مقاطعة الاحتلال.. المقاومة العابرة للحدود

Palestinians walk past a sign painted on a wall in the West Bank biblical town of Bethlehem on June 5, 2015, calling to boycott Israeli products coming from Jewish settlements. The international BDS (boycott, divestment and sanctions) campaign, that pushes for a ban on Israeli products, aims to exert political and economic pressure over Israel's occupation of the Palestinian territories in a bid to repeat the success of the campaign which ended apartheid in South Africa. AFP PHOTO / THOMAS COEX
غيتي إيميجز

تترافق فعاليات العمل الشعبي الكفاحي المناهض للاحتلال في فلسطين مع تطور حملة مقاطعة الاحتلال. وهي الحملة التي تعد في جوهرها شكلا من أشكال المقاومة، بطابعها السلمي الحضاري طويل النفس، ويمكن لها أن تحشد المزيد من الأصدقاء على امتداد العالم بأسره لمؤازرة القضية الفلسطينية.

الحملة العالمية لمقاطعة "إسرائيل" وفرض العقوبات عليها (BDS)، التي يقودها متطوعون من فلسطين وعموم العالم خاصة من دول الغرب الأوروبي، حقتت حتى الآن جملة من النتائج الطيبة والإيجابية، كان منها إقدام بعض الجامعات المرموقة في العالم على مقاطعة "إسرائيل" أكاديميا، وتبني أربع جمعيات أكاديمية في الولايات المتحدة الأميركية مقاطعة أكاديمية شاملة لـ"إسرائيل"، وبين تلك الجمعيات جمعية الدراسات الأميركية.

وكان آخرها قبل أيام قليلة ما نشرته صحيفة غارديان البريطانية (الأربعاء 27 أكتوبر/تشرين الأول 2015) في شكل إعلان نص رسالة من 343 أكاديميا ومحاضرا بريطانيا يعلنون فيها التزامهم بحقوق الشعب الفلسطيني, ومقاطعتهم لإسرائيل، ويتعهدون بعدم التعاون مع مؤسساتها الأكاديمية والتعليمية.

حققت الحملة العالمية لمقاطعة "إسرائيل" وفرض العقوبات عليها (BDS)، جملة من النتائج الطيبة، منها إقدام جامعات مرموقة في العالم على مقاطعة إسرائيل أكاديميا، وتبني أربع جمعيات أكاديمية في أميركا مقاطعة أكاديمية شاملة لإسرائيل

وينتمي الموقعون إلى72 مؤسسة تعليمية في بريطانيا، تشمل جامعة أوكسفورد وجامعة كمبريدج، حيث جاءت هذه الرسالة ردا مباشرا على رسالة نشرتها الصحيفة نفسها لمجموعة من الفنانين والروائيين تدين حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على "إسرائيل".

كما صوت قبل فترة المؤتمر العام لكنيسة المسيح المتحدة أثناء أعماله بمدينة كليفلاند بولاية أوهايو الأميركية في اليوم الأول من يوليو/تموز 2015 بأغلبية مطلقة على قرار بمقاطعة الشركات الأميركية والعالمية التي تتربح من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بواقع (508) أصوات مع قرار المقاطعة و(124) ضد و(38) امتنعوا عن التصويت.

ويبلغ عدد أعضاء الكنيسة المذكورة في الولايات المتحدة نحو 1.5 مليون عضو، وتنضم بهذا القرار إلى كنائس أميركية أخرى قاطعت "إسرائيل" منها الكنيسة المشيخية (البروسبتارية)، حيث وافق مؤتمرها على قرار مماثل العام الماضي.

هذا فضلا عن مقاطعة العديد من الجهات والشركات التسويقية الأوروبية للبضائع المنتجة في المستعمرات "الإسرائيلية" المقامة فوق الأرض المحتلة عام 1967 في الضفة الغربية والقدس والجولان السوري المحتل، وهي عملية مديدة وتراكمية ما زالت تتوسع كل يوم ولو بحدود معينة في سياق استمرار الحملة واستمرار عمل نشطائها.

وقد برز الانزعاج والتوتر والقلق "الإسرائيلي" من نشاط حملة الـ(BDS) في أكثر من محطة، كان منها ما أورده رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو في خطابه التحريضي المطول الذي ألقاه في أعمال مؤتمر هرتسيليا السنوي لـ "المناعة القومية في إسرائيل" في دورته الأخيرة، حين تناول حملة المقاطعات التي تقودها الـ(BDS) في فقرة طويلة محرضا على نشطائها ومتزعميها في فلسطين وفي الدول الأوروبية، وعمل على تقديم الرواية "الإسرائيلية"، وتكذيب ما أسماه "مزاعم" رعاة حملة المقاطعة.

وأكد أن "إسرائيل تمتلك أهم عوامل الانتصار"، وهي كما حددها "القوة والذكاء والثقة، للانتصار على أعدائها ولإقناعهم بصنع السلام معها، والذكاء في استثمار الفرص وبناء واستثمار الجسور".

المهم في الأمر أن هذا النمط السلمي من الأعمال الوطنية والكفاحية لا بد أن يعطي أكله ونتائجه المثمرة ولو بعد حين، فهو عمل سلمي ديمقراطي وحضاري بامتياز، يتقبله الرأي العام على امتداد المعمورة، ولا يستطيع أحد أن يطعن به أو أن يطعن بمصداقية ودوافع أصحابه وحملة رايته، أو أن يتهم أصحابه بـ"الإرهاب".

فشلت حتى الآن حملة التحريض الإسرائيلية على عمل ونشطاء حملة مقاطعتها والسعي لفرض العقوبات عليها في بعض الدول الغربية، في كبح دور نشطاء الحملة، وتشويه سمعتهم، أو في الحد من مشاركتهم للنشطاء الفلسطينيين في الشارع الأوروبي

كما هو عمل طويل النفس يحتاج لمتابعة ومراكمة، كما يحتاج لأفراد ونشطاء على درجة جيدة من الوعي السياسي ممن لديهم الاستعداد للمضي بهذا المشروع وفتح الأبواب أمامه، كما يحتاج لمشاركة منظمات المجتمع المدني، وبالتالي إشراك أوسع قطاعات الناس، وتجاوز المفاهيم القديمة التقليدية التي طالما كانت تقدس العمل المسلح العنفي في مواجهة الاحتلال في البلاد الواقعة تحت الاحتلال على غيره من الأنماط الكفاحية التي أبدعت بممارستها العديد من شعوب العالم، ومنها شعب جمهورية جنوب أفريقيا إبان كفاحه ضد التمييز العنصري وضد نظام الأبارتهايد.

إن حملة التحريض الإسرائيلية على عمل ونشطاء حملة مقاطعتها والسعي لفرض العقوبات عليها في بعض دول الغرب الأوروبي، فشلت حتى الآن في كبح دور نشطاء الحملة، وتشويه سمعتهم، أو في الحد من مشاركتهم للنشطاء الفلسطينيين في الشارع الأوروبي، وحتى في القدوم إلى فلسطين والمشاركة في العديد من الفعاليات التي تجري بشكل دائم، ومنها الفعاليات الدائمة ضد جدار الفصل العنصري وعمليات الاستيطان والتهويد في مناطق القدس المختلفة وبلدة بلعين وغيرها.

ولا يخفى على أحد أن سلطات الاحتلال وضعت أسماء المئات من النشطاء الأجانب في مطار اللد بمن فيهم نشطاء من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، لمنعهم من دخول البلاد، وصولا للضفة الغربية، وذلك في سياق سعيها لكبح دورهم الملموس إلى جانب النشطاء الفلسطينيين في الداخل المحتل عام 1967.

لقد حققت حملات المقاطعة (BDS) نجاحا لابأس به في مواجهة إسرائيل وتعرية سلوكها وسياساتها ضد الفلسطينيين على مستوى الرأي العام العالمي، وعلى المستوى الدولي الرسمي، وقد سجلت حملة المقاطعة كما ورد في التقرير الدوري للمكتب الوطني للمقاطعة في فلسطين سلسلة من النتائج الحسية الملموسة، كان منها خسارة إسرائيل نحو 15 مليار دولار نتيجة حملة المقاطعة منذ انطلاق نشاطها الأولي عام 2005، وحسب تقرير صدر مؤخرا عن وزارة المالية الإسرائيلية، فإن الاقتصاد الإسرائيلي سيخسر سنويا، من جراء مقاطعة عالمية شاملة نحو 10.5 مليارات دولار.

إن تلك المؤشرات تحمل دلالاتها القوية بأن هذا الميدان من العمل السلمي الديمقراطي كرة ثلج تتعاظم ولو ببطء مع كل إنجاز جزئي، فهي فعل تراكمي وتضامني وتشاركي، ورافعة من روافع المقاومة المتعددة الأنماط بيد الشعب الفلسطيني في ظل الاختلال الهائل في موازين القوى العسكرية على الأرض لصالح الاحتلال.

إن خبرات كثيرة صنعتها العديد من شعوب العالم في مسارات كفاحها السلمي الديمقراطي المتعدد الأشكال والأنماط من أجل الاستقلال والتحرر الوطني بما في ذلك الخبرات التي اكتسبها الفلسطينيون أنفسهم، وعليهم الاستفادة منها وتطويرها

كما هو عمل فعال لا يجوز التقليل من شأنه وأهميته أو الاستهتار به، فهو عمل يستطيع أن يرسم خطواته على الأرض، وأن يترك آثاره القوية في مواجهة الاحتلال على المديات الطويلة، ولنا أكثر من مثال حي وطازج في سياق ما ذهبنا اليه، وأقربه المثال الجنوب أفريقي حين انتصرت إرادة شعب جنوب أفريقيا على نظام الأبارتهايد بالعمل السلمي الديمقراطي الواسع المترافق مع نمو وتطور الحراك الدولي المساند على مدى زمني طويل نسبيا استمر لنحو تسعين عاما، فانهار نظام البانتوستنات وتحولت جنوب أفريقيا لدولة لكل مواطنيها على قاعدة الصوت الواحد للمواطن الواحد بغض النظر عن لونه أو جنسه، وصعد نيلسون مانديلا كأول رئيس أسود للبلاد بعد أن قاد الكفاح السلمي الديمقراطي في بلاده، وقضى من أجل ذلك نحو ربع قرن من الزمن في سجون نظام الأبارتهايد قبل انهياره.

إن خبرات كثيرة صنعتها العديد من شعوب العالم في مسارات كفاحها السلمي الديمقراطي المتعدد الأشكال والأنماط من أجل الاستقلال والتحرر الوطني، بما في ذلك الخبرات التي اكتسبها الفلسطينيون أنفسهم، حيث عليهم الاستفادة منها، وألا يبخسوا هذا الشكل وهذا النمط الكفاحي.

ففي ظروف ومعطيات الحالة الفلسطينية يكتسي هذا النمط أهمية كبرى، برهنت عليها نتائج الانتفاضة الكبرى الأولى التي انطلقت نهاية العام 1987، حيث اقتصرت فعالياتها على العمل الشعبي الواسع كالمظاهرات والإضرابات مع استخدام الحجارة بوجه الاحتلال، وقد استطاعت أن تعيد للقضية الفلسطينية حضورها الكبير إلى طاولة المجتمع الدولي، وأن تستقطب اهتمام وتضامن شعوب العالم على أوسع مدى.

وفي هذا المقام، يأتي دور الجهات الرسمية الفلسطينية المعنية، وعموم القوى والفصائل، وجهدها المطلوب من أجل ترسيخ ثقافة العمل الشعبي والسلمي في مقاومة الاحتلال، ونمط المقاطعة، في عموم المناطق المحتلة عام 1967، إلى جانب كل أشكال وأنماط الكفاح الوطني المعروفة بما فيها العمل الفدائي الموجه والمدروس، ورفع الوعي لدى المواطنين بأهمية هذا الشكل الكفاحي الراقي والحضاري في مواجهة الاحتلال وعدم التقليل من شأنه ومن فعاليته، والعمل المستمر من أجل توسيع عملية تدويل المقاطعة وتوسيع رقعتها الجغرافية من خلال التنسيق مع حركات التضامن الدولية مع الشعب الفلسطيني، ومع الأحزاب الصديقة وأعضاء البرلمانات الأجنبية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.