جماعة الدعوة والتبليغ.. الطريق إلى البيان الأول

TONGI, GAZIPUR, BANGLADESH, TONGI, GAZIPUR, DHAKA, BANGLADESH - 2017/01/15: Devotees take part in the Akheri Munajat or final prayer at Tongi railway station during the Bishwa Ijtema. Thousands of devotees do not get accommodation at the main venue of Ijtema, but they gather in nearby areas outside the main set up. The Bishwa Ijtema or World Congregation is an annual Tablighi Jamaat Islamic congregation held in Tongi by the Turag River. The event has transformed into an important and annual religious festival. Bangladesh is a moderate Muslim (over 86 percent population are Muslims) country in South Asia. In terms of number of devotees this religious festival is second biggest get-together of people with Islamic faith. (Photo by Probal Rashid/LightRocket via Getty Images)

في هذا المقال سنقدم قراءةً تأريخية لجذور تشكل جماعة الدعوة والتبليغ وعلائقها مع مختلف التوجهات الاجتماعية المزامنة لها والمتمثلة في حركات استقلال الهند، وذلك من خلال تحليلٍ موجز لأهم محطات سيرة مؤسسها الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي (1886م-1944م)، نعرض فيه -بنوع من التكثيف- حالة المحيط الفكري المرتبط بالسياق الاجتماعي والسياسي في الهند في الربع الأول من القرن العشرين.

بواكير الوعي الحركي
عرف محمد إلياس التسفارَ في مستهل عمره؛ فبين معقل خؤولته في "كاندهلة"، ومحل سكن أبيه في "نظام الدين" بمنطقة "ميوات" جنوب "دلهي"، كان انتقاله الدؤوب يتجدد إلا أنه وجد نفسه -في فترة من الوقت- منصرفا إلى خدمة أبيه، وقد طال مكوثه إلى أن عرض عليه أخوه محمد يحيى اصطحابه معه إلى "كنكوه".

وقد مهد ذلك لإلياس فرصة الاحتكاك بأبرز فقهاء بيئته وهو الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، فلازمه عشر سنين كوامل. ويقول أبو الحسن الندوي في هذا الصدد: "توطدت العلاقة بين الشيخ (الكنكوهي) وتلميذه الروحي، وصار يحن كل منهما إلى الآخر، حنانًا لا يسمح أن يفارق صاحبه، مما مكن الشيخ إلياس أن يفيد إفادةً كاملة".

توفى شيخه وهو في طور العشرين من عمره، وانطوى بسبب ظروفه الصحية على ملازمة المسجد ودور التعليم، ثم تولى أخوه الشيخ محمد يحيى رعايته الروحية والمادية، فكفاه عناء طلب الرزق. ومما يُذكر أنهما افتتحا مكتبة في تلك الأيام، كان أخوه يقوم بشؤونها ويكتفي هو بعُزلته في المدارسة والتعلم، التي لم يقطعها إلا لارتحاله إلى "ديوبند" في مقاطعة "سهارنفور" عام 1908م طلبا لعلم الحديث.

تهيأ إلياس -بعد إتقانه علم الحديث وتمكنه من علوم أخرى مثل السلوك والتزكية وعلوم القرآن- للتدريس في إحدى مدارس "ديوبند"، وقد طال مكوثه في مدرسة "مظاهر علوم" حتى تيسر له أول حج عام 1915م.

ومما لا يغفل التنويه به هو روافد الحس الحركي الذي تخلق ونما في ارتحاله ومروره بقُرى الهند وبعض مدنها، ووقوفه على مختلف القضايا والمواقف الداخلية، وكذلك حجّه الذي تعرّف فيه على أحوال المسلمين وشؤونهم، في لحظات مفصلية وفترة حرجة عظُم فيها التيه والانقسام.

إلى مبلغ شبابه واكتمال رشده؛ عاش إلياس على هامش الاستقطابات الاجتماعية وغيرها، وما تُولّدُه من احتكاك ومشاحنة في مناخ منضبطٍ ومناقض لأجوائها العشوائية، مما كفل له الاتساق الذهني ووضوح الطريق الذي سيحدد اتجاهه الحركيّ فيما بعد.

تشارك أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة في اجتماعها السنوي في باكستان (غيتي)
تشارك أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة في اجتماعها السنوي في باكستان (غيتي)

النضال ضد الاستعمار
ولئن كان الشيخ ظل بعيدًا عن تجاذبات الوقائع وتنافراتها؛ فإنه لم يكن غافلًا عنها، بل يبدو في سنوات شبابه رصده لتطوراتها، وتحرّيه لمجملاتها على نحو لم يعبأ فيه بالتفاصيل، إلا بقدر إلمامه بالنظم التجذّرية المهيمنة والحاكمة لقواعد التغيير.

ومن الجدير بالذكر مشاركة شيخه الكنكوهي في الحرب ضد الاستعمار البريطاني، التي أدت لاعتقاله بعد هدأتها قبل أن يتم الإفراج عنه، ولذا فليس من البعيد أن هذه التجربة المفصلية هي التي حوّلت مسار فاعليّة الكنكوهي من الساحة العملية المباشرة إلى الهامش التنظيري غير المباشر، وأظهرت أي مدىً كان توريث الوعي السياسي ضد الاستعمار يقدّم نفسه بإلحاح في مثل تلك الظروف والأجواء.

لقد تآزرت عدة محاور في صقل شخصية إلياس، بدءًا من الفضاء السلوكي الذي غلبت عليه مآثر الزهد والتعفف؛ تماهيًا مع المناخ العلمي بما يُعليه من قيم الانكباب على حِلَق التعليم والانقطاع لها؛ وتقاطعا مع المحيط السياسي وتمظهراته اليومية.

كل ذلك أدى إلى تشكيل قناعاته شيئا فشيئا، وإبراز إشكال جدليّ في المنهج، يستحضر سؤال الأولوية: أين يبدأ الإصلاح: من العمل الدعوي أم النشاط السياسي؟ وهل من المفترض أن يتقاطعا؟ وأين؟ لقد كان إلياس بقدر ما يُقبل على الإصلاح والانهماك بهمومه؛ ينفر من السياسة، ومن الراجح أن نفوره التامّ منها -فيما بعدُ- كان وليد قرارٍ اتّخذه في مرحلة متأخرةٍ من شبابه.

وتتفرع أسباب ذلك النفور إلى نواحٍ عدة؛ منها تكوينه النفسي المتأثر باتجاهات ما يمكن أن نطلق عليه اصطلاحا "التصوف الحركي"، الذي يفضّل إجمالًا التأثير في الأطراف على الولوج إلى المركز، ومن ثم جاء انتباهه -كما نرى- إلى قيمة العمل العضوي في التأثير، وأنه تأمل عميقًا في أحوال مختلف التكتلات الاجتماعية، وتفرّس في أخطائها، وراكم خلاصاته النظرية عن عدم جدوى الصدام، إن لم تكن انعكاساته سلبية على صعيد حرية الأفراد والجماعات.

ولادة الجماعة وانتشارها
بعد وفاة أخيه الشيخ محمد يحيى عام 1918م؛ تشاور الشيخ إلياس مع بعض وجهاء ومشايخ "نظام الدين" في العودة وخلافة أبيه وأخيه في التدريس، فآب إليها في منطقة "ميوات" بعد أن اشترط على أهلها مساعدته في إقامة كتاتيب بأنحائها تمثّل امتدادًا تعليميًا للمدرسة، ولم تكن عينه ترف -في ذات الحين- عن مراقبة التطورات الحراكية المتسارعة في الهند.

ولكن البيئة في "ميوات" خلقت تحديّا عكف إلياس على مواجهته بالتربويات وزيارات للميواتيين، كانت تستهدف استقطابهم والاستعانة بهم في مجال الدعوة.

وفي هذا السياق التزامني القصير، وبتوازٍ مع أمواج الاحتجاج العارمة ضد الاستعمار البريطاني؛ بدأ إلياس عصف ذهنه المزحوم بالآمال والتطلعات حول كيفيّة الانعتاق من ربضة التبعية، مستقرئاً حالة الانسداد التي يعانيها القلب المسلم، فقد كان يشْخصُ إلى نواقص المكوّن الوجداني لملئها بوصفها السبيل لسد ثغرات الوعاء العقلانيّ المحض.

ولنا أن نتصور قلقه من تدافع الأحداث الضخام في عموم البلاد، ومن تنفذ الإنجليز في أغلب مفاصل البلاد الهندية وإحكامهم السيطرة عليها، في ظل انقسام طوائفي وتحديات جسام يقف جسد المجتمع ضعيفا أمامها؛ فبدا أن باعث أول سؤالٍ للتغيير ينبت من ظلال الواقع السياسي، وظواهر العجز والشقاق، ليس في داخل الهند وحسب وإنما في عرض البلدان الإسلامية.

لقد كانت مؤثرات العامل السياسيّ منطلقًا يعكس دلالاته الواقعية، كما كان نقض هذا العامل وتجاوزه إلى ميادين أخرى -تنتفي بها المحددات السياسية- قد فرض ذاته الواقعية كذلك، ولا يمكن بأي حال أن نضع النصيب الأكبر من دافعية الحراك وتكوين جماعة الدعوة والتبليغ في دائرة السياسيّ قطعًا، ولكننا نستجلي بواعثه وإمداداته للفكرة الكبرى التي برقت في ذهن إلياس، وهي وجوبُ فعل شيء ما إزاء هذا الوهن والتردّي.

إنها سبع سنينٍ على وجه التقريب كانت هي الفاصلة بين تحديد الأسئلة وترتيب الأولويات وتهذيب المقاصد وتشذيب السبل، وبين بدايات التشكّل. وفي الجوار القريب الشاسع؛ بدأت حناجر نشطاء الهند تصدح عنيفًا بالاستقلال، وتتموكب من أجله رغم تشظيهم حزبيا واتساع الفجوة بين رغبة التحرر وتحقيقها، كما بدا لعيون الأفراد في تلك الحقبة.

ولعل مسألة الاختلاف والتنازع -التي عمل المستعمر على إذكائها- أسهمت بشكل رئيس فيما يمكن تسميته بـ"حاكمية القومية الإسلامية" في منظور إلياس، واستغنائه عن التشارك العملي مع القوميات الأخرى داخل الهند.

وكما يتضح من سيرته؛ فإنه لم يكن ذا احتكاك عالٍ بأطياف المجتمع الهندي وتعددياته، كما أن العمل الائتلافي المتجاوز للفروق الدينية والعرقية غالبا ما يقع تحت مجهر الاستهداف، ولذلك ارتأى التصدي لمهمة القيام باستنهاض القومية الإسلامية وفق إمكاناته وتوظيف الطاقات من حوله، وبالقدر الذي تسمح به مرونة الهامش.

وفي منتصف عام 1926؛ سافر الشيخ إلياس إلى حجّته الثانية، وفي هذه الفترة بالتحديد اكتملت الأركان النظرية لـ"جماعة الدعوة والتبليغ" في عقله، وانتظمت تصورات العمل لديه، ثم عاد إلى "كاندهلة" بعد أن قضى خمسة أشهر في المدينة المنورة.

وفي "كاندهلة"؛ بدأ الشيخ إلياس الجولات الدعوية المشتملة على نظام آدابيٍّ مُجدْولٍ بحيث يتم تطبيقه والالتزام به، ويتمثل في: المبيت في المساجد، والتجول عصر كل يوم على البيوت والأسواق، وإلقاء الخطبة البيانية بعد صلاتيْ الفجر والمغرب.

ووفق هذا الأسلوب ظل العمل الدعوي يُقام في منطقة "ميوات"، حتى بدأ صدى الحراك ينتشر في المناطق المجاورة ليصل إلى أماكن أكثر نأيا، وساهمت المراكز الدينية المجاورة في استقباله وإعادة إنتاجه، إلى جانب كاريزما الشيخ إلياس في حثه المستمر واتصالاته الدؤوبة.

‪تعتبر فكرة
‪تعتبر فكرة "الخروج في سبيل الله" من أهم أدوات الجماعة لتبليغ الدعوة وتوصيل الخطاب إلى عامة المسلمين‬  (غيتي)

التجديد وتأثيرات السياق
لقد أدخل الشيخ إلياس على الحركية الإسلامية تجديدًا بنيويا ومنهجيا، بإضفائه فلسفةً عمليةً مغايرة لما كانت تقوم عليه النقابات الإسلامية في اعتمادها على التبرعات الوقفية. فمن المعروف أن بذل المال أو منح الأراضي والأملاك وغيرها هو محور العمل الوقفي، بمعنى أن الجماعة أو الحزب أو التنظيم يرتكزون عادة على الوسيلة المادية لتفعيل نشاطاتهم.

أما إلياس فقد استبدل هنا بأداة المادة أداةَ الوقت والجُهد، ثم بنا عليهما شروط الدعوة التبليغية وآلياتها؛ فليس المطلوب من القائمين بالدعوة إلا اقتطاع وقتهم وبذل طاقاتهم للوصول إلى أكبر قدر ممكن من القرى والناس، مع شرط امتلاك كل فرد منهم لنفقته الخاصة.

ومن تجليات هذا التجديد إقصاءُ العنصر السياسي من منظومة الأعمال التبليغية؛ فعلى الجماعة أن تبتعد قدر الإمكان عن مغبّات تناوله والانخراط فيه، وكثيرا ما يحضر في أدبيات جماعة الدعوة والتبليغ التنفيرُ من السياسة وتصويرها بأنها ضمن علل الإفساد والفرقة والتناحر.

وإذا كان من غير الطبيعي أن تتمخض مفاهيم الشيخ إلياس الدعوية عن تأمّلٍ يكون وليد ذاته ومحيطه المحدود، ومنفصلا عن أجواء الهند الملتهبة ومناخ أحداثها وتراكماتها؛ فإنه من غير المستبعد أن تكون ثمة علاقة متوارية بين مفهوم الإقصاء -الذي قعّده إلياس- والسياق السياسي الذي انتظمت فيه الحِراكات الاجتماعية الأخرى، وبعض أفكارها النضالية بشكل خاص.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.