إنجاز كوفي أنان

epa03421065 Former UN Secretary General Kofi Annan speaks to students about his memoirs, 'Interventions: A Life in War and Peace', at the London School of Economics in London, Britain, 04 October 2012. Kofi Annan was the seventh Secretary-General of the United Nations, serving two terms between 1997-2006. In 2001, Annan and the United Nations were jointly awarded the Nobel Prize for Peace. EPA/FACUNDO ARRIZABALAGA

يستحق كوفي أنان أن يذكره التاريخ بوصفه الأمين العام شبه المثالي للأمم المتحدة. الواقع أن المسؤولين التنفيذيين العظماء يحتاجون إلى رؤية هادية لممارسة السلطة، وخاصة عندما تكون سلطة مدنية دولية. استند نجاح أنان إلى قدرته على الجمع بين البرغماتية والتواضع وبين رؤية دائمة للتقدم البشري والتضامن.

ولعل هذا الاندماج بين الرؤية والشخصية يتجلى في أوضح صوره في الأهداف الإنمائية للألفية (2000-2015)، التي رسمت مجموعة طموحة من الأولويات للأمم المتحدة. وبدافع من إنسانية ملتزمة وإخلاص لروح ونص ميثاق الأمم المتحدة، عمل أنان على توسيع السلطة التنفيذية للمنظمة من خلال تفسيرات خلّاقة للميثاق فضلا عن الشخصية الكاريزمية لتأمين تبني المبدأ المثير المحفز المتمثل في "المسؤولية عن الحماية".

لقد نجح أنان، حفيد زعماء القبائل وابن حاكم أحد الأقاليم في مستعمرة جولد كوست البريطانية (غانا الآن)، في المزج بين أسلوب أرستقراطي في القيادة وسحر شخصي عذب اللسان، فضلا عن التعاطف، والوقار الفكري، وأناقة الملبس، وكانت سنوات ولايته أمينا عاما للأمم المتحدة (1997-2006) تتسم بالحكمة السياسية، واللباقة، والنزاهة.

وتتلخص الشهادة البليغة على خصوصية ولايته التي دامت عشر سنوات في الولاء الدائم الذي يقترب من التفاني التام الذي كان مصدر إلهام لمجموعة موهوبة للغاية من كبار المستشارين الذين قام باختيارهم بنفسه.

نجح أنان، حفيد زعماء القبائل وابن حاكم أحد الأقاليم البريطانية المستعمرة (غانا الآن) في المزج بين أسلوب أرستقراطي في القيادة وسحر شخصي عذب اللسان، فضلا عن التعاطف، والوقار الفكري، وأناقة الملبس، واتسمت تجربته الأممية بالحكمة السياسية واللباقة والنزاهة

وقد شهد العالَم العديد من التغيرات العميقة خلال تلك السنوات المضطربة. فأشرف أنان على توسع هائل لعمليات السلام التابعة للأمم المتحدة في استجابة للمطالب والتوقعات المتزايدة، لكن العديد منها رميت باتهامات من قبيل عدم الفعالية، والفساد المالي، والاستغلال الجنسي.

كان التحدي الرئيسي الذي اضطر أنان إلى التصدي له، بمستويات مختلفة من النجاح، هو كيفية الجمع بين الشرعية الفريدة التي تتمتع بها الأمم المتحدة ومجلس الأمن بوصفه قمرة القيادة الجيوسياسية للعالَم. فعندما كانت القوى الكبرى موحدة، كان يمتثل لإرادتها. وعندما كانت هذه القوى تمسك بخناق بعضها بعضا بسبب مصالح حيوية متضاربة، لم يكن بوسعه أن يفعل الكثير. ولكن عندما انقسم المجتمع الدولي بمرارة، حاول أنان التوصل إلى التوافق من خلال تحديد المصالح المشتركة ودفع الدول الأعضاء نحو حلول وسط تنقذ ماء الوجه.

كان النهج الذي سلكه أنان في إصلاح الأمم المتحدة تثقيفيا. قال لي أنان، علينا أن نحدد القضايا العالمية الكبرى التي تتطلب مشاركة الأمم المتحدة، ثم ينبغي لنا أن نتجاهل القضايا التي لن تتفق الدول على عمل مشترك في التعامل معها، فضلا عن القضايا التي يمكن أن تتفق عليها بشكل تلقائي بسبب أولويات مشتركة. ولم ير أنان أي جدوى من إنفاق رأس المال السياسي الشحيح في أي من الحالتين.

وبدلا من ذلك، ركز أنان على القضايا الكبرى حيث يمكن دفع تحركات الدول الأعضاء إلى ما هو أبعد من نقطة التحول من خلال الاستثمار في هيبة وسلطة الأمين العام في حل القضايا. وقد نجح أنان بصفته أمينا عاما للأمم المتحدة من خلال مهارات القيادة الناعمة: القدرة على حمل الآخرين على التواصل عاطفيا وفكريا في إطار قضية أكبر تتجاوز مصالحهم الذاتية المباشرة.

كان أنان، الذي حظي بمعاملة "نجوم موسيقى الروك" في ولايته الأولى، على اتصال منتظم بقادة الحكومات، والمنظمات الدولية، والشركات المتعددة الجنسيات، ومنظمات المجتمع المدني. ونادرا ما كانت دبلوماسيته الهادئة ضمن حدود خصوصية مكتبه تحتاج إلى أي عملية مكملة من خلال الدبلوماسية العامة والمكانة العالية التي تتمتع بها الأمم المتحدة.

فمن ناحية، حاول أنان توسيع وظيفة "الترخيص" للقانون الدولي لتمكين الأمم المتحدة من اتخاذ التدابير اللازمة ضد الدول المتمردة التي تستغل مبدأ السيادة لحماية تصرفاتها. ومن ناحية أخرى، ساعد أنان في ترسيخ وظيفة "المقود" المتمثلة في تقييد العدوان من قِبل القوى العظمى.

في عام 2004، أشار أنان بوضوح إلى أن غزو العراق كان خرقا لقانون ميثاق الأمم المتحدة فيما يتصل باستخدام القوة. وقد أكسبه هذا الموقف عداء المحافظين الجدد في إدارة الرئيس جورج دبليو بوش في الولايات المتحدة، والتي هددت بجعل الأمم المتحدة غير ذات أهمية؛ ومع ذلك، لو كان مجلس الأمن استسلم للضغوط الإنجلو أميركية لتأييد الحرب، استنادا إلى اتهامات مختلقة بشن هجمات إرهابية وأدلة ملفقة حول امتلاك أسلحة الدمار الشامل، فإن الأمم المتحدة كانت ستعاني من ضرر أكبر وأكثر ديمومة.

تورط أنان في فضيحة النفط مقابل الغذاء، التي استغلها أعداؤه من المحافظين الجدد إلى أقصى درجة، ولكن حتى في هذا السياق، كانت الهفوات الأخلاقية التي ارتكبتها الدول الأعضاء -بما في ذلك أميركا وأستراليا– أشد خطورة. وكان تورط نجله في تعاملات مشبوهة مؤلما بشكل شخصي لأنان

ثم تورط أنان في فضيحة النفط في مقابل الغذاء، التي استغلها أعداؤه من المحافظين الجدد إلى أقصى درجة ممكنة. ولكن حتى في هذا السياق، كانت الهفوات الأخلاقية التي ارتكبتها الدول الأعضاء -بما في ذلك الولايات المتحدة وأستراليا، التي رفضت اتخاذ أي إجراء عندما رفع مسؤولو الأمم المتحدة الرايات الحمراء- أشد خطورة. وكان تورط نجله في تعاملات مشبوهة مؤلما بشكل شخصي لأنان.

كانت الوصمة التي يتعذر محوها التي لطخت سمعة أنان هي مسؤوليته عن التفسيرات المقيدة لتفويض الأمم المتحدة فيما يتصل بعمليات حفظ السلام في رواندا، وسربرنيتسا في البوسنة في الفترة 1994-1995. والواقع أن بعض الناس يزعمون أن أنان لم يدفع قَط الثمن السياسي في مقابل التقصير في أداء الواجب في هاتين المناسبتين.

لكن أنان قام بالتكليف بمراجعات داخلية لمثل هذه الإخفاقات المزعزعة للضمير، وشجع المحققين على الذهاب إلى أي مكان يقودهم إليه بحثهم عن الحقيقة. وعندما انتهى المحققون، صرح أنان بنشر التقارير، بما في ذلك النتائج المعاكسة فيما يتصل بأوجه القصور الجهازية التي تعيب الأمم المتحدة وفشل القيادة من جانبه بوصفه المسؤول الأكبر عن حفظ السلام في ذلك الوقت.

ورغم جرحه العميق نتيجة لهذه التجارب العصيبة، نجح أنان في تحويل ضمير مضطرب إلى إرث باق من ثلاثة مبادئ إلى جانب التقدم المؤسسي. فقد أصبحت حماية المدنيين أولوية قصوى في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. كما دافع أنان عن مبدأ المسؤولية عن الحماية للتحايل على إساءة استخدام مبدأ سيادة الدولة من قِبل حكام متوحشين يرتكبون الفظائع ضد شعوبهم. ورحب بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها الأداة القانونية لإنهاء الإفلات من العقاب ومحاكمة ومعاقبة القادة العسكريين والسياسيين عن أفظع الجرائم.

لم ينته تفاني عنان في خدمة الإنسانية بمغادرته الأمم المتحدة. فقد ظل منخرطا في جهود الحد من الفقر، وحل النزاعات، وجهود الإغاثة الإنسانية من خلال طلبات الأمم المتحدة، ومؤسسة كوفي أنان، ومجموعة الحكماء، كراع للضمير العالمي.

كان أنان يحترم مشاعر الآخرين، وكان مهموما برفاهة موظفيه إلى حد استثنائي، وكانت روحه مرحة رقيقة غالبا. في إحدى المناسبات، حوصر بعض موظفي الأمم المتحدة في منطقة نزاع سريع التصاعد. وكان اثنان من كبار المساعدين يحاولان شرح المخاطر لأنان عندما توقف أحدهم وتساءل: "لماذا لا أرى عليك علامات الذعر أيها الأمين العام؟"، فأجابه قائلا: "لماذا يجب أن أشعر بالفزع ما دمت أنت تشعر بالفزع نيابة عني؟".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.