التحديث العربي ووظيفته السياسية

General view of the 29th Arab Summit in Dhahran, Saudi Arabia April 15, 2018. Bandar Algaloud/Courtesy of Saudi Royal Court/Handout via REUTERS THIS IMAGE HAS BEEN SUPPLIED BY A THIRD PARTY.

تجارب عربية مبكرة
سُنة سياسية عربية 

ثمة فروق معروفة بين الحداثة (Modernism) والتحديث (Modernization)؛ فالأولى منظومة مفاهيم تمثل الرؤية الغربية الحديثة للكون والتاريخ، وتقوم على دعم حرية الإنسان الفرد واعتماده على جهده العقلي والبدني في تحقيق حياة له أكثر قوة وراحة، مع تنظيم القوانين والدولة وفقا لهذه الرؤية، والانفصال النسبي عن أي قيم مجاوزة للعالم المحسوس، والاكتفاء بوضع هذه القيم بعيدا عن طريق الفعل الحضاري الذي تسببت المسيحية الغربية في تعويقه ببلادها قرونا طويلة.

وأما التحديث؛ فهو عملية لإضفاء مظاهر الحياة الحديثة على الدولة والمجتمع، خاصة في جوانب الرفاهية والتكنولوجيا والمؤسسات. ولا يشترط التحديث الأخذ بالحداثة منظومة متكاملة، وإن كان لا بد من أن يجرّ معه طبعا بعض قيمها وممارساتها، كما نشاهد في السلوك الاقتصادي والسياسي لكثير من المجتمعات والدول في العالم، مهما بلغت درجة محافظتها وتقليديتها.

ويتمثل مركز الحداثة الغربية حقيقة -من وجهة نظره وفلسفته الخاصة- في حفز الجانب الإيجابي للإنسان وإزالة المعوقات من طريقه، بحيث يشارك بكل طاقته في التنافس على الفرص والإنجاز المادي والفكري والأدبي، ومن هنا كان لازما أن تكون الديمقراطية خيارا من خيارات هذه الحداثة؛ لما للسياسة من عموم في احتضان مناشط الحياة الأخرى.

وقد دخل العرب ميدان التحديث في وقت متأخر نسبيا وتحديدا قبل قرنين، لكن يلاحظ دائما أن هذا التحديث كان يصب في مصلحة الحاكم، بل يحاك في معامل السياسة على مقياس هذا الحاكم، وهو ما يشهد به التاريخ والواقع على السواء.

تجارب عربية مبكرة
للعرب منذ ولاية محمد علي باشا الكبير على مصر (1805 – 1848م) تجربة ممتدة مع التحديث، بدأت حينما انتبهوا -مع الحملات الأوروبية المتأخرة عليهم- إلى أن عجلة التقدم العالمي قد سبقتهم بأشواط بعيدة، وأنهم ترسبوا حضاريا في قعر العالم بصورة تشبه تيه بني إسرائيل في الزمن الأول؛ فاعترفوا ضمنيا بضرورة النزول إلى ميدان التحديث، مع تنوع بينهم في الموقف من القديم والجديد.

وعند قراءة تجاربنا التحديثية خلال القرنين الأخيرين نجد أنها جرت في نطاقين؛ الأول: نطاق التجديد الديني والفكري لرواد النهضة ومن تأثر بهم من مفكري وعلماء وأدباء الأجيال التالية لهم. والثاني: هو التحديث في النطاق السياسي، أعني المعتمِد على قرار أو مشروع سياسي يمس قطاعات الدولة والمجتمع.

عند قراءة تجاربنا التحديثية خلال القرنين الأخيرين نجد أنها جرت في نطاقين؛ الأول: نطاق التجديد الديني والفكري لرواد النهضة ومن تأثر بهم من مفكري وعلماء وأدباء الأجيال التالية لهم. والثاني: هو التحديث في النطاق السياسي، أعني المعتمِد على قرار أو مشروع سياسي يمس قطاعات الدولة والمجتمع

أما التجديد الفكري؛ فقد قام على طرح رؤى عصرية تعالج قضايا الذات والآخر، والأصالة والمعاصرة والدين والعلم من وجهات نظر متنوعة، إلا أنها تميل في الأغلب إلى المزاوجة أو الجمع -بدرجة أو أخرى- بين الثنائيات السابقة. وبدا تأثير هذا الجهد التحديثي في تطور الآراء والأفكار وصور الإبداع الأدبي من خلال الصحافة والكتاب والجامعة والمسرح.

وأما التحديث العربي سياسيا؛ فكان أوسع مدى وأعمق تأثيرا، وهو وإن تبادل الفوائد مع التحديث الفكري والتجديد الديني فإنه كان بائسا جدا، لأنه جاء على مقاس السياسيين وأحلامهم في السلطة.

فمحمد علي باشا -رائد تحديث الدولة في العالم العربي- أراد أن يبني دولة حديثة له ولنسله -لا للأمة ولا للملة- على أوسع رقعة ممكنة من العالم الإسلامي، مما أوصله إلى محاولة غزو الدولة العثمانية في مغامرة دفع هو ثمنها غاليا، كما دفعه العثمانيون لصالح قابض واحد هو القوى الاستعمارية الغربية.

ركز مشروع "الباشا الكبير" على ما يحقق له هذا الحلم الخاص، لا على ما ينهض بقوى المجتمع والدولة كلها لصالح الجميع، ويفتتح مرحلة حضارية جديدة تعوِّض القصور الفادح في المسار الإسلامي القائم حينئذ، ويوظف جهود المجتمع ضمن مشروع تعاقدي بين الوالي والرعية.

نهض الرجل بالتعليم والمدارس، وأسس جيشا مصريا من أبناء الشعب، وأدخل الطباعة، وتوسع في الزراعة، لكن على مقاس مشروعه لا أكثر، حتى نظف طريقه من كل ألوان المعارضة بقسوة بالغة، وصار الشباب المصري وقودا لحروب كثيرة خاضها في مختلف النواحي، وتحول كثير من المصريين إلى ما يشبه أقنان الأرض العاملين في حقول القطن والقمح التي يملكها الإقطاعيون وأشباههم.

لم ينجح مشروع محمد علي التحديثي إلا في المحافظة على السلطة لأعقابه في مصر والسودان، مع إضفاء شيء من التحديث على الدولة والمجتمع؛ لأن الباشا لم يقرأ المرحلة وما فيها من تربص ومطامع أوروبية قراءة جيدة، كما لم يحوِّل مشروعه إلى حلم للشعب نفسه كما كان حلما له.

ولذا فقد افتقد مشروعه عمقه الداخلي الذي كان يمكنه المحافظة عليه من التآكل وحياطته من الخصوم، كما افتقد حليفه الخارجي حين اختار المواجهة الحربية مع الدولة العثمانية، لا التعاون معها في وجه ذئاب الاستعمار المتنمّرة عليهما معاً.

وعلى كل حال؛ مات محمد علي والحسرة تملأ قلبه على الحلم الذي ضاع أمام عينيه، ولم تكن خسارته للشعب والأمة في هذا المشروع بأقل فداحة من مخالفته لسنن التدرج في تحقيق الانتقال التاريخي الراسخ من مرحلة إلى أخرى؛ لأن توظيف الشعوب لإنجاح المشروعات السياسية الكبيرة وإطالة أعمارها يكاد يكون سنة من سنن الله في خلقه.

سُنة سياسية عربية
حين انقضى العهد العثماني ومن بعده حكم أسرة محمد علي في مصر والعالم العربي؛ تولى الحكمَ في بلادنا أبناءُ العمال والفلاحين وأبناء القبائل العربية في صورة حكم عسكري أو وراثي، دون أن يختلف أحدهما عن الآخر في حقيقته، وكان التحديث كذلك من الأدوات التي استعانوا بها حتى كأنه صار سُنة بينهم، لكن الباشوات الجدد كرروا خطأ سلفهم محمد علي، بل زادوا عليه خطايا أخرى.

أغرب ما في التحديث العربي هو أنه عمل يتواصل طوال العقود والعهود الحاكمة، ولكن لا يحقق للشعوب شيئا يرقى بها حقيقة ويشركها في صناعة الحضارة؛ لأنه دائما يؤخذ منقوصا وشكليا، فالديمقراطية -التي تمثل مهادا لازما للتحديث الحقيقي- هي من المحرمات العربية؛ إذ لم تشهد بلادنا لها حالة واحدة، إلا كما تأتي الصورة الخاطفة التي يفيق الاستبداد عليها ويستأسد أكثر

بدا خلال عقود أن الحاكم العربي لا يريد التحديث إلا على مقاسه هو، وبما يحقق أحلامه في السلطة التي أسكرته عن كل حقيقة أخرى، بل قاوم أئمة اليمن في عهودهم الأخيرة حتى هذا التحديث المحدود خوفا على السلطة، وأما الغالبية فكانت تسمح به بما يزيد قبضتها على الدولة ويشغل الناس بغير أمر السلطة.

كانت أدوات القمع ووسائل الإلهاء هي أول ما يستورده ويتوسع فيه الحاكم العربي؛ سواء أكانت هذه الأدوات والوسائل ناعمة أم خشنة، فلم يوجَّه السلاح أولا للعدو بل للصديق والمعارض الداخلي، ولم تُعتبر السينما والمسرح أدوات للتثقيف والتعليم والتربية، بل وسائل للهو والعبث وإثارة الشهوات.

ولم تكن المدارس والجامعات إلا معامل لتفريخ أشباه المتعلمين، وغرفا مغلقة لاغتيال المواهب التي فر بعضها إلى الغرب يبحث عن فرصة ربما على حساب أشياء أخرى، منها الانتماء إلى أمته وثقافته وشرقه الإسلامي.

وأغرب ما في التحديث العربي هو أنه عمل يتواصل طوال العقود والعهود الحاكمة، ولكن لا يحقق للشعوب شيئا يرقى بها حقيقة ويشركها في صناعة الحضارة؛ لأنه دائما يؤخذ منقوصا وشكليا، فالديمقراطية -التي تمثل مهادا لازما للتحديث الحقيقي- هي من المحرمات العربية؛ إذ لم تشهد بلادنا لها حالة واحدة، إلا كما تأتي الصورة الخاطفة والومضة السريعة النادرة التي يفيق الاستبداد عليها ويستأسد أكثر، ولكِ اللهُ يا بلادي!

وما نشهده اليوم من تحديث عربي أكثر بافتتاح دور السينما وإنشاء مراكز القمار، وحشد الجماهير خلف الفرق الرياضية، والتوسع في الفن الدعائي والإعلام الاستعراضي؛ ليس إلا توافقا مشوها مع بعض مظاهر العصر، أو ليس إلا استمرارا للتحديث المنقوص الذي يتجه إلى خدمة الحاكم العربي ومشاريعه الخاصة، ويُبقي الشعوب في عالم التيه والنسيان تهدر طاقتها وتضيع أعمارها في ميادين التفاهات.

وكما توسل الحكام بالتحديث لتحقيق أهداف تنفصل فيها آمالهم عن آمال شعوبهم، بل تتخاصم معها؛ فقد توسلوا من قبلُ ومن بعدُ بالدين ليخلع عليهم شرعية يشعرون بافتقارهم إليها. وهذا يعني أن بؤرة تفكير هذا النوع من الحكام وأساس اهتمامهم ليس الحداثة ولا الدين، بل مطامع السلطة وأحلام المشروعات السياسية الخاصة.

وعلى كل حال؛ فإن التحديث العربي كان وبقي في مجمله حربا على الوعي، وخصما للأخلاق، ومكدِّسا لأدوات القمع بشتى أنواعها، وهذا ما يختصر ويفسر لنا بؤس الواقع العربي المرير الذي نحياه الآن، وهو واقع مرشح للبقاء والاستمرار ما لم تَعِ الشعوبُ حقوقَها، وتسعَ إلى إعادة التوازن لمعادلة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في ساحة الحياة العربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.