لنسلب الشعبويين أسلحتهم الإستراتيجية!

JDM006 - Berlin, Berlin, GERMANY : Frauke Petry (C, L), chairman of the right-wing populist Alternative for Germany (AfD) party, and the AfD's leading politician Alexander Gauland (C, R) hold a banner reading "Asylum needs limits" during a demonstration against the German government's asylum policy organized by the AfD party in Berlin on November 7, 2015. Thousands of protesters marched through the streets of the capital asking for the ouster of German Chancellor Angela Merkel and a curb on the number of asylum-seekers entering Germany. AFP PHOTO / JOHN MACDOUGALL

"لا تغضب، بل اعمل لتعويض خسائرك". لا بد من أن يُصبح هذا القول المأثور هو المعيار الجديد في السياسة الديمقراطية عبر أوروبا، وأميركا اللاتينية، وآسيا، وأفريقيا. فبدل الشكوى من نجاح الشعبويين؛ ينبغي للأحزاب السياسية الراسخة أن تحاكي الإستراتيجيات الشعبوية.

وهنا يمكننا استخلاص ثلاثة دروس مهمة بشكل خاص: يتلخص الدرس الأول في التواصل مع الأشخاص الذين ترغب في تمثيلهم عبر التعرف عليهم والفوز بثقتهم. لقد انتهى الزمن الذي كان فيه بوسع الساسة أن يعتمدوا على آلات الحزب، ومجموعات التركيز، واستطلاعات الرأي التقليدية.

وأصبح الافتراض الراضي عن الذات بأن الناس سيصوتون دوما على أساس الخط الحزبي أو الطبقي عتيقا وباليا؛ ففي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي شهدتها فرنسا العام المنصرم، انهار دعم الحزب الاشتراكي الذي ينتمي إلى يسار الوسط ودعم الجمهوريين المنتمين إلى يمين الوسط. كما عانت الأحزاب السياسية الراسخة من هزائم مهينة في انتخابات إيطاليامارس/آذار الماضي.

بعد سنوات من الوهن الاقتصادي؛ يبدي الناخبون التشكك في ساسة التيار السائد الذين يقدمون وعودا روتينية مكررة بشأن النمو وتحسين مستويات المعيشة. وفي أعين العمال المحبطين، كان أهل السلطة يراعون مصالحهم الخاصة، وحتى في العديد من أقوى الاقتصادات في العالَم، أصبحت مكاسب العمال بالقيمة الحقيقية أقل مما كانت عليه قبل عشر سنوات

بعد عشر سنوات من الوهن الاقتصادي؛ يبدي الناخبون التشكك في ساسة التيار السائد الذين يقدمون وعودا روتينية مكررة بشأن النمو وتحسين مستويات المعيشة. وفي أعين العمال المحبطين، كان أهل السلطة يراعون مصالحهم الخاصة، وحتى في العديد من أقوى الاقتصادات في العالَم، أصبحت مكاسب العمال بالقيمة الحقيقية أقل مما كانت عليه قبل عشر سنوات.

وعلى سبيل الاقتباس من رئيس منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية؛ فإنهم "عادوا إلى العمل لكن جيوبهم أصبحت خاوية". ففي الولايات المتحدة؛ أفادت نسبة 56% من الأسر بانخفاض دخولها. ومن ناحية أخرى، تسبب التهديد المزدوج -المتمثل في التشغيل الآلي ونقل عمليات الإنتاج إلى الخارج- في جعل التوظيف أقل استقرارا وفي استنزاف قدرة العمال على المساومة.

تُرى من يتحمل المسؤولية عن هذه الحال؟ من الواضح أن أولئك الذين يصوتون لصالح الشعبويين يحملون ساسة المؤسسة (الرسمية) المسؤولية، ولعلهم مصيبون في ذلك. فخلافا للاعتقاد الشائع؛ تشير الأبحاث الحديثة إلى أن التكنولوجيا ليست هي المحرك الرئيسي لانخفاض حصة العمال في الدخل.

بل ترجع محنة العمال -التي تتزايد حدتها- إلى خسارة القدرة على المساومة، وتراجع تماسك النقابات، وتقلص دولة الرفاه الاجتماعية، ونقل الصناعات إلى الخارج، ونمو القطاع المالي كحصة من الاقتصاد.

ويتمثل عامل آخر مهم في السياسة الضريبية؛ فوفقا لتقرير منشور في صحيفة فايننشال تايمز فقد انخفضت معدلات الضريبة الفعّالة "التي تدفعها أكبر عشر شركات عامة على مستوى العالَم من حيث القيمة السوقية في كل من تسعة قطاعات"، بما يقارب الثلث منذ عام 2000، من 34% إلى 24%. ومنذ 2008، ارتفعت معدلات ضريبة الدخل الشخصي في مختلف البلدان بنحو 6% في المتوسط.

وعلى هذه الخلفية؛ لا ينبغي أن يكون ظهور الأحزاب الشعبوية والساسة الشعبويين مفاجئا. فعندما تصبح غالبية الناس أكثر فقرا، تكون العواقب وخيمة في صناديق الاقتراع. ومع ذلك -وفي بلد تلو الآخر- كانت المؤسسة السياسية بطيئة بشكل ملحوظ في إدراك هذه الحقيقة.

ولنتأمل هنا حال البرازيل، حيث تجري الحملات استعدادا للانتخابات العامة في شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل. فكما هي الحال دوما؛ يخوض ساسة المؤسسة حملاتهم الانتخابية على أساس الوعود بالحصافة المالية والنمو الاقتصادي، وهي الوعود التي لا تلقى قبولا كبيرا بين 50 مليون برازيلي (نحو ربع السكان) يعيشون تحت خط الفقر، حيث يعادل متوسط دخول الأسر 387.07 دولارا شهريا.

ومن ناحية أخرى؛ يقترح المرشح الرئاسي الشعبوي البرازيلي جاير بولسونارو إعطاء كل برازيلي سلاحا ناريا ليتسنى له الدافع عن نفسه. من منظور النخب؛ يبدو هذا منافيا للعقل (وهو كذلك حقا)، ولكن في نظر البرازيليين الذين يخافون على سلامتهم الشخصية، فهو على الأقل يُظهِر فهم المرشح لتخوفهم الأكبر.

الواقع أن التعرف على أكثر ما يهم ناخبيك يشكل سياسة انتخابية أساسية؛ فقبل فوزه بالرئاسة الفرنسية والأغلبية البرلمانية العام الماضي، قام حزب "الجمهورية إلى الأمام!" بقيادة إيمانويل ماكرون -بناء على إستراتيجية ابتكرها مديرو حملة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الناجحة- بإرسال المتطوعين إلى مختف أنحاء البلاد للاستماع إلى مخاوف الناخبين.

الدرس الثاني المستفاد من الشعبويين اليوم هو استخدام رسائل بسيطة وبديهية عند الإشارة إلى أهدافك. صحيح أن شعارات من قبيل "سأحمي وظائفكم"، و"لنجعل أميركاعظيمة مرة أخرى"، تبدو مفرطة في التبسيط. ولكن أين البدائل المعقدة الأكثر تطورا؟ إن الحديث عن النمو الاقتصادي لا ينجح إلا عندما يتمتع الناس بفوائد ذلك النمو.

يتلخص أحد الدروس المستخلصة من الإستراتيجيات الشعبوية في التحلي بالجرأة؛ ففي الأوقات العصيبة يبحث الناس عن رؤية تحويلية للمستقبل، وليس تحسينات طفيفة. فبعد ثلاثين عاما من البراغماتية والتغيير التدريجي التراكمي؛ حان الوقت لاستخدام نبرة جديدة. ولنتذكر أن ونستون تشرشل خسر الانتخابات العامة في 1945، بعد أن حقق النصر لبريطانيا في الحرب العالمية الثانية

خلال فترات النمو البطيء -أو النمو غير المنصف- يتعين على الساسة أن يقدموا استجابات أكثر مباشرة لما يشعر به الناس. في الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة؛ زعمت الحملة المناصرة للبقاء -والتي قادتها بفتور حكومة رئيس الوزراء ديفد كاميرون آنذاك- أن ترك الاتحاد الأوروبي قد يسفر عن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، وخسارة التجارة، وتعطيل القطاع المالي.

بيد أن مثل هذه الحجج أخطأت تماما تقدير ما يشغل بال أغلب الناخبين. وعلى النقيض من هذا؛ وَعَد أنصار الخروج "باستعادة السيطرة" على حدود المملكة المتحدة، وزعموا زورا أن هيئة الصحة الوطنية ستتمتع بمكاسب غير متوقعة، تبلغ 350 مليون جنيه إسترليني (490 مليون دولار أميركي) أسبوعيا.

في مجمل الأمر؛ يبدو ساسة المؤسسة (الرسمية) مرتبكين حائرين. فقد كان الأكاديميون والخبراء والقادة السياسيون ورجال الأعمال وزعماء المجتمع المدني، متباطئين للغاية في صياغة سياسات اقتصادية واجتماعية جديدة تتمتع بجاذبية واسعة النطاق.

ومن المؤكد أن هذه ليست بالمهمة السهلة؛ فالأمر يستلزم التأمل الذاتي ووضوح الرؤية. ولكن في المقام الأول والأخير؛ يتطلب الأمر كذلك تكريس الوقت والطاقة لفهم محنة الناخبين وتأطير الحلول بطريقة واضحة وبسيطة.

ويتلخص الدرس الثالث المستخلص من الإستراتيجيات الشعبوية في التحلي بالجرأة؛ ففي الأوقات العصيبة يبحث الناس عن رؤية تحويلية للمستقبل، وليس تحسينات طفيفة. فبعد ثلاثين عاما من البراغماتية والتغيير التدريجي التراكمي؛ حان الوقت لاستخدام نبرة جديدة. ولنتذكر أن ونستون تشرشل خسر الانتخابات العامة في 1945، بعد أن حقق النصر لبريطانيا في الحرب العالمية الثانية.

وَعَدَ كليمنت أتلي -الذي فاز في تلك الانتخابات- بما كان يشكّل فعليا عقدا اجتماعيا جديدا للبريطانيين الذين أنهكتهم الحرب، والذين كانوا يعيشون حتى ذلك الوقت على الحصص التموينية.

وذهبت حكومة أتلي إلى حد توفير الرعاية الصحية الشاملة المجانية، والتأمين ضد البطالة، ومعاشات التقاعد، والسكن اللائق، والوظائف الآمنة في الصناعات المؤممة. وكان كل هذا مموَّلاً بالدين الوطني الذي كان آنذاك عند مستوى 250% من الناتج المحلي الإجمالي. والواقع أن جرأة رؤية أتلي ليس لها نظير في العصر الحديث، وهذه أكبر مشاكلنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.