ترمب "الشرق أوسطي"

Real estate magnate Donald Trump waves as he leaves a Greater Nashua Chamber of Commerce business expo at the Radisson Hotel in Nashua, New Hampshire, May 11, 2011. REUTERS/Don Himsel/Pool/File Photo FROM THE FILES PACKAGE "THE CANDIDATES" - SEARCH CANDIDATES FILES FOR ALL 90 IMAGES

كانت انشغالات الشرق الأوسط بالمرشحَين الجمهوري والديمقراطي للانتخابات الأميركية (دونالد ترمب وهيلاري كلينتون) تتفاوت بين التأييد والتنديد، إضافة إلى عدم الاكتراث أحيانا، خصوصا وأن هناك اعتقاد سائد إلى حدود غير قليلة، بأن السياسة الخارجية الأميركية، ولا سيما إزاء الشرق الأوسط، لن تتغير ولن تطرأ عليها تبدلات جوهرية، لأن أميركا بلد مؤسسات، وبالتالي فإن ذهاب هذا الرئيس ومجيء آخر، سوف لا يغير من المسألة شيئا كثيرا.

وإذا كان مثل هذا الرأي يحمل قدرا من الصواب، فإنه ليس مطلقا ودائما، فثمة متغيرات وتراكمات يمكن أن تُحدث تغييرا في وجهة السياسة أو في بعض حيثياتها تبعا لمواقف الرؤساء، فما بالك برئيس مثير للجدل والالتباس والاستثنائية مثل ترمب؟

يمكن للمراقب أن يضع أمامه بعض المعطيات الأساسية لكي يستطيع أن يحلل مآلات السياسة الخارجية الأميركية إزاء الشرق الأوسط، مما ترشح من آراء وخطب خلال الحملة الانتخابية وحتى قبلها، الأمر الذي خلق نوعا من الترقب والحذر، بعدما قام به الإعلام ومؤسسات قياس الرأي العام والاستطلاع من ضخ كمية من المعلومات، رجحت فوز هيلاري كلينتون عن الحزب الديمقراطي، بل إن البعض رتب العلاقات معها باعتبارها الفائزة المحتملة أو الأكثر حظا.

وما أن أعلن عن الفوز غير المتوقع والمدوي لدونالد ترمب حتى أصيب الجميع بالدهشة، سواء الفريق المعادي له والكاره لسلوكه وتصريحاته وتوجهاته ذات الطابع العدواني والعنصري، أو الفريق المؤيد له، لأنه محبط بسبب سياسة آل كلينتون وآل بوش، والتي تمثل المرشحة الديمقراطية، استمرارا لها، خصوصا في موضوع استخدام القوة والتدخل العسكري، ولا سيما في ليبيا، إضافة إلى الموقف من عموم قضايا الشرق الأوسط، وبشكل خاص القضية الفلسطينية.

ينبغي عدم التوقف عند الخطاب الشعبوي الذي تبناه ترمب عندما كان مرشحا، بل على العرب مراقبة الخطاب النخبوي عندما أصبح رئيسا، والذي يمكن أن يتغير خارج نطاق الوعود الانتخابية، خصوصا إذا ما عرفنا أن مجمع العقول (تروست الأدمغة) سيلعب دورا غير قليل في صياغة توجهات السياسة الخارجية الأميركية

فعلى مدى العقد الماضي كله شنت "إسرائيل" حروبا متتالية ضد الفلسطينيين وضد لبنان ونكثت حتى بتعهداتها التي لا تمثل الحد الأدنى لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، والمقصود بذلك اتفاقيات مدريد أوسلو العام 1993، والتي وصلت إلى طريق مسدود بسبب تعنت "إسرائيل" منذ العام 1999 ورفضها المضي في ما سمي بـ"مرحلة الحل النهائي".

وحتى الفريق الذي تمنى فوز ترمب، ليس حبا به، بل كرها بكلينتون، خصوصا بتصريحاته النارية بمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة وتنديده بالراديكالية الإسلامية، والمقصود بها ليس تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة وجبهة النصرة وسواهم من المنظمات الإرهابية، بل إن التوصيف يكاد يشمل الإسلام كدين، والمسلمين كأتباع للديانة الإسلامية.

لكن أول تصريح لاترمب بعد أن فاز بالانتخابات قال فيه: إنه لا يريد أن تستغرق الولايات المتحدة في حروب المنطقة "وعلينا التركيز على "داعش" مشيرا أن للتدخل عواقب وخيمة، لأن الأمر قد يفضي إلى حرب عالمية حيث ستكون الولايات المتحدة في مواجهة مع روسيا وإيران وسوريا، مشيرا إلى أن وروسيا بلد نووي. وخفف من المشكلة مع الرئيس السوري، لتأكيده أن مشكلتنا هي مع داعش.

وبالعودة إلى لب قضية الشرق الأوسط (القضية الفلسطينية) فقد كتب ترمب عشية الانتخابات (أكتوبر/تشرين الأول 2016) على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك): إنه سيعترف بأن القدس هي العاصمة الوحيدة والحقيقية لـ"إسرائيل"، وجاء مثل هذا التأكيد في حملته الانتخابية بأن "القدس العاصمة الأبدية للشعب اليهودي منذ أكثر من ثلاث آلاف عام".

وقال ترمب خلال لقائه مع بنيامين نتنياهو (في سبتمبر /أيلول 2016) بنيويورك: إن "إسرائيل" ومواطنيها عانوا منذ وقت طويل، وأضاف أن السلام لن يكون إلا حين يتخلى الفلسطينيون عن الكره والعنف ويقبلون بأن "إسرائيل" دولة يهودية.

وسبق له أن صرح قائلا: إنه إذا أصبح رئيسا سيقيم تحالفا قويا بين بلاده و"إسرائيل" متهما الأمم المتحدة بأنها ليست صديقة "لإسرائيل"، (مارس/آذار/ 2016) وذلك في حديث خاص إلى منظمة أيباك (المؤتمر السنوي للمنظمة الأميركية "الإسرائيلية"). وبعد لحظات من فوزه لاحظنا استبشارا وفرحا في "إسرائيل"، ويتبين ذلك من العدد الهائل من التعليقات المرحبة بفوزه، والمهنئة بعهده والمتمنية علاقات متميزة "إسرائيلية" أميركية.

إن فوز ترمب، حسب "الإسرائيليين" يعني "موت خيار الدولتين" الذي قد تبناه الرئيس بيل كلينتون في آخر عهده، وواصله بفتور الرئيس جورج دبليو بوش، وتحدث عنه باراك أوباما في أول عهده العام 2009، ولكن هذا الخيار تم وضعه في الأدراج، خصوصا منذ فرض الحصار على غزة في العام 2007، والعدوان على لبنان الذي دام 33 يوما في العام 2006، ومن ثم شن ثلاثة حروب عدوانية على غزة الأول، دام الأول منها 22 يوما في أواخر العام 2008 وأوائل العام 2009 وأطلق عليه اسم عمود السحاب.

وكانت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية السابقة قد بشرت بقيام "شرق أوسط جديد"، ولم يكفها الحديث عن شرق أوسط كبير، ولكن صمود الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني فوت على واشنطن وحليفتها فرصة استكمال مخططاتها العدوانية.

أما العدان الثاني فكان عملية الرصاص المصبوب في العام 2012، أما الثالث فهو عملية الجرف الصامد في العام 2014.

ودعت "إسرائيل" ترمب إلى الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لها، كما طالبته بنقل السفارة الأميركية إليها، وهذا يعني التجاوز على جميع القرارات الدولية بما فيها قرار عدم شرعية ضم القدس الذي اتخذه الكنيست "الإسرائيلي" العام 1980.

لقد انتظرت "إسرائيل" هذا اليوم للرد بقوة على قرار اليونيسكو، ببطلان نظرية الهيكل التي اعترفت أن المزاعم "الإسرائيلية" بشأن الأماكن المقدسة في القدس لا أساس لها من الصحة، وأن هذه الأماكن هي من تراث الشعب الفلسطيني.

وفي رد على الدعوة للمفاوضات المباشرة الفلسطينية "الإسرائيلية"، قال محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية وبحضور رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف: "نحن نريد من بنيامين نتنياهو أن ينطق بعبارة واحدة هي قبوله بخيار الدولتين وبحدود العام 1967".

ترمب أصبح رئيسا، والأمر الواقع واقعا، فكيف سيبني العرب إستراتيجياتهم وسياساتهم معه؟ أعتقد أن هناك ثلاث قضايا ينبغي وضعها في حساب أصحاب القرار:

ينبغي عدم بناء إستراتيجيتنا على ردود الفعل، وخصوصا تجاه ترمب المرشح، وعلينا انتظار سياسة ترمب الرئيس، علما بأن الاختلاف، بل الافتراق بدا واضحا وجليا منذ خطابه الأول بعد الفوز، فعدد من مواقفه الشعبوية كانت "ملحا" في مواجهة غريمته كلينتون

القضية الأولى: لا ينبغي التوقف عند الخطاب الشعبوي الذي تبناه ترمب عندما كان مرشحا، بل عليهم مراقبة الخطاب النخبوي عندما أصبح رئيسا، والذي يمكن أن يتغير خارج نطاق الوعود الانتخابية، خصوصا إذا ما عرفنا أن مجمع العقول (تروست الأدمغة) سيلعب دورا غير قليل في صياغة توجهات السياسة الخارجية الأميركية، ويقدم الآراء والمقترحات للرئيس، وهي سياسة معتمدة بشكل خاص منذ عهد الرئيس كينيدي وحتى الآن، وقد برز عدد من العاملين في تروست الأدمغة وغالبيتهم الساحقة جاؤوا من خلفيات أكاديمية، مثل هنري كيسينجر وزبغينيو بريجنسكي ومادلين أولبرايت وكونداليزا رايس وستيفن هادلي، وغيرهم.

القضية الثانية: الحاجة إلى حوار على نحو جديد، تشارك فيه حكومات وبرلمانات ومؤسسات ومنظمات مجتمع مدني، وهو حوار ذو شقين: أحدهما معرفي وثقافي، بيننا وبين أنفسنا من جهة، وبيننا وبين الآخر جهة ثانية. والهدف منه هو محاولة المواءمة بين مصالحنا ومتطلبات المجتمع الدولي والقوى الكبرى والبحث في السبل الكفيلة بوضع أولوياتنا موضع التطبيق، ثم تشخيص عناصر القوة التي نملكها، وكذلك عناصر الضعف التي نعاني منها، ويعتمد ذلك على التنسيق والتعاون بين دولنا ومؤسساتنا. والشق الثاني له علاقة بالحوار السياسي، وهذا يحتاج أيضا إلى حوار داخلي وخارجي مع النفس ومع الآخر، لا سيما الأميركي.

القضية الثالثة: بين الثابت والإستراتيجي، ثمة تكتيكي وظرفي، فينبغي إخضاع الثاني للأول، وبقدر ما يمكن إبداء مرونة وتواصل في الثاني، يمكن التمسك بالثاني، إلى الحد الذي لا يقبل التنازل، فحقوق الشعب العربي الفلسطيني والحقوق العربية بشكل عام غير قابلة للتصرف.

وبهذا المعنى ينبغي عدم بناء إستراتيجيتنا على ردود الفعل، وخصوصا لترمب المرشح، وعلينا انتظار سياسة ترمب الرئيس، علما بأن الاختلاف، بل الافتراق بدا واضحا وجليا منذ خطابه الأول بعد الفوز، فضلا عن أنه سارع لرفع دعوات منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة، من موقعه الإلكتروني بعد فوزه مباشرة (قبل أن تعود ثانية)، والأمر لا يقتصر على هذه القضية، وإنما قد يشمل عددا من المواقف الشعبوية التي اتخذها والتي كانت "ملحا" في مواجهة غريمته كلينتون، وكان يمكن للمواجهة أن تكون "بلا طعم" يُذكر، انظلاقا من بعض خصائص شخصيته الاستعراضية.

السؤال بقدر ما سيواجه الرئيس، فإنه سيواجهنا أيضا.. وماذا بعد؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.