الاقتصادية بمرور الوقت وستتعمق التفاوتات مما يزيد من خطر عدم الاستقرار الاقتصادي والمؤسسي والاجتماعي.

بعد كل هذا هل يتم الاعتراف بأن تقييم الاقتصادات على أساس الناتج المحلي الإجمالي المحض هو فشل يجب معالجته إذا أردنا الحصول على فرصة لخلق عالم أكثر إنصافًا؟

توفر أزمة الفيروس التاجي، التي أدت إلى توقف التفاعل البشري بشكل مفاجئ في جميع أنحاء العالم، فرصة لإعادة النظر في الجوانب العلنية والسرية للطرق التي تدار بها حياة الإنسان، أولاً وقبل كل شيء أدوار الدولة والتزاماتها تجاه مواطنيها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.