طبقية التعليم بين الجامعة الوطنية والجامعات الخاصة.. كيف أصبح مستقبل أساتذة وطلاب لبنان في خطر؟

رئيس الجامعة اللبنانية بسام بدران: الجامعة واجهت تحديات كبيرة لأنها صورة عن واقع لبنان السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي.

معظم الطلاب في لبنان يفتشون عن سبيل للهجرة (الجزيرة)

بيروت- عند حرم الجامعة اللبنانية الدولية (خاصة) في بيروت، يقف محمد رعد (22 عاما) وجاك رحموني (21 عاما) بانتظار موعد امتحانهما الأول، للعام الدراسي الذي بدأ في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بالجامعات الخاصة في لبنان.

وقبل أن تعصف الأزمات بلبنان نهاية 2019، اختار الشابان التخصص بهندسة المساحة. لكن "طموحاتنا تهاوت، وندرس بأجواء عصيبة كواجب بلا شغف"؛ يقول محمد للجزيرة نت، الذي يوافقه جاك، ويعبران عن إحباطهما قائلين "نحلم بالهجرة إلى غير رجعة".

محمد وجاك أمام الجامعة اللبنانية الدولية (الجزيرة)

يتململ محمد وجاك من النظام التعليمي الجديد بالجامعات الخاصة الذي يعتمد على التعلم عن بعد، أو بدوام جزئي، بعد نحو عام ونصف من الفصول الافتراضية نتيجة تفشي جائحة كورونا. بينما إجراءات هذا العام استثنائية لأسباب فرضها الانهيار الذي انعكس على القطاعات التعليمية.

ويشير محمد إلى أن جامعتهم اتبعت نظام التعليم عن بعد وإجراء الامتحانات حضوريا، وقال "نواجه مصاعب بسبب انقطاع الكهرباء وضعف الإنترنت".

مقر الجامعة اللبنانية الدولية في بيروت (الجزيرة)

تداعي الجامعات الخاصة؟

يجد خبراء أن أزمات لبنان التي دفعت نحو 75% من أبنائه إلى هاوية الفقر، انعكست على أعرق الجامعات الخاصة، فلجأت معظمها لتسريح نسبة من الأساتذة والموظفين، والتقشف بمصاريفها في ظل فرض قيود مصرفية على ودائع الجامعات، وهجرة مئات الأساتذة للعمل بالخارج.

وهنا، يعتبر علي شلق -أستاذ الاقتصاد الزراعي بالجامعة الأميركية في بيروت- أن تقشف ميزانيات الجامعات الخاصة أثر على جودة التعليم.

وقدم شلق -وهو عضو اتحاد أساتذة الجامعة الأميركية- مثالا عن وضع الجامعة الأميركية كحالة ضمن جامعات لبنان، فبعد أن كانت الجامعة الأميركية تضع ثقلها بالأبحاث، وتختار أساتذتها بناء على أبحاثهم، "هاجر منها نحو 200 أستاذ وجدوا عروضا مغرية بالخارج".

وقال شلق للجزيرة نت إن المسؤوليات أُلقيت على الأساتذة الحاضرين، واضطر بعضهم لتعليم أكثر من مادة، وتسدد الجامعة الأميركية نحو 30% من رواتب أساتذتها بالدولار النقدي، "لكن ذلك غير كاف بسبب ارتفاع التضخم وتوالي الانهيار".

من جهتها، ترى الخبيرة التربوية ندى معوض -رئيسة قسم اللغة العربية بـ"جامعة القديس يوسف" (USJ)، أنه من الصعب أن يتخطى الأساتذة معاناتهم الاقتصادية التي "تحد قدراتهم على إنجاز أبحاث تطوّر الجامعات والطلاب سواسية".

وتعتبر أن أولوية الجامعات الخاصة تصب بآلية توفير الرواتب، بدل تمويل الأبحاث كالسابق، ما يؤثر سلبا على مستواها وترتيبها العالمي. وأشارت إلى أن طلاب لبنان اكتسبوا مهارات القرن الـ21 بالتعلم عن بعد، لكنهم مثقلون بهموم معيشية.

ومعظم الجامعات الخاصة، رفعت أقساطها بالليرة بنسب متفاوتة تراوحت بين 30 و60%، فتفاقمت معاناة طلابها وذويهم.

ويعتبر علي شلق أن رفع الأقساط غطى بعض الخدمات التشغيلية، "بينما الأبحاث والمعدات من الخارج تتطلب الدولار النقدي".

جامعة القديس يوسف في بيروت (الجزيرة)

طبقية التعليم

وإذا كان طلاب الجامعات الخاصة بدؤوا عامهم الدراسي، فماذا عن طلاب الجامعة اللبنانية الوحيدة المجانية، التي من المفترض أن تكون ملجأ اللبنانيين وتحديدا الفئات غير القادرة على الالتحاق بالتعليم الجامعي الخاص؟

ويبدو واقع طلاب الجامعة اللبنانية أشد سوءا، ويدفع عشرات آلاف الطلاب ومن الطبقات الفقيرة، ثمن إغلاق الجامعة بسبب إضراب أساتذتها.

وهكذا، تأثر الأساتذة والطلاب بخسارة قيمة الليرة أكثر من 90% من قيمتها، وانحلال البنية التحتية، وارتفاع أسعار الوقود بعد تحرير استيرادها، فصارت كلفة التنقل للأسرة توازي شهريا نحو ضعفي الحد الأدنى للأجور.

وفي أحد مقاهي بيروت، تعمل لميس (23 عاما) بدوام جزئي، وهي طالبة بالجامعة اللبنانية، مقابل راتب زهيد. تقول للجزيرة نت إنها تنتظر بفارغ الصبر فتح الجامعة أبوابها. وتعبّر عن خشيتها، لأنها تعمل اضطراريا لتوفير مصروفها بعد خسارة والدها عمله، وتجد مصيرها قاتما، بسبب إقفال الجامعة وعدم إيجاد فرصة عمل بمجالها، وانسداد سبل الهجرة أمامها.

الجامعة اللبنانية مغلقة بسبب إضراب الأساتذة (الجزيرة)

انهيار الجامعة اللبنانية

يحصي لبنان نحو 48 جامعة ومعهدا خاصا، بحسب أرقام وزارة التربية، ويجد كثيرون أن عددها ضخم نسبة لحجم لبنان وعدد سكانه الذي يناهز 6 ملايين نسمة.

وعاشت الجامعة اللبنانية -التي تأسست عام 1951- عصورا ذهبية قبل تسلل الأزمات إليها، نتيجة استغلالها للتوظيفات السياسية والطائفية كمختلف مرافق الدولة، واستشرى الفساد فيها برأي كثيرين، مقابل تغذية حضور الجامعات الخاصة، وسلك بعضها مسارا تجاريا بحتا لمصلحة رجال أعمال وقوى سياسية.

وتتألف الجامعة اللبنانية من 16 كلية تنتشر فروعها بالمحافظات، باستثناء 3 كليات مركزية ببيروت، وهي كلية العلوم الطبية والصيدلة وطب الأسنان، و3 معاهد للدكتوراه.

وفي لقاء مع الجزيرة نت، يشرح رئيس الجامعة اللبنانية بسام بدران التحديات التي تواجه الجامعة الوطنية، ويضع انهيار الليرة في طليعتها.

وعينت الحكومة اللبنانية بدران لإدارة الجامعة في 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، خلفا للرئيس السابق فؤاد أيوب، ويجد نفسه أمام مهمة صعبة للغاية، وهو الذي عاصر أطوار الجامعة، وتخرج فيها قبل أن يتخصص بحثيا بالأمراض السرطانية وجهاز المناعة بالخارج، وتفرغ باللبنانية منذ العام 2008 وكان عميدا لكلية العلوم.

رئيس الجامعة اللبنانية بسام بدران: تحديات كثيرة تواجه الجامعة الوطنية وانهيار الليرة في طليعتها (الجزيرة)

ويرى بدران أن الجامعة واجهت تحديات كبيرة "لأنها صورة عن واقع لبنان السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي". والأزمة الفعلية -برأي رئيس الجامعة- هي أن ميزانيتها مرصودة من الدولة بالليرة، ولا تتيح تأمين كافة مستلزماتها لضمان استمراريتها.

وقبل انهيار الليرة، "كانت ميزانية الجامعة توازي نحو 250 مليون دولار سنويا (وفق سعر الصرف الرسمي 1500 ليرة)، واليوم لا تتعدى قيمتها 13 مليون دولار (سعر صرف الدولار بالسوق السوداء تجاوز 20 ألفا)".

ويوضح بدران أن سبب إقفال الجامعة مرهون بإضراب أساتذتها المتفرغين والمتعاقدين ولديهم مطالب وظيفية واقتصادية. ويبلغ عدد المتفرغين نحو 1600 أستاذ، مقابل نحو 3 آلاف أستاذ متعاقد، يطالبون الدولة بتفرغيهم أسوة بزملائهم. وكان راتب الأستاذ المتفرغ يوازي نحو 4 آلاف دولار شهريا، و"أصبح بمعدل 200 دولار، وكانت ساعة التعليم للأستاذ المتعاقد نحو 60 دولار، أصبحت نحو 5 دولارات".

وقال بدران إن الأستاذ الجامعي كان يعيش بمستوى اجتماعي لائق يتيح له التفرغ للأبحاث، فأصبح مثقلا بالهموم المعيشية.

ويشير إلى أن رئاسة الجامعة بالتنسيق مع وزارة التربية تسعى لتذليل معوقات عودة الطلاب إلى كلياتهم، ويؤيد مطالب الأساتذة، "من دون إغفال أن الأزمة تستوجب التضحيات، لأن ملف تفرغ المتعاقدين يواجه عواقب منذ 4 سنوات، وبيد مجلس الوزراء حصرا".

ويذكر بدران أن تعليم الطلاب أولوية، لأن الجامعة اللبنانية تضم نحو 87 ألف طالب، أي 40% من الطلاب الجامعيين بلبنان. وأوضح أن الأسبوع الحالي قد يفتح أفقا للتسويات، وقال "المطلوب من الهيئة التربوية بذل الجهود لدفع الجامعة إلى الأمام.. سنصنع حلولا، لأن الفشل ممنوع بجامعتنا الوطنية الوحيدة".

الشرخ الطبقي

في المقابل، تعتبر سوزان كحّالة -وهي أستاذة متعاقدة مع الجامعة اللبنانية منذ عام 2013- أن ما يقوله رئيس الجامعة لا يعكس حجم المأساة التي تعصف بالجامعة، نتيجة انتهاكها من القوى السياسية والطائفية منذ عقود، و"وجدوا ببعض أستاذتها وسيلة للاستغلال وتقاسم الغنائم بالتعيينات، وتعاطوا معها كصندوق انتخابي وللمحصصات لا كجامعة وطنية".

وقالت كحالة للجزيرة نت إن التعاقد مع الجامعة اللبنانية أضحى من أسوأ مهن التعليم لبنانيا، لأن "تفرغ المتعاقدين وتحسين أوضاع الأساتذة يرتبط بالكوتا الطائفية والسياسية".

الجامعة الأميركية في بيروت (الجزيرة)

وتأسف كحالة على مصير طلاب اللبنانية، و"هم دافعنا الوحيد للاستمرار والتضحية لأن عملنا أضحى بالسخرة".

وتجد الأستاذة المتعاقدة أن انهيار الجامعة الوطنية عزز الشرخ الطبقي لدى الطلاب والأساتذة، و"كأننا نعيش عقابا جماعيا إذا ربطنا المصلحة العليا بالتعليم لا بالتبعية السياسية والطائفية".

توازيا، ترى ندى معوض أن ما يعيشه لبنان أحد أوجه أزمات المناهج التعليمية المتقادمة التي لا تعمل لبناء المواطن والتعلم من أخطاء الماضي، وتحديدا بمواد التاريخ والتربية والجغرافيا، ما أدى إلى إغلاق فروع الإنسانيات ببعض الثانويات، وانسحب الأمر على الجامعات، مقابل إعطاء الأولوية للفروع العلمية فحسب.

وتجد الخبيرة معوض أن المناهج اللبنانية تنمي الفردية بدل المواطنة، وتدعو الهيئات التربوية إلى أن تكون الأزمة دافعا لإعادة النظر بالمناهج، وتضع تحدي بناء ثقافة المواطنة أولا.

المصدر : الجزيرة