في مواجهة الأزمات.. هل يُغنى "تجديد الخطاب"؟

ريف حمص الشمالي 13-05-2018 من دفعات التهجير بعد الاتفاق

عرف العالم في الفترة الأخيرة ولا يزال حتى يوم الناس هذا، أسوأ كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، حسب تقرير للأمم المتحدة.

وتتموقع خريطة هذه الكارثة وما نجم عنها من ويلات، في القلب من رقعة العالم الإسلامي بدءا بسوريا وما عرفته وتعرفه من جرائم وحشية ودمار غير مسبوق، ومرورا بالاقتتال في ليبيا والحروب الطائفية في العراق واليمن بالإضافة إلى المجاعة والأوبئة في العديد من المناطق في هذه الأقطار وفي مناطق أخرى كالقرن الأفريقي ومنطقة الساحل وغيرها.

وتعيد التفجيرات الأخيرة (في أفغانستان وغيرها) إلى الأذهان، سلسلة الهجمات الإرهابية وأعمال العنف الطائفي التي ضربت العالم الإسلامي في كل جهاته؛ من إندونيسيا وباكستان شرقا إلى مالي وبوركينافاسو ونيجيريا غربا.

وإنه لمن الصادم والمخزي أن أصبح المشهد اليومي لجرائم التقتيل الأعمى وتناثر الأشلاء في بلاد مسلمة عديدة أمرا اعتياديا، لا يكاد يثير الاكتراث؛ أحرى التعاطف ومساعي النجدة، وإن مشاهد البشاعة المروعة في سوريا وحدها تكفي لتبيين حجم المصاب، حيث تجاوزت الحصيلة المعلنة 350 ألفا من القتلى (معروفين بأسمائهم حسب المرصد السوري لحقوق الانسان)، 150 ألفا من ضحايا الاختفاء القسري (بدأ النظام الغاشم يعترف ويُخبر الأسر أن عشرات الآلاف منهم قد قتلوا أو توفوا في السجون)، ملايين الجرحى والمعوقين وضحايا التعذيب في السجون، ملايين المهجرين والنازحين والمشردين وبينهم قرابة مليون طفل يتيم يعانون التشريد والفاقة والفواجع مع تأثيراتها النفسية الوخيمة، وغيرهم من ضحايا الصدمات النفسية العميقة من أطفال ونساء ورجال.

هناك عوامل معقدة تضافرت لتغذية العنف وتأجيج نيران الفتنة، وعلى رأس هذه العوامل استدامة الطغيان واغتيال تطلعات الشعوب بقوة القمع وكيد التحالفات المخابراتية المقيتة، وبلغ ذلك أوجَه بالالتفاف البشع على الثورات لتتحول إلى فتن داخلية وطائفية نتنة، والعمل على تعميم الفوضى

هذا فضلا عن جرائم الحرب من استخدام الأسلحة المحرمة دوليا بما فيها السلاح الكيمائي واستهداف المدارس والمستشفيات والمساجد، والاستقواء بالقصف الروسي الهمجي الذي يذكُر الجميع كيف توالى ليلا ونهارا على مدن عديدة وعلى رأسها حلب ليدك أحياءها دكا على رؤوس ساكنيها والعالم يتفرج.. وكل يوم تتوالى المآسي وتُكتشف فصول من فظائع هذه المحرقة التي جرى ويجرى التغاضي عنها، بما يشكل تواطأ مع جرائم إبادة ممنهجة.

ونذكر جميعا كيف بلغ التغاضي أوجه عندما استمر القصف الهمجي الروسي والتدمير بشكل متزامن مع "مونديال" كرة القدم، وظل العالم يتغافل ويلهو بـ"المونديال" في روسيا غير عابئ بما ارتكبه ويرتكبه الروس في حق المدنيين السوريين. وفيما استحوذ صخب المباريات على كل الاهتمام، بدا كأن الآذان صماء عن استغاثات أهالي إدلب، ومن بعدها درعا المكلومة، وكأن مأساتهم لم تعد حتى تستحق الاكتراث.

أضف إلى كل ذلك موجة العنف الإرهابي والجرائم الوحشية التي اقترفتها أو تبنتها تنظيمات مختلفة الأسماء إلا أنها اتحدت في الافتئات على الإسلام، في سلسلة من الهجمات لم تسلم منها قارة من قارات العالم، مع توظيف شعارات وتحريفات هوجاء للنصوص الدينية.. وبذلك تستمر تغذية الكابوس الفظيع لتثبيت صورة قاتمة عن الإسلام، ترسمها ماكينة الإعلام الدولي في مخيلة الناس من شتى الأمم.

والواقع أن المسلمين ضحية في كل الحالات، إما مباشرة بسقوط الضحايا (والغالبية العظمى من ضحايا الإرهاب على مستوى العالم بأسره مسلمون)، وإما معنويا وأخلاقيا في سمعة دينهم وصورته وفي مكانتهم في الأمم وفي نظرة الناس إليهم؛ حيث يُراد أن يتراكم في سجل المسلمين -مع كل اعتداء تتم نسبة منفذيه للإسلام وهو منهم براء- مزيدٌ من ذرائع الكراهية والبغضاء والشيطنة.

وقد أصبحت نتيجة ذلك جلية ليس فقط في تنامى "الإسلاموفوبيا" في الغرب وإنما أيضا في ضعف التعاطف -إن لم تكن اللامبالاة- مع ضحايا الإبادة من المسلمين وليس مثال الروهينغيا وفلسطينيي غزة ببعيد، وكأنما نُزعت عنهم الصفة الإنسانية.

وعلى الرغم من الجعجعة الإعلامية حول علاج هذا الوضع المتأزم بل واستئصاله من جذوره، لا نكاد نرى في الواقع مؤشرات جدية على الانفراج، فما إن تسمع بهزيمة داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) في العراق أو في مكان آخر حتى تكتشف أنها وجدت موطأ قدم في بلدان هشة أخرى حيث يتم "توطينها" في أفغانستان وفي ليبيا وربما شمال مالي أو غيرها.. بل إن تقارير تفيد أن "تنظيم الدولة" في أفغانستان يستقبل إمدادات بالأسلحة تقلها طائرات مجهولة!

لكن، هل بالإمكان التوصل لحل جذري لمشكلة لم نُفلح بل لم نسع للتعرف عليها وتشخيصها بجدية، إذ لم نزل منشغلين ومذهولين بعوارضها؟

ينخرط "البُغاة" في منطق تحالف خبيث مع المتآمرين من الخارج، ويتمالؤون ضمنا لتهيئة الظروف للكوكتيل المتفجر، حيث تُفتح القنوات -استخباراتيا- لشرذمة من متطرفة الغلاة لتلتقي مع عصابات الإجرام القادمة من كل حدب وصوب، ويُستخدم الدين كواجهة وعنوان

إن نظرة فاحصة لواقعنا ولتاريخنا الحديث في ظل الدولة القُطرية، قد تُسعف ببعض التفسير لما عانته وتعانيه بلاد المسلمين من فتن واقتتال واحتراب طائفي. فهناك عوامل معقدة تضافرت لتغذية العنف وتأجيج نيران الفتنة، وعلى رأس هذه العوامل استدامة الطغيان واغتيال تطلعات الشعوب بقوة القمع وكيد التحالفات المخابراتية المقيتة، وبلغ ذلك أوجَه بالالتفاف البشع على الثورات لتتحول إلى فتن داخلية وطائفية نتنة، والعمل على تعميم الفوضى.

ويلخص الأستاذ برهان غليون ما حصل في بلده سوريا حيث تم "محو الصورة المدنية والسياسية تماما للثورة، وتمريرها على الرأي العام العالمي كحرب ضد الإرهاب من أجل تبرير إعادة تأهيل نظام، وظيفته الوحيدة حصار السوريين، وإرهابهم وتركيعهم".

تم التمادي والإمعان بشكل لا يوصف في ذلك النهج القذر، حتى استفحل الخطب بإطلاق الإرهاب الجنوني الوحشي من قمقمه نحو كل الاتجاهات، ليعيث في الأرض فسادا ويسفك الدماء في كل بقعة من بقاع العالم.. إرهاب يجد لنفسه وقودا سهلا ومتجددا من خلال الانحراف بفئات شابة استبد بها اليأس والإحباط والفراغ وغياب الوجهة مع روح انتقام أعمى.. وهي فئات يسهل استهدافها نظرا لما هي فيه من الحيرة والتيه واليأس، كي تشكل مددا مستمرا ووقودا لهذا الإرهاب الجنوني.

وطبعا لم يحصل هذا الواقع المأساوي فجأة، بل هو نتاج لتراكمات معقدة، كأنما عُمينا عنها؛ تراكمات تتغذى باستمرار من ثقافة وعقلية صنعها الاستبداد على عينه ودفع بها لتأجيج المذهبية والطائفية والتعصب، ومن ثم تمهيد الأرضية للتكفير وإهدار الدماء، بما يخدم استمرارية المستبدين على حساب المجتمع ومصالحه العليا.

ولا جرم أن هذه الأرضية هي أيضا نتاج لرواسب أخرى عتيقة توارثتها مجتمعاتنا في تقليد أعمى من قرون التخلف.. ولا جرم أيضا أن التدخلات الخارجية والطبخات المخابراتية، من جهتها، لم تنفك تُفاقم من تلك العوامل جميعا، وتُمد الغُلاة الأكثر تطرفا ليس فقط بالمبررات (من خلال ممارسات الظلم والحيف في السياسات العالمية) وإنما أحيانا بالمدد والوسائل في أخفى وأخبث أشكال الوقاحة. ولعل من تجليات ذلك ظاهرة غريبة من التداخل والتعاون والتمازج بين شرذمة الغلاة وعصابات الإجرام المسلح من الشرق والغرب، التي وجدت في المنطقة مسرحا مستباحا لتتلاقى فيه، وتدمج أنشطتها الجهنمية.

وإن تعبير "ثالوث البُغاة والغلاة والغزاة" يمكن استعارته هنا، في أوجز تلخيص لهذا الواقع المأساوي؛ ففي الطرف الأعلى من المثلث المذكور، نجد أنظمة الاستبداد والفساد في بحثها عن شماعة كي تستمر في قهر الشعوب ونهب خيراتها.

ومهما جادل المجادلون، فإن الاستبداد -وليس الدين- هو السبب الأول للتطرف العنيف بشهادة الباحثين. وعلى سبيل المثال، نجد الباحثة في الأديان المقارنة كارين أرمسترونغ في كتابها "حقول الدم – الدين وتاريخ العنف" (الشبكة العربية للأبحاث، ط1، 2016، مترجم) تستعرض تاريخيا وعلى مدى آلاف السنين، من عهد السومريين إلى عصرنا، كبرى أحداث العنف التي وُسمت بطابع ديني، وتقارن-عبر التاريخ- النزعة تجاه العنف، لتتوصل لنتيجة مفادها أن فكرة "العنف الديني" هي في الأساس أكذوبة أو خدعة تُنتجها الأنظمة الحاكمة عبر التاريخ لتبرير ممارسات القمع و الاستبداد. وتستنتج، بمتابعة التاريخ البشري، أن التطرف العنيف دائما ما يتبع الاستبداد كالظل.. فالقمع والاستبداد هما المولدان الرئيسيان للتطرف العنيف وليس الدين.

ولعل ما يفاقم الظاهرة في عصرنا هو عنصر التخابر، إذ ينخرط "البُغاة" في منطق تحالف خبيث مع المتآمرين من الخارج، ويتمالؤون ضمنا لتهيئة الظروف للكوكتيل المتفجر، حيث تُفتح القنوات -استخباراتيا- لشرذمة من متطرفة الغلاة لتلتقي مع عصابات الإجرام القادمة من كل حدب وصوب، ويُستخدم الدين كواجهة وعنوان، على أن يلعب متسللو الغزاة ومخابراتُهم دور الوسيط بين الاثنين والسعي من بُعد وعن كثب لتنمية الظاهرة ورعايتها وتضخمها.

غير أن ما يعنينا ويقع على عواتقنا العمل على علاجه هو، قبل كل شيء، العوامل الداخلية للمجتمع، إذا تركنا ظاهرة الثالوث الخبيث جانبا. أي هل ثمت مشترك في المجتمعات المسلمة أوفي ثقافتها يشكل استثناء أو خصوصية عن بقية الأمم، ويقدم قدرا من التفسير لهذه السلسلة من المآسي التي لا تكاد تتوقف، ولا يُنتظر أن تقف عند حد ما لم نشخص المشكلة بصدق ونتجه الوجهة السليمة نحو علاج ناجع للداء الحقيقي الذى تعانيه هذه المجتمعات.

وأول ما يتراءى للمتأمل هو الأرضية المأزومة، التي تشكلها عقلية ساذجة تطبعها "قابليات" ثلاث: قابلية للاختراق وقابلية للاستبداد، وقابلية للغلو والشطط في التدين. وتتفاعل القابلية الأخيرة مع الأُوليين ليتصاعد الشطط إلى حد التطرف العنيف الذي يأتي غالبا كردة فعل على الاختراق والاستبداد (وعلى الفشل في الرد الرشيد عليهما).

إن "تجديد الخطاب الديني" -مفهوما وشعارا- تحول إلى إملاء خارجي يحل محل التجديد والإصلاح المطلوب داخليا، وذلك ما قد يفسر اتخاذه عنوانا للعديد من الفعاليات الرسمية. ويخشى البعض أن المقولة باتت تنتمي إلى قاموس الهيمنة والإكراهات الجيوسياسية، إلى جانب أخوات لها مثل "تغيير المناهج"

وإن تقاليد المجتمع القائم على منطق القبلية و"الأبوية" تشكل حاضنة ثقافية تكرس عقلية الخضوع والقابلية للاستبداد والتجاوب معه، ومن أبرز تجليات ذلك تغاضى أو تسامح العامة وتغطية النخبة على فشل السلطات في معالجة مشاكل الناس وعلى عجزها عن تلبية حاجاتهم الأساسية، بل أحيانا تقاعسها المتعمد عن ذلك، مع تفشى الفساد، وغياب المحاسبة.

وقد أشرنا إلى جو الاستبداد السياسي، بوصفه -علميا- رأس العوامل المشجعة على نشأة وانتشار التطرف العنيف، نظرا لما يمارسه من إقصاء وحرصه على الحد من مشاركة الناس إلى حد الانسداد، خاصة إذا اجتمع الفقر مع الغبن الفاحش والغياب الصارخ للعدالة الاجتماعية، ويتفاقم ذلك إذا انضمت إليه ممارسات ممنهجة للقمع السلطوي بما يبث الخوف ويسبب مشاعر الغضب والضغينة، وإن ظلت مكبوتة إلى حين.

وبشكل أخص، فإن إهمال احتياجات الشباب وتطلعاتهم وهضم حقوقهم الأساسية وهدر مكامن قوتهم وتعطيل قدراتهم على الانتاج والإبداع، كل ذلك يزرع اليأس ويكبت طاقاتهم الهائلة ما يدفع الكثير من الشبان للإحباط، فلا غرو أن يسقط بعضهم فريسة الفخ التكفيري.

وقد لا تتوقف الأمور عند غياب العدالة الاجتماعية فحسب وإنما الإمعان في دوس الكرامة وإذلال الناس فرادى وجماعات، مما يعمم ظاهرة الإحباط الجماعي للناس بمختلف فئاتهم وطبقاتهم.

ويتضح مما سبق أن عمق الأزمة والظواهر المعقدة التي تتجلى فيها، يتطلب علاجا أعمق من مجرد "تجديد الخطاب الديني"، خاصة وقد أضحت هذه المقولة شبه مفرغة من محتواها، ولم تزل تتكرر في الفترة الأخيرة على لسان بعض من ليسوا مؤهلين ولا مؤتمنين على مهمة التجديد المطلوب، هذا إن لم يكونوا أصلا من مناهضي الخطاب الإسلامي.

بل إن "تجديد الخطاب الديني" -مفهوما وشعارا- تحول إلى إملاء خارجي يحل محل التجديد والإصلاح المطلوب داخليا، وذلك ما قد يفسر اتخاذه عنوانا للعديد من الفعاليات الرسمية. ويخشى البعض أن المقولة باتت تنتمي إلى قاموس الهيمنة والإكراهات الجيوسياسية، إلى جانب أخواتها من المفردات، مثل "تغيير المناهج".

غير أن لسان الحال اليوم يُملى أكثر من أي وقت مضى، ضرورة إنهاء حالة التباطؤ والتأخير في إطلاق مسيرة الإصلاح والتجديد الأصيل. فالحاجة ملحة إلى تجديد في الفكر والوعي الديني والاجتماعي والسياسي، ينطلق من الداخل وليس من إملاءات الخارج، ويتسم بما يكفي من العمق والانتشار الأفقي كي يُفضى إلى علاج الأرضية المأزومة التي تشكلها "القابليات الثلاث" المذكورة أعلاه.. وتلك مسؤولية النخب من مثقفين وخبراء وعلماء وفقهاء ودورهم، إلا يفعلوه فستظل الأرضية مهيأة لتكرار "الفتنة في الأرض" ونشر الدمار الكبير في مناطق جديدة من العالم العربي والإسلامي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.