حكاية مسجد عمر بن الخطاب بإيطاليا.. بيت اللاجئين والعرسان

مسجد عمر أصبح ذاكرة جماعية للمسلمين وغيرهم في تورينو، وتجمع سكان المدينة فيه بالإفطار الجماعي الذي يكون رفقة غير المسلمين فيظل من أبرز الذكريات.

تورينو – على بعد خطوات من "بورتا نوفا" محطة القطار الرئيسية بمركز مدينة تورينو، الشاهدة على موجة اللاجئين السوريين سنة 2015، هناك قريبا من مفترق طرق، بين 5 محلات جزارة إسلامية لبيع اللحوم الحلال، يقبع مسجد عمر بن الخطاب أو مسجد اللاجئين والمسافرين، وسط بهو العمارة رقم 18، بزقاق "فيا سالوتسو".

لا معالم بارزة خاصة بالعمارة الإسلامية في هذا المكان التعبدي، سوى اللون الأخضر لخلفية يافطة تحمل اسم: مسجد عمر بن الخطاب، الذي بدأت نواته الأولى قبل حوالي 37 عاما. وذلك أن إنشاء مسجد في إيطاليا، ما تزال تعترضه بعض الأصوات اليمينية فما بالك بإبراز معالمه.

تلاميذ الثانوي يستمعون لشروحات حول الإسلام داخل مسجد عمر ابن الخطاب من طرف الإمام
تلاميذ الثانوي يستمعون من الإمام لشروحات حول الإسلام داخل مسجد عمر (الجزيرة)

التأسيس والبناء

عام 1984، أسس اتحاد الطلبة المسلمين بالمنزل رقم 24 (غرفتين ومطبخ) بزقاق برتوليت، في حي سان سالفاريو، أول مسجد بمدينة تورينو، شمال إيطاليا، ليصبح نواة فيما بعد لمسجد عمر.

عام 1996 تم اختيار عنوان في زقاق "سالوتسو" رقم 18 مقرا لمسجد أوسع تحت مسمى عمر بن الخطاب. وتبلغ مساحته 700 متر مربع ومكون من طابقين: الأول إيجار، والثاني تمتلكه الجمعية التي تدير المسجد وتحمل اسمه. وتصل مصاريف بناية المسجد وموظفيه إلى حوالي 5 آلاف يورو شهريا، مصدرها تبرعات المهاجرين.

وعلى بعد 50 مترا من مسجد عمر في زقاق سالوتسو، توجد كنيسة سان بييترو باولو. وعلى بعد 100 متر من المسجد يوجد البيع/المعبد اليهودي "سينيكوكا".

مدخل مسجد عمر ابن الخطاب 2
مدخل مسجد عمر بن الخطاب (الجزيرة)

البناء الداخلي بالمسجد بسيط، لا زخرف فيه، باستثناء السجاد الأحمر والذي رسمت عليه أبواب مقوسة من أشكال الهندسة والعمارة الإسلامية، كذلك المحراب لكنه غير مزركش باستثناء فسيفساء من مربعات بيضاء ورمادية، وهي ألوان التصميم المعاصر للسيراميك الإيطالي.

المنبر مكون من درجتين، ثم كرسي، شكله تقليدي كما في البلاد الإسلامية، إلا أنه بسيط في زينته، باستثناء ساريتي مدخل المنبر، اللتين تعلوهما كرتان مصبوغتان بطلاء ذهبي، يتوكأ عليهما الإمام من حين لآخر، حين إلقاء خطبة الجمعة.

** داخلية** الإفطار الجماعي الذي سنه مسجد عمر بتورينو ليصبح عادة في عديد من مدن إيطاليا
الإفطار الجماعي الذي سنه مسجد عمر بتورينو ليصبح عادة بعدة مدن إيطالية (الجزيرة)

بيت اللاجئين وعابري السبيل

أضحى "مسجد عمر" كما يناديه اختصارا المهاجرون، قبلة اللاجئين وعابري السبيل، بسبب موقعه الإستراتيجي وسط مدينة تورينو، قرب سلسلة من محطات المواصلات: القطار، المترو، الترام، وعدد من محطات الحافلات الدولية والمحلية.

كثافة المواصلات المتاحة سهلت على اللاجئين الوصول إليه، فأضحى محطة لكل عابر سبيل مهاجر يرغب في الزاد وقسط من الراحة، لمواصلة المسير نحو دول شمال أوروبا، الأحسن حالا من إيطاليا.

يقول علي الشوبكي أحد مؤسسي المسجد ومسيريه، للجزيرة نت "المسجد يتكفل في كثير من الأحيان -بعد ضيافة اللاجئين وعابري السبيل- بشراء تذكرة القطار لهم، في حال اختيارهم التوجه إلى بلد أوروبي آخر، نحاول قضاء حوائجهم قدر المستطاع".

مصلون يؤدون صلام المغرب بمسجد عمر _1 _
مسجد عمر تبلغ مساحته 700 متر مربع ومكون من طابقين (الجزيرة)

ويوضح محمد شاهين، إمام مسجد عمر، للجزيرة نت، أنه كباقي المساجد الـ 19 بتورينو "ملتزم بالقانون، حول مسألة استقبال اللاجئين وإيوائهم، لكننا وبحكم أننا قرب محطة القطار الرئيسية بالمدينة وحيث يتوافد علينا اللاجئون بكثرة في أوقات ومناسبات معينة فإننا نكون مضطرين لضيافة كل لاجئ يطرق بابنا".

لقد ظل مسجد عمر مفتوحا سنة 2015، في وجه اللاجئين القادمين من سوريا خلال أوج هجرة النازحين من هناك. لقد أصبح عدد منهم مقيما في المسجد بشكل كامل لمدة من الزمن، كما يؤكد شاهين، والذي أوضح أن "هذا حق شرعي لكل ابن سبيل.. إلى أن يدبر أمره، حيث وجب التكفل بطعامه وشرابه وهو ما يفعله المسجد".

يقول نبيل (مغربي الجنسية) أحد القاطنين بالقرب من المسجد إنه "أصبح بيتا للاجئين وعابري السبيل وكل من وجد نفسه مشردا، حيث يأويه ويحميه من البرد القاسي خاصة الشتاء".

الشاب نبيل (مغربي) أحد مرتادي المسجد ومن جيرانه
نبيل أحد مرتادي مسجد عمر ومن جيرانه (الجزيرة)

قبلة المسلمين والمسيحيين واليهود وآخرين..

يحدد الإمام (من أصول مصرية) دور مسجد عمر وأنشطته في مستويين: الأول مخصص للمسلمين (حوالي 50 ألف نسمة بتورينو) يعيش قضاياهم وحيواتهم، يذكرهم بدينهم ويحتضنهم على المستوى الديني والروحي، من خلال الصلوات الخمس وصلاة الجمعة، الخطب والندوات وتعلم قراءة القرآن وتلاوته.

وخلال شهر رمضان الكريم يتم تنظيم موائد الإفطار، موفرا حوالي 250 وجبة يومية، و4 ندوات بين قصيرة وطويلة كل يوم.

الشيخ محمد شاهين إمام مسجد عمر ابن الخطاب بتورينو
الشيخ محمد شاهين إمام مسجد عمر بمدينة تورينو (الجزيرة)

أما المستوى الثاني لأنشطة مسجد عمر، بحسب شاهين، فيتجلى بدوره في "التواصل مع المجتمع الإيطالي والمقيمين فيه بغرض التعريف بالإسلام وتعميق سبل الحوار إن صح القول".

وينوه الإمام بأن إدارة المسجد المتنوعة الجنسيات واللغات "كان لها أثر طيب على مستوى التواصل الجيد مع المواطنين والمسؤولين الإيطاليين وغيرهم مثل قنصل الولايات المتحدة في ميلانو الذي زار المسجد".

وساهم المسجد في العديد من الأنشطة الاجتماعية والثقافية في إيطاليا، وبحسب الإمام فإن المسجد عمل على "ترسيخ سُنة تتعلق بتنظيم الإفطار الرمضاني الجماعي بالشارع، وذلك منذ حوالي 5 سنوات، وهي فكرة للمهاجر التونسي إبراهيم أبو إسماعيل، أحد رواد المسجد، والذي أخرجها للوجود لتصبح عادة ثقافية في مدن إيطالية كثيرة، وهو ما يجعل مسجدنا صاحب مبادرة محلية ووطنية".

يحتضن مسجد عمر، كمؤسسة دينية تمثل الإسلام في تورينو، العديد من الفعاليات ذات الصلة بالحوار مع الديانات الأخرى الممثلة في الحي: المسيحية واليهودية، يقول الإمام للجزيرة نت "كما تابعتَ في زيارتكم للمسجد، فنحن نستقبل أكثر من ألف إيطالي من تلاميذ وآباء يودون التعرف على الإسلام إضافة إلى عدد من الإيطاليين الذين يأتون لإشهار إسلامهم. وهناك تعاون مع جمعيات مدنية إيطالية لتنظيم زيارات استطلاعية للمسجد".

تلاميذ الثانوي من بلدة تشيريي أمام مدخل مسجد عمر ابن الخطاب حين زيارتهم له
تلاميذ الثانوي من بلدة تشيريي يزورون مسجد عمر (الجزيرة)

رامونا بولاك، المسيحية الديانة، الوسيطة الثقافية بمؤسسة إيميغران تور، قابلناها أثناء زيارة المسجد، وهي تقوم بمرافقة فصلين دراسيين من بلدة تشيريي المجاورة لتورينو، وذلك "لأجل صنع حوار مع المسلمين من خلال المسؤولين عن إدارة المسجد، والذين يعرفون بالإسلام وخصوصيته للزوار التلاميذ، اليافعين، الشغوفين بمعرفة هذا الدين، ونقاط الالتقاء معه" كما تقول للجزيرة نت.

أما زميلتها أنّا فقالت "إن المسجد يقدم خدمة كبيرة للشباب المسلمين، وغير المسلمين للتعرف على الدين الإسلامي".

الوسيطتان الثقافيتان رامونا وأنَّا (من اليمين إلى اليسار) أثناء زيارتهم لمسجد عمر
الوسيطتان الثقافيتان رامونا (يمين) وأنَّا أثناء زيارتهما لمسجد عمر (الجزيرة)

من ذاكرة المسجد.. عقد قران وزيجات

أضحى مسجد عمر ذاكرة جماعية للمسلمين وغيرهم في تورينو، بالنظر إلى المشترك الإنساني الذي يجمع سكان المدينة فيه "الإفطار الجماعي الذي يكون رفقة غير المسلمين فيبقى من أبرز الذكريات، حيث يظل المسجد مفتوحا خلال شهر رمضان للتعرف على الإسلام" كما تقول سعاد عمر للجزيرة نت.

والمتحدثة إحدى المترددات على المسجد، قاطنة بالقرب منه، وتحتفظ بذكريات عائلية فيه "من بين الذكريات الجميلة في هذا المكان التعبدي زواج ابنتيّ الاثنتين، لقد عقد قرانهما هنا. إنه مسجد اجتماعي في خدمة الناس كلما احتاجوا إليه".

سعاد عمر رفقة ضيوف مسيحيين ويهود
سعاد عمر (وسط) رفقة ضيوف مسيحيين ويهود في مسجد عمر (الجزيرة)

فيليكس، المسلم الإيطالي والكوري الجنوبي، لجأ لمسجد عمر في لحظة حاجة روحية والبحث عن الذات، يقول "إنه أول مسجد أدخله في حياتي. هنا رأيت لأول مرة الناس تتوضأ، تصلي وتقرأ القرآن الكريم. التقيت هنا بالعديد من الإخوة وتمكنت من تعميق إيماني".

ويضيف "أفضل الذكريات بمسجد عمر، كانت مع عروستي الجميلة، وهي مغطاة برداء مذهب، ودفء جميع الضيوف المسلمين والإيطاليين وغير المسلمين، وهم يقدمون لي أجمل التهاني".

فيليكس وزوجته خلال عقد قرانه بمسجد عمر الذي حضره مسلمون وغيرهم ضمنهم القص لوكا
فيليكس وزوجته خلال عقد قرانه بمسجد عمر الذي حضره مسلمون وغيرهم ومنهم القس لوكا (الجزيرة)

وأصبح لمسجد عمر دور اجتماعي وفضاء لإعلان عقد القران، حيث يرى فيليكس أنه "أصبح مكانًا للتجمع والتبادل الثقافي، إنه أكثر المساجد تعددا للثقافات في المدينة، حيث لا توجد أغلبية عرقية بين الحاضرين".

وينظم المسجد لقاءات تعارف بين الشباب المسلمين "وفق الضوابط الشرعية، من خلال مناسبات علمية بين أبناء المهاجرين، وقد أثمر هذا زيجات منها أخ باكستاني وإيطالية، وشاب إيطالي وصومالية" يقول الإمام شاهين.

مساعدة الأزواج المتخاصمين والفلسطينيين المحتاجين

ولأن الحياة الزوجية لا تخلو من عقبات، فإن "مسجد عمر يقوم بدوره في حل المشاكل المعروضة عليه بين الأزواج، وهذا الأمر ينطبق على كل الجنسيات التي تتردد على المسجد الذي يديره مهاجرون من الصومال ومصر والمغرب وتونس ولبنان وفلسطين" كما يؤكد علي الشوبكي للجزيرة نت.

علي الشوبكي أحد مؤسسي مسجد عمر
علي الشوبكي أحد مؤسسي مسجد عمر (الجزيرة)

وقريبا من منبر مسجد عمر تشد الأنظار صورة كبيرة للأقصى وغصن زيتون، ويقول الشوبكي إن هذا تعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني، وذلك "من خلال كفالة الأيتام، إطعام المسكين، ملابس العيد، الكتب المدرسية. وهذا الأمر لدواع إنسانية محضة، كما هو الشأن مع المهاجرين بإيطاليا خلال فترة كورونا، وغيرهم من المستضعفين عبر العالم".

المصدر : الجزيرة