ما علاقة الهوية باللغة وهل العربية في خطر؟

Arab University in Cairo, Egypt. Wood engraving after a drawing by Wilhelm Gentz (German painter, 1822 - 1890), published in 1869.
نقش على خشب يصور الحياة الحضرية في القاهرة القديمة للفنان الألماني فيلهلم جينتز (1837-1911) (غيتي)

اللغة هي عنوان سيادة الهوية، وهي التعبير الجلي عنها، وعنصر أساسي من عناصر جوهرها، سواء أكانت هوية قومية أو دينية أو غير ذلك، فالعلاقة بين اللغة والهوية جذرية أصلية، فالهوية تقوم على عناصر عدة، ولها مرتكزات محددة، تعد اللغة من أهمها، وتأتي في مقدمة طليعتها، فهي أداة التواصل والوعي، وهي أداة التعبير عما سواها من عناصر، والوسيلة التي تبين معالم المرتكزات الأخرى وتشرحها.

فالدّين والتاريخ والثقافة والعادات والتقاليد والمصير المشترك على سبيل المثال من مرتكزات الهوية، ولا يمكن لنا أن نعبر عنها بغير اللغة، فهي ترجمان المعاني وقالبها البديع.

ترتبط اللّغة بالهوية ارتباطا وثيقا، فهي عنوان وجود المرء وجوهر هويته، وتخلّي الأمم والشعوب عن لغتها الأمّ هو السبب وراء الرئيس وراء ضياع الحضارة الإنسانية الخاصة بهم، وتلاشي ملامح هويتهم الثقافية، فاللغة هي خط الدفاع الأول عن كينونة الأمة والدرع الواقي لمعالم هوية الشعوب وحضاراتها.

اللغة ودورها في حفظ هوية الأمم والشعوب

تعد اللغة لدى الشعوب المتقدمة المتحضرة شأنا قوميا وسياديا لا يجوز المساس به بأي شكل من الأشكال، يدخل في سياق الأمن الوطني والقومي لدى الشعوب المرتبطة ببعضها باللغة والتاريخ والحضارة، فالحفاظ على اللغة والاعتناء بها يغدو في هذه الحال واجبا قوميا بالمقياس الصريح لسلامة الشعوب وحفاظها على تمايزها وفرادة هويتها، ويغدو واجبا وطنيا حين ترتبط اللغة بماضي الشعوب وتلفّها بدثار وطني بعيد الأبعاد عميق المدى واسع الظل.

تختزن اللغة بطبيعتها مكونات الانتماء، وتختزلها في الوقت نفسه، فهي أداة التعبير عن الانتماء، وهي اللسان الناطق عن مكونات الهوية، فبها تتجلّى، وبها تُختَصر، لذلك نرى كثيرا من المتحدثين الرسميين في المحافل الدولية السياسية أو الثقافية أو ما سواها، يتمسكون بفكرة الحديث بلغاتهم، وإن كانوا يتقنون اللغة الإنجليزية بوصفها اللغة العالمية الأولى، لكنهم يفضلون استعمال لغاتهم الأم، بل يصرّون على ذلك، إظهارا لشعورهم بالانتماء وتعزيزا لمكانة اللغة وأهميتها لديهم، تاركين للمترجمين عبء ترجمة ما قالوه للحضور، معتزين بانتمائهم متمسكين به، مشيرين إلى استقلال كيانهم وقوة حضورهم بوصفهم هوية ووحدة قومية خاصة.

وهناك نماذج وصور أخرى للاعتزاز باللغة، فبعض الدول تمنع سفراءها ومسؤوليها من رؤساء ووزراء رسميا من الحديث بغير لغتهم الأم في المراسم والمحافل والاجتماعات الدولية التي ينضمون إليها، ففي ذلك إشارة إلى تثمينهم للغتهم وعنايتهم بها، وفيه إقرار صريح بكونها العنصر الأول للتعبير عن ذات الهوية وأصالتها.

هل الهوية العربية في خطر؟

يذهب بعض المهتمين بقضايا اللغة إلى أن الهوية العربية في خطر، بسبب عدم الاعتناء بلغة الأجيال عناية كافية، فضعف اللغة يعني بالضرورة ضعفا في شعور الانتماء، كما يورث لدى الأجيال شعور الانسياق وراء الآخر وتمجيد هويته ولغته، وتبني فكره وثقافته بمرور الأيام، فتصبح ملامح الهوية غائمة، والشعور بالانتماء ضبابيا ومشكوكا بأصالته، ومشتبها بقوّته وحقيقته.

ذهب الباحث عيسى برهومة إلى أن اللغة هي التأشيرة التي تعلو بها أقوام وشعوب، وتنحط بها أقوام وشعوب أخرى، فارتباطها بالثقافة وثيق عضوي، وشبّه الهوية واللغة والثقافة بمثلث يقوم عليه عماد الأمم والشعوب، إذا ضعف أحد الأضلاع أو اهتز أو سقط تهاوت الأضلاع الأخرى إلى التهاوي والسقوط. وأشار إلى الاختلاف القائم بين المهتمين بقضايا اللغة والهوية حول العلاقة بينهما، إذ ينقسمون إلى فريقين، أحدهما محافظ يرى أن الأولى بنا أن نثمّن الأصول والجذور التي انطلقنا منها، ونتمسك بها ونرعاها ونحييها، وفريق يرى أن مثل هذا التماسك يتعارض مع عجلة التطور والتقدم.

والحقيقة أن هناك نقطة وسطا بين الفريقين نستطيع من خلالها أن نتمسك بالأصول ونحافظ عليها، وننفتح على الجديد، ونتلقى منه ما يفيد ويغني بدون المساس بجوهر الهوية أو العبث بأهمية اللغة، وجعلها محض مفردات تعبيرية بوظيفة تواصلية فحسب، فثقافة الأمم عنصر من عناصر هويتها، واللغة قالبها، والانفتاح على الآخر يرفدها ويعكس مدى أصالتها وعمق جذورها، ويظهر مرونتها وقدرتها على التفاعل مع الآخر المختلف بدون العبث بجوهرها والاستسلام لهيمنة الآخر عليها.

يحدث الانسياق وراء الآخر، وتتحقق التبعية له حين تتراجع الأمم، وتتقهقر الصحة النفسية والشعورية لدى الشعوب، ويتخلى القوم عن فكرة تميز هويتهم، ويتهاونون في مسألة الحفاظ على مكونات الهوية، ويتجلى ذلك في التبعية للعولمة والانجرار وراءها، كما رأينا في كثير من دول العالم الثالث التي فرضت الولايات المتحدة الأميركية عليها لغتها وثقافتها، فصارت تبعا لها من جهة، وعورا أو جانبا ضعيفا لها من جهة ثانية، فاللغة وعاء للفكر، وشكل من أشكال تجليات الحداثة.

لذلك لا بد من التعامل بجدية مع واقع اللغة العربية في عصر العولمة، لأن انتشار الصور النمطية عن تراجع اللغة العربية إزاء اللغات الأجنبية بوصفها الأقدر على الإحاطة بمفردات التقدم العلمي والتقني، خطير وذو أبعاد سلبية، فقد يجعل اللغة في تقدير أبنائها في درجة ثانوية، فيؤدي ذلك إلى تراجع وخيبة أمل شعورية تجاه الهوية العربية.

لن تكون الهوية العربية في خطر ما دام أبناؤها في سعي دائم نحو الحفاظ عليها، وتقدير مكوناتها والعناية بها، فالاطلاع على ثقافة الآخر ومكونات هويته، وتحديد مدى قربه واختلافه، دليل وعي عميق بمعنى الهوية والانتماء، بعيدا عن الانسياق وراء هيمنة الآخر ووهم تفوقه والشعور بالعجز عن اللحاق به والاعتقاد باستحالة السبق والتفوق عليه.

ويؤكد برهومة أيضا أنه لا بد من التمييز بين الثابت والمتغير في جزئيات من عناصر الهوية، فاللغة محدد ثقافي غير قابل للعبث، والحضارة حصيلة التراكم المعرفي والثقافي للأمم، ولا بد من الحفاظ على الثوابت والانطلاق نحو تسخير الإمكانيات المتوافرة لتطوير الواقع المعاش وتحسينه.

إن البيئات العربية التي لا تجعل اللغة العربية حاضرة في واقعها اليومي مهددة في انتمائها الحضاري وهويتها الصلبة، فكيف إن كنت تسير في بعض المجتمعات العربيّة فلا تسمع من اللغة العربيّة إلا بقايا يسيرة! فالرطانة الغربية هي الطاغية في كل مكان، في السوق والشارع والعمل والمنزل!

إنها صرخة نذير لكل القائمين على المؤسسات العاملة في الدول العربية التي تهيمن فيها الرطانة الغربية أن تستنفر لوضع السياسات والتشريعات في ميادين التربية والتعليم والإعلام، لجعل اللغة العربية تجري على الألسنة وتختلط بها مشاعر الاعتزاز في ظل الهزيمة النفسية التي تعتري الأجيال، فإن ذلك هو أحد مسالك الحفاظ على وجودنا، فلا معنى لتراجع لغتنا من مجتمعاتنا وتقهقرها إلا أننا، إن لم نتدارك أنفسنا، سنكون هشيما تذروه رياح الآخرين.

المصدر : الجزيرة