المشاعر المحظورة في "غناوة العَلَم" النسوية.. "بعيدة برقة على المرسال" وأشعار الحب عند البدويات

كتاب ميرال الطحاوي بعيدة برقة على المرسال مواقع التواصل
كتاب "بعيدة برقة على المرسال" يضم نصوصا من قصائد الحب والفقد والرثاء في الذاكرة النسوية ويتتبع مولد وتطور الغناوة وشعر الحب الشفاهي البدوي في مصر وليبيا (الجزيرة)

تقدم الروائية المصرية ميرال الطحاوي، في كتابها "بعيدة برقة على المرسال: أشعار الحب عند نساء البدو"، بحثا عن أشعار الحب في التراث النسائي البدوي أو "الغناوة" في صحراء مصر الغربية وإقليم برقة الليبي.

الكتاب الصادر عن منشورات المحروسة لا يكشف فقط الخرائط الثقافية لمولد وتطور الغناوة، بل يقدم للقارئ صورا شعرية لأشكال بوح النساء بالمحبة والفراق والقدر، من خلال مجموعة من النصوص الشعرية التي تعكس هذه المشاعر المحظورة والمسكوت عنها في تاريخ الأدب الشفاهي النسوي بسبب التهميش وقوانين القبيلة الصارمة.

وتشير صاحبة كتاب "بنت شيخ العربان" إلى الصورة النمطية المسبقة عن العربان البدو، والجهل التاريخي برحلة القبائل العربية من جزيرة العرب إلى الشمال الأفريقي ومحطاتها، وما آلت إليه تلك الجيوب العرقية من تطور أو انحدار. وعن ذلك الخلط الذي دائما ما يحدث بين العربان "القبائل العربية" والبدو الرحل والغنامة والغجر المتنقلين، وأرجعت ذلك الخلط إلى بعض الأعمال السينمائية، وتشابه بعض الملامح الثقافية البدوية في نزوعها للتنقل والهجرات والبنية القبلية والعشائرية والقوانين العرفية.

وأضافت أن "المجتمعات القبلية في مصر كانت -وما زالت- مجتمعات مغلقة، لذلك كان الاقتراب منها أدبيا محفوفا بالمخاطر، فضلا عن المغالطات".

و"الغِنّاوة" قصيدة البيت الواحد المُلغِز المشحون بالمشاعر، مُجَهّلة النسب (وفقا لأعراف القبيلة) عند العرب القيسيين (المغاربة) في بلاد طبرق بليبيا، والشرقية وغرب النيل بمطروح والفيوم بمصر. وقد حظي هذا التقليد الأدبي والشعري بجهود بحثية من رحالة وأساتذة أدب وفولكلور.

و"العَلَم" هو الجبل العالي أو المنارة، لكنه هنا محبوب يستحيل الوصول إليه من امرأة شريفة وجميلة عالية القدر بعيدة المنال صاحبة عقل وأدب، أو رجل مشهور كريم وبطل وشهم.

والغناوة رسالة وجدانية موجهة إلى معشوق مُضمَر، يطلق عليه توريةً "عَلم"، يتوجه إليه الخطاب الشعري بالشكوى والنداء والإخبار، حسب تقرير على الجزيرة نت.

ميرال الطحاوي
ميرال الطحاوي مع روايتها "أيام الشمس المشرقة" (الجزيرة)

فن الحزن

في مجتمع العربان حيث القوانين الصارمة والعزلة التي تُفرض على النساء، لم يكن أمام ميرال الطحاوي للخروج من هذه القيود إلا التلصص على مجالس النساء، وقالت عن وقوعها في غرام التراث الشفهي للبدو "كنت أقطع الليالي الطويلة، أحاول الاقتراب من جلسات السمر النسوي، التي تحفل عادة بتناقل الحكايات والأسرار الخاصة للآخرين، ويتخلل ذلك الطقس ترديد بعض الأغاني التي تتحدث عن الفقد والحنين والفراق والقدر والدمع، وقصص المغازي، وشذور من تاريخ الشتات القبلي، واستحضار أساطير القبيلة، وتاريخها الحقيقي، أو المتوهم".

وتعتقد صاحبة كتاب "أيام الشمس المشرقة" أن المروي الشفهي البدوي تشارك فيه النساء بشكل ما، وأن "غناوة العلم" لم تكن حكرا على الرجال، بل إن بعضها وُلد من رحم أنثوي، فالغناوة "كنوع شعري وعاء يسمح بمشاركة المرأة فيه. وهي في جوهرها تعبير رمزي مليء بالشفرات والرموز، وفي محتواها العاطفي عن توق أنثوي لبوح منعتق من قيود الجماعة".

وتؤكد صاحبة كتاب "نقرات الظباء" أن إثبات فرضية مشاركة المرأة في المأثور الشفهي يشوبه الصعوبة بسبب التهميش وقوانين الحظر التي منعت تداول أغنياتهن علنا، فظلت تُتناقل سرا شفهيا من جيل إلى جيل.

"بيني وبينهم بلدان وحدود

كذاب

يا منام الليل.

***

وغلاك لا تخاف عليه

مدسوس

بين عيني وهدبها.

***

والصبر ما قضى حاجات

مليت

والرجا بابه قفل.

***

تريد يا عزيز تخيب

وتعارك

على شيء ما قسم".

شبيه الهايكو

وتشير الطحاوي إلى أن غناوة العَلم أول ما يؤدى في الممارسات الاحتفالية للرجال، بواسطة الغَناي الذي يقدمها بأنين موجع بمفردات الهجر والفراق والصبر والدمع.

"بين ياسين ورجا

خليت

يا عزيز العقل.

***

صندوق خاطري مقفول

مفتاحه مع ناس باعدوا".

وترى أن العَلم من أصعب أشكال الشعر البدوي لطبيعته الفنية، فالتجريد المطلق للمعاني يجعله أقرب إلى الحكمة، وصعوبته تكمن في تلك الطبيعة التي جعلته متوارثا. ويمكن تشبيهه من حيث الاختصار بـ"الهايكو" الياباني، ومن حيث الرقة بـ"اللانداي" البشتوني في أفغانستان، ومن حيث المضمون العاطفي بـ"البلوز" الأميركي.

وأوضحت صاحبة كتاب "بروكلين هايتس" أن إقليم برقة الليبي يشكل في التراث الشعبي البدوي -وتحديدا في تراث عرب التغريبة- الفردوس المفقود أو أرض المحبة التي تستحضرها غناوة العَلم بشجن وحنين أبديين.

وتحدثت ميرال الطحاوي عن التماس الحدودي بين وادي النيل والصحراء الليبية وما شهده من نزاعات وحملات سياسية، وفي الوقت ذاته كان خط الفصل والوصل بين ثقافتين متجاورتين ومتنازعتين.

لذلك، من الصعب على الباحث تحديد جغرافيا غناوة العَلم. وكيف انتقل هذا اللون من الشعر الشعبي وانتشر في صحراء مصر الغربية ومنها إلى قبائل الشرق الليبي.

جمع الغناوة

وعند سؤالها عن مصادر وخطوات تجميع مختارات كتاب "بعيدة برقة على المرسال"، تجيب المؤلفة بأن هذه المختارات تركز على وتستشهد بالتراث الشفهي الموروث والمجموع وغير المنسوب لشاعر فحسب، أي ما ينطبق عليه التراث الشفهي المتواتر والمجموع حقليا. وقد اعتمدت في هذه المختارات على التواتر، وليس على الجديد والحديث مما أبدعه شباب القبائل المحدثين في هذا الوعاء الشعري، وآثرت أن تضع ثبتا بكل الجهود السابقة، لعل ذلك يؤرخ لمحاولات جمع ونشر هذا الفن الشعري البدوي.

وتلفت إلى أن هذه المختارات قد تم تجميعها من أبناء قبيلتها عرب الهنادي بالبحيرة والشرقية والفيوم، واستطردت "بذلت جهدا كبيرا في التحقق من تداولها في نطاق حيز البحث، وهو القبائل العربية في الغرب المصري، وكيف عبرت الحدود الجغرافية لتعبر عن جماعة بشرية ثقافية تشتتت بين الحدود الجغرافية، إن هذه المختارات لا تثبت فقط قدرة الفن الواحد على تخطي الحدود الجغرافية، بل تثبت تاريخا طويلا من الشتات البدوي".

وختاما، حاولت المؤلفة تفسير هذه المختارات بمقاطع من الشرح تقربها من القارئ العربي. وقالت إن ثراء النصوص هو ما دفعها للبحث عن نصوص تخطت الزمن واللهجة، لتعبر عن أرقى صور المحبة والفقد والرجاء بين المحبين، كما تطرح كثيرا من الأسئلة عن طبيعة مشاركة النساء أيضا في التراث الشعبي الشعري البدوي.

"رجيت والرجا ما جاب

ننساهم الله غالب عليّ

****

لو كان يا منام الليل

تبقى رسيل بيني وبينهم

***

الله ما عليه صعيب

خلق إعزاز.. ما بال قسمهم".

المصدر : الجزيرة