انسحاب ترامب من اتفاق إيران اختبار لأوروبا

German Chancellor Angela Merkel welcomes U.S. President Donald Trump at the G20 leaders summit in Hamburg, Germany July 7, 2017. REUTERS/Axel Schmidt

لحظة تقدير الخسائر
اختبار التصرف الأوروبي 

انقشعت الابتسامات العريضة والمصافحات الدافئة التي افترشت صحف العالم بعد سنوات مضنية من المفاوضات الشاقة؛ فقد قرّر دونالد ترامب طيّ الصفحة والتنصّل من اتفاق "خمسة زائد واحد" بشأن الملف النووي الإيراني، وأهال التراب على الحدث الدبلوماسي الأبرز في عهد سلفه باراك أوباما.

كانت أوروبا الموحدة قد رأت في إبرام الاتفاق الدولي مع إيران عام 2015 إنجازا لها بعد قرابة سنتين من المفاوضات المكثفة، وهو ما رسم ملامح نهاية سعيدة على وجه ممثلة السياسة الخارجية الأوروبية فيديريكا موغيرينيتحديدا، لكنّ الموسم الراهن لم يَعُد ملائما للابتسامات في أوروبا؛ فدوائر السياسة والاقتصاد بعواصمها منهمكة في تقدير الأضرار المترتبة على انقشاع الاتفاق مع تكثيف الجهد لمنع انهياره.

بات على الأوروبيين إعادة ضبط التوقيت سنوات عشرا إلى الوراء من عمر الدبلوماسية الدولية، وربما اجترار خبراتهم التاريخية القاسية مع عواقب نقض الاتفاقات التي تبدو ماثلة في ذكريات حروبهم الطاحنة، وما خلّفته من أطلال وندوب لا تنمحي

كان مساء الثلاثاء (8 مايو/أيار الجاري) عصيبا في عواصم القرار الأوروبي التي استقبلت خطوة ترامب، بما مثّلته من ضربة مسدَّدة لجهود أوروبا الدبلوماسية وتجاهل صارخ لمصالحها الاقتصادية، علاوة على ما تراه فيها من مغامرة غير محسوبة العواقب في خريطة الصراعات الدولية.

بات على الأوروبيين إعادة ضبط التوقيت سنوات عشرا إلى الوراء من عمر الدبلوماسية الدولية، وربما اجترار خبراتهم التاريخية القاسية مع عواقب نقض الاتفاقات التي تبدو ماثلة في ذكريات حروبهم الطاحنة، وما خلّفته من أطلال وندوب لا تنمحي.

ومما يُفاقم وطأة الحدث أنّ العواصم الأوروبية تستشعر تقليديا وقوفها على تخوم بؤر النار التي تتوسط العالم، بما يجعلها ليست بمنأى عن دخان الحرائق الكبرى؛ بينما تتفتح الورود في حديقة البيت الأبيض البعيد، كما في كل موسم.

وإذ يواصل الرئيس الأميركي نهج الرعونة في إدارة العلاقات الدولية والخروج بمفاجآت، تتلاحق مع تغريداته التي تتحكم في منسوب الأدرينالين في الأروقة الإستراتيجية الأوروبية كل مساء؛ فإنّ ما يخشاه بعضهم هو أن تدقّ خطوة واشنطن الجديدة نحو طهران طبول حرب غبر محسوبة أو تُشعِل فتائل تفجير كامنة بين حقول النفط.

ولهذا تأتي الرسالة الأوروبية -في هذه اللحظة- بأنّ الاتفاق "لم يمُت"، حسب تعبير وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان.

لحظة تقدير الخسائر
إن كان اتفاق الأطراف الدولية مع إيران قد صبّ في حينه ضمن رصيد الإنجازات الدبلوماسية الأوروبية؛ فإنّ ما أقدمت عليه إدارة ترامب -بعد سنوات ثلاث من الاتفاق- يحرر شهادة إخفاق للدبلوماسية ذاتها، التي تبدو اليوم عاجزة عن التأثير في اندفاعات حليفها الأميركي.

فمنذ بداية عهدها؛ أظهرت إدارة ترامب تراجعا نسبيا عن الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع طهران تحت مظلة دولية تضمّ أوروبا أيضا. وجاء التراجع عبر سلسلة من التصريحات والمواقف الصادرة عن واشنطن، والتي انطوى بعضها على إجراءات ذات طابع عقابي، وصولا إلى قرار الانسحاب منه.

أدرك الجانب الأوروبي مبكرا أهمية إنقاذ الاتفاق النووي بعد أن لاح إصرار إدارة ترامب على تقويضه، وكان ذلك موضوعا لمشاورات المسؤولين الأوروبيين مع وزير الخارجية الأميركي الأسبق ريكس تيلرسونالذي أقاله ترامب في نهاية مارس/آذار 2018؛ في خطوة أنذرت بلجوء البيت الأبيض إلى خيار رفع العصا الغليظة على المسرح الدولي.

لم تجد أوروبا أي مصلحة لها في نقض الاتفاق النووي أو فرض عقوبات على طهران، فالاتفاق تم بالشراكة معها أساسا، وهي معنية بخفض التوتر وكبح جموح إدارة ترامب في بعض الملفات الدولية، ومنها احتمالات التصعيد بين إيران والغرب، أو تأزيم التوترات الكامنة في الخليج مثلا

لم تجد أوروبا أي مصلحة لها في نقض الاتفاق النووي أو فرض عقوبات على طهران، فالاتفاق تم بالشراكة معها أساسا، وهي معنية بخفض التوتر وكبح جموح إدارة ترامب في بعض الملفات الدولية، ومنها احتمالات التصعيد بين إيران والغرب، أو تأزيم التوترات الكامنة في الخليج مثلا.

وتبرز ضمن خلفيات التمسّك الأوروبي بالاتفاق مع طهران دوافع اقتصادية واضحة، تتمثل في التعاقدات القائمة والمحتملة مع بلد كبير مثل إيران، يُفترَض أن يشهد تطويرا شاملا في البنى التحتية والمشروعات الكبرى، وانفتاحا متأخرا على الاستثمارات الأجنبية.

كان هذا الاتفاق قد أغدق وعودا اقتصادية سخية على بلدان وشركات عبر أوروبا، تسابقت إلى الحظوة بمكاسب رفع العقوبات عن طهران، علاوة على تأثير الاتفاق على أسواق الطاقة العالمية بإنعاش تدفقات النفط.

لكنّ دخول ترامب البيت الأبيض أسدل الستار على موسم التفاؤل الإيراني والأوروبي القصير، بينما نثرت عقوبات واشنطن المتلاحقة على طهران وبعض الكيانات المتعاملة معها شكوكا محقّة بشأن الفرص الواقعية لصمود الاتفاق النووي، أو تحقيق وعود الانفتاح الاقتصادي بين إيران والغرب.

تأتي العقوبات الأميركية المتزايدة على إيران بمثابة عقوبات على شركاء إيران الماليين والتجاريين أيضا، بما سيجرّه ذلك من مضاعفات على مصالح اقتصادية أوروبية.

وقد انشغل الأوروبيون صباح الأربعاء (9 مايو/أيار) بتقدير خسائرهم المباشرة واللاحقة، والتحسّب من الانعكاسات الناجمة عن القرار الأميركي بنقض الاتفاق مع إيران، بينما خرجت وسائل الإعلام بعناوين وتعليقات متشائمة من عواقب الخطوة.

وإن جاء الانسحاب الأميركي من الاتفاق تحضيرا لضربة عسكرية لا يمكن استبعادها، خاصة مع تسخين الضربات الإسرائيلية الموقفَ على الجبهة السورية؛ فإنّ التداعيات قد تخرج عن نطاق التوقعات.

اختبار التصرف الأوروبي
تفرض خطوة ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي اختبارا هو الأشقّ من نوعه حتى الآن بالنسبة لأوروبا في عهد سيد البيت الأبيض المتهوِّر. ويضع هذا التحدي عواصم القرار الأوروبي على المحكّ رغم اختبارات سابقة واجهتها في عهد ترامب.

ومن ذلك انقلابه على اتفاقية باريس للمناخ، وإجراءاته الحمائية في المجال التجاري، وإعلانه القدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي مع تنصّله الضمني من مشروع "الدولتين"، لصالح ما قد تكون "صفقة قرن" يتوجّه إلى فرضها قسرا بما يلائم قيادة رفيقه بنيامين نتنياهو.

يدرك الأوروبيون ما يعنيه نقض واشنطن الاتفاق الذي صاغته مع حلفائها في القارة وغيرهم تحت رعاية دولية؛ فالخطوة سابقة جسيمة في الدبلوماسية الدولية، وتثير الشكوك أيضا بشأن نمط القيادة الأميركي في العالم ومستقبل ملفات التسوية الأخرى المرتقبة (مع كوريا الشماليةمثلا)، إن استمرّ التقلّب الجامح في بؤرة صناعة القرار الأبرز عالميا.

يدخل امتحان التصرّف الأوروبي في زمن ترامب جولته الساخنة، ومن الواضح أنّ الأسلوب الذي لجأ إليه الأوروبيون -حتى الآن- في احتواء تداعيات بعض قراراته المتعنتة، وسعيهم لتقليص أضرارها، وامتناعهم الناعم عن التجاوب مع خياراته القسرية؛ لن يدفع عنهم عواقب الخطوة المتعلقة بالاتفاق مع إيران بما تمثله من تحوّل جسيم

لكنّ ترامب يواصل نهجه الانفرادي غير عابئ بحلفائه الأوروبيين، الذين أعلنوا رفضهم نقض الاتفاق مع طهران، لكنهم يجدون أنفسهم في زاوية ضيقة لا تمنحهم هوامش واسعة للتصرّف.

تدرك أوروبا الآن أنها تخسر مكاسب الاتفاق مع إيران؛ فعلى مصالحها الاقتصادية والتجارية -التي انعقدت على ناصية هذا الاتفاق- أن تنكمش أو تتلاشى، خشية أن يمسّ كياناتها المتعاقدة طائف من عقوبات ترامب.

إنّ الاختبار الذي يفرضه ترامب على عواصم القرار الأوروبي هو أن تلحق به من موقع التابع لخياراته الانفرادية، أو أن تشقّ طريقها في السياسة الدولية بصفة مستقلة لا تحتمل أوروبا تبعاتها الإستراتيجية، خاصة في المجال الدفاعي الذي تعبِّر عنه الآصرة التحالفية الأطلسية.

وواقع الحال أنّ أوروبا لم تكن جاهزة من قبلُ لهذا التحدي؛ فكيف بوسعها أن تتأهّل لمواقف متماسكة بعد فكاك بريطانيا من أسرتها الموحدة وتفلّت بعض دول وسط أوروبا وشرقها نسبيا من التأثير المركزي الأوروبي؟

لكنّ مغامرات ترامب والأولويات الخاصة التي يفرضها على المسرح الدولي -بما يشمل العلاقات المتشابكة مع العملاق الاقتصادي الصيني أيضا- لا تمنح أوروبا فرصة للتريّث، بل تفرض تصرّفها بمنطق جديد على أمل عزل الانعكاسات السلبية للجموح الأميركي، وإبرام ترتيبات في عالم متعدد الأقطاب.

يدخل امتحان التصرّف الأوروبي في زمن ترامب جولته الساخنة، ومن الواضح أنّ الأسلوب الذي لجأ إليه الأوروبيون -حتى الآن- في احتواء تداعيات بعض قراراته المتعنتة، وسعيهم لتقليص أضرارها، وامتناعهم الناعم عن التجاوب مع خياراته القسرية؛ لن يدفع عنهم عواقب الخطوة المتعلقة بالاتفاق مع إيران بما تمثله من تحوّل جسيم.

تدرك أوروبا أنّ عليها التصرّف الآن، ولا مفاجأة بالتالي في موقفها الصارم الذي أبدته عواصمها بعد قرار ترامب؛ فالرفض الذي أعلنته لندن وباريس وبرلين لتقويض الاتفاق مع إيران هو الخطوة الأولى لاحتواء المخاطر بدل سماحها بانهيار الاتفاق وانفلات الموقف، لكنّ مهمة الإنقاذ لا تبدو يسيرة، وسيكون عليها أيضا احتواء تداعيات الموقف الإيراني بعد قرار واشنطن.

المؤكد أنّ مآل التطورات المتسارعة سيترك أثره على حضور الأوروبيين على المسرح الدولي، فقد ينجحون في التصرّف الفاعل بصفة أكثر استقلالية عن شريكهم التقليدي على ضفة الأطلسي الغربية، أو قد يرضخون لانفراد ترامب بقاطرة تمضي بهم صوب وجهة غير محسومة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.