شعار "أميركا أولا".. لماذا يعني "أوروبا متحدة"؟

U.S. President Donald Trump (C) walks past French President Emmanuel Macron (L) and German Chancellor Angela Merkel on his way to his spot for a family photo during the NATO summit at their new headquarters in Brussels, Belgium May 25, 2017. REUTERS/Jonathan Ernst

كان من الحجج الرئيسية التي سيقت في معرض تأييد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ القول بأن بريطانيا ستصبح قادرة على التفاوض على اتفاقيات تجارية أفضل مع الدول الأخرى -وحتى مع أوروبا- إن تفاوضت هي بنفسها.

ووفقا لما ذكره مؤيدو الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، ومنهم وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون؛ فإنه نظرا للانقسام الشديد بين الدول الأعضاء في الاتحاد بسبب أزماتها الخاصة التي استنزفتها فجعلتها عاجزة عن صيانة تكامل المشروع الأوروبي؛ "فليس هناك إلا سبيل واحد لتحقيق التغيير الذي نبتغيه، وهو التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي".

لكن مع تبقي أقل من عام على "يوم الخروج" (أي انتهاء عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي رسميا)؛ أصبح واضحا أن آمال الحكومة البريطانية في إحداث انقسام في الاقتصاد الأوروبي وغزوه قد تحطمت.

حقيقة يبدو الاتحاد الأوروبي لكثير من الأوروبيين وكأنه عاد من الموت؛ فعبر خطوات متأنية لكنها واثقة، أظهر كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل -وهما أقوى زعيمين في الكتلة- علامات للتعاون، بهدف مواصلة إصلاحات تأخرت طويلا على مستوى الاتحاد الأوروبي

فقد حافظت دول الاتحاد الأوروبي على وحدتها خلال مراحل مفاوضات الخروج البريطاني بصورة باهرة. ورغم أن الخروج البريطاني في حد ذاته ليس مدعاة للفرح والاحتفال؛ فقد أظهرت عملية التفاوض بهذا الشأن أن أوروبا تكون أقوى في وقت التحديات.

حقيقة يبدو الاتحاد الأوروبي لكثير من الأوروبيين وكأنه عاد من الموت؛ فعبر خطوات متأنية لكنها واثقة، أظهر كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل -وهما أقوى زعيمين في الكتلة- علامات للتعاون، بهدف مواصلة إصلاحات تأخرت طويلا على مستوى الاتحاد الأوروبي.

فضلا عن ذلك؛ تشير استطلاعات الرأي إلى ارتفاع التأييد للاتحاد الأوروبي الآن إلى أعلى مستوى خلال عقود، رغم تكوين ائتلاف حكومي في إيطاليا مناهض للمؤسسة، وصعود الأحزاب الشعبوية في مختلف أنحاء أوروبا.

ووفقا لدراسة استقصائية حديثة أجراها برنامج يوروباروميتر؛ فإن 83% من الأوروبيين سيصوتون لصالح البقاء في الكتلة إذا عُقد استفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي اليوم، كما ينظر 60% من الأوروبيين -وهو رقم قياسي- إلى عضوية الاتحاد الأوروبي بوصفها "شيئا جيدا" لبلادهم.

بمعنى آخر؛ إذا كانت الشعبوية قادرة بالتأكيد على وضع بذور الانقسامات السياسية داخل الاتحاد الأوروبي، فلا يوجد دليل على أن البريكست في حد ذاته قد سبب تأثيرا تعاقبيا جماعيا بين الدول الأخرى إلا قليلا.

فقد يروق لمتزعّم فكرة البريكست (نايجل فاراج) الاعتقاد بأن حكومة إيطاليا الشعبوية الجديدة تمثل نجاحا للنوع الذي يفضله من القومية التي تعمل بمفردها دون تدخل، لكن يتبين لنا أن الشعبويين في أوروبا ينتمون إلى سلالة مختلفة عن تلك التي ينحدر منها الشعبويون في بريطانيا.

فرغم زيادة تقلب الأسواق المالية في ظل احتمالية أن يقود زعماء إيطاليا الجدد بلادهم خارج منطقة اليورو؛ أظهرت الاستطلاعات -التي أجريت بعد الانتخابات في مارس/أذار- أن نسبة من 60% إلى 72% من الإيطاليين لن يساندوا خطوة كهذه.

إلا أن الاستطلاعات الأخيرة تكشف أيضا تناقضا أكبر بشأن المسار الحالي للاتحاد الأوروبي، حيث يعتقد 32% فقط من المواطنين أن "الأشياء تسير في الاتجاه الصحيح" بالنسبة للاتحاد الأوروبي، بينما يرى 42% أن الكتلة تسير في الطريق الخطأ. فالمسألة إذن لغالبية الأوروبيين لا تتعلق باحتمالية تدمير الاتحاد -فهذا غير وارد- وإنما كيفية تحسينه.

وقد أخفق الاتحاد الأوروبي في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة بسبب التأثيرات المتمادية للأزمة المالية عام 2008، وما تلاها من أزمة بمنطقة اليورو. لكن الاتحاد أضحت لديه الآن نافذة لفرصة التحرك، لأن كثيرين في الاتحاد الأوروبي بدؤوا يدركون أخيرا حقيقة خطورة الواقع الجيوسياسي الجديد لأوروبا.

على أية حال؛ يتضاءل تحدي الوحدة الذي أوجده البريكست أمام الكتلة الأوروبية مقارنة بالتحدي الذي خلقه دونالد ترامب. فاستخفاف الرئيس الأميركي بحلف الناتو، والكشف أكثر من مرة عن اتصالات حملته بشخصيات روسية على صلة بالكرملين قبل انتخابات 2016، أوضحت تماما أن الأوروبيين لا يمكنهم -فيما بعدُ- الاعتماد على أميركا وحدها فيما يتعلق بأمنهم.

علاوة على ذلك؛ ساهم قرار ترامب الخاص بإخضاع الاتحاد الأوروبي (وغيره من الحلفاء الآخرين لأميركا مثل كندا والمكسيك) لرسوم استيراد على الصلب والألومنيوم؛ في توحيد زعماء أوروبا في الشعور بالغضب والاشمئزاز.

يتضاءل تحدي الوحدة الذي أوجده البريكست أمام الكتلة الأوروبية مقارنة بالتحدي الذي خلقه دونالد ترامب. فاستخفاف الرئيس الأميركي بحلف الناتو، والكشف أكثر من مرة عن اتصالات حملته بشخصيات روسية على صلة بالكرملين قبل انتخابات 2016، أوضحت تماما أن الأوروبيين لا يمكنهم -فيما بعدُ- الاعتماد على أميركا وحدها فيما يتعلق بأمنهم

كما أن اقتراحه بضرورة تطهير شوارع أميركا من السيارات الألمانية -رغم حقيقة أن كثيرا من السيارات "الألمانية" تُبنى بالفعل في نفس الولايات الأميركية التي يستمد منها الدعم والتأييد- قد يساعد الألمان في إدراك حاجتهم إلى مساعدة الأوروبيين لحماية صناعة السيارات لديهم.

وبالتالي فقد أتاحت رسوم ترامب فرصة مثالية لحكومة الائتلاف الكبير في ألمانيا، كي تتقارب وتلتقي مع ماكرون في منتصف الطريق بشأن مقترحاته الطموحة لإصلاح الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو. لقد حان الوقت لأن تكون ألمانيا أكثر تفتحا وتفهما لاحتياجات دول جنوب أوروبا.

وتمثل سياسات ترامب القائمة على شعاره "أميركا أولا" عودة مضلَّلة إلى القومية وسياسات الحماية السافرة التي تنتمي إلى عصر ولّى، حيث تخلق تهديدا مباشرا للنظام العالمي في فترة ما بعد الحرب الذي رسخ مبادئ الرخاء والاستقرار طيلة 73 عاما. بل إن هذه المبادئ قد تكون -في حد ذاتها- أيضا هي ما تحتاجه عملية التكامل الأوروبي الراكدة منذ زمن طويل.

يجد ترامب متعة وابتهاجا في الفوضى التي ينثر بذورها، إذ يعتبر العلاقات الدولية لعبة محصلتها صفر للفائزين والخاسرين، وحينما تصل سياساته الخارجية والتجارية إلى حد الوضوح -من أي جانب- فإنها تأخذ شكل المعاملات التجارية.

وعلى النقيض؛ نجد أن نهج التعامل الذي يتبعه الاتحاد الأوروبي يقوم على التعاون والتوافق. وبما أن هاتين الرؤيتين العالميتين متصادمتان؛ فمن المحتمل أن تكتسب كل منهما قوة وزخما.

بالإضافة إلى البريكست وترامب؛ هناك أيضا ظواهر أخرى تغير في النظام العالمي حاليا وتقلبه رأسا على عقب، مثل انتقامية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتأكيد المتنامي على الذات من جانب الصين.

لكن، وكما ندرك جيدا نحن معشر الأوروبيين؛ فإنه لا شيء يقدر على تحريك الأشياء مجددا مثل الأزمات. لقد تحاشينا القرارات الصعبة لعقود، والآن يجب أن نقرر ما نريد أن تكون عليه أوروبا في عام 2050 وما بعده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.