المترجم المصري سمير جريس بين رفاهية الاختيار وأزمة مشاريع الشخص الواحد

المصري سمير جريس
المترجم المصري سمير جريس درس اللغة الألمانية وآدابها فى القاهرة وجامعة ماينتس بألمانيا (مواقع التواصل الاجتماعي)

في السنوات الأخيرة، برز اسم الكاتب والمترجم المصري سمير جريس، بوصفه أحد أهم التجارب العربية، التي راكمت مشروعا في الترجمة الأدبية وغدت تمثل جسرا قويا بين الثقافتين العربية والألمانية.

وإذا كان سمير جريس، قد اختار الترجمة نسقا على مستوى التفكير، فإن صنعته اللغوية لم تقف عند حدود المعنى والتقنية والصنعة، بل امتدت إلى علاقة المترجم بأسلوبه ومدى تطوره من عمل أدبي إلى آخر. فهذا الرهان الأدبي يتبدى في مشروع ترجماته، ففي كل عمل مترجم جديد يشعر القارئ بارتفاع منسوب الوعي الثقافي لديه وقدرته على تجديد معجمه اللغوي ونحت أسلوب أدبي سلس يتماشى في منطلقاته الفكرية والتخييلية مع طبيعة النص المترجم.

وحرص صاحب "عازفة البيانو" على ترجمة عيون الأدب الألماني الحديث منه والمعاصر، وجعل الكثير من العوالم الأدبية المتخيلة أمرا ممكنا للقارئ العربي.

وهذا النوع من الترجمات الكبيرة هو الذي يثري الأدب العربي المعاصر، لأنه يضعه في مقابل ثقافة متينة كونية قادرة على خلق عملية تأثير وتأثر، بما يجعل الثقافة العربية تدخل في سجال معرفي مع نظيرتها الألمانية وتصوغ نظامها التخييلي وتجعلها في قلب ثقافة كونية أكثر وعيا بمفاهيم الحداثة والمعاصرة، وأكثر تطلعا إلى البحث عن منافذ جديدة عن طريق الموضوعات والأساليب والأشكال، التي تتمتع بها النصوص المترجمة للمصري سمير جريس.

بمناسبة حصوله على جائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة، كان للجزيرة نت هذا اللقاء معه.

  • سمير جريس، أولا، فزت قبل أيام قليلة بجائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة. ما الذي تقوله للقارئ العربي عن هذا الفوز؟

أقول إنني أشعر بالغبطة الكبيرة لهذا التكريم الذي يحتفي بمنجزي في الترجمة خلال 40 عاما تقريبا، قمت خلالها بترجمة ما يزيد على 35 عملا من الأدب الألماني الحديث والمعاصر، وأشعر بالسعادة عندما تكرمني هذه الجائزة العالمية باعتباري جسرا بين الثقافتين العربية والألمانية.

هواجس البدايات

  • ما الهاجس المعرفي الذي قادك مبكرا صوب الترجمة الأدبية لتغدو اليوم أحد أبرز رموزها داخل العالم العربي؟

لم يكن في حسباني يوما أن أكون "رمزا للأدب الألماني"، أو "صوت الأدب الألماني بالعربية"، مثلما كتبت صحيفة "أخبار الأدب" القاهرية في أحد أعدادها. بالتأكيد تسعدني هذه الأوصاف، لكنها لم تكن في حسباني عندما بدأت عملي كمترجم. على العكس البداية كانت محبطة جدا في أواخر الثمانينيات، تقدمت بعدة مجموعات قصصية، الأولى لم تنشر حتى اليوم رغم الموافقة عليها، والثانية نشرت بعد 8 سنوات من التأخير.

بعد ذلك توالت ببطء الترجمات التي أنجزتها، رغم كل الصعوبات المادية والمعنوية، وتزيد حاليا على الـ35 عملا، من أبرزها مونودراما "الكونترباص" و"عازفة البيانو" لإلفريده يلينك (نوبل 2004)، و"صداقة" لتوماس برنهارد، و"الوعد" لفريدريش دورنمات، و"دون جوان" لبيتر هاندكه (نوبل 2019)، و"حلم" لأرتور شنيتسلر، و"شتيلر" لماكس فريش، وأخيرا "اكتشاف البطء" لستن نادولني.

غلاف اكتشاف البطء
رواية "اكتشاف البطء" لستن نادولني ترجمها للعربية سمير جريس (الجزيرة)

وبالطبع، أنا لا أمثل بأي حال من الأحوال الأدب الألماني، هناك أسماء كثيرة جديرة بتمثيل هذا الأدب، بدءا من الرعيل الأول مثل الدكتور مصطفى ماهر والدكتور عبد الغفار مكاوي، مرورا بالدكتور نبيل حفار، ووصولا إلى زملاء أعزاء، مثل أحمد فاروق وهبة شريف وهبة فتحي وكاميران حوج وكثيرين غيرهم.

دوافع الاختيار

  • كيف يأتي تعاملك على مستوى النصوص الأدبية التي تختارها أو بعبارة أخرى، ما الدوافع الوجدانية الخفية التي تجعلك تختار رواية أو مسرحية عن الأخرى؟

في الحقيقة تتداخل أسباب عديدة عند قيامي بترجمة عمل ما. معظم الأعمال التي نقلتها إلى العربية هي من اختياري.

في بداية عملي كمترجم اخترت نصوصا قصيرة للأديب الألماني بورشرت وهاينريش بول. من ناحية كانت هناك اعتبارات عملية، مثل سهولة نشر تلك النصوص القصيرة في المجلات والدوريات، ومن ناحية أخرى لأن القصة القصيرة الجيدة تستطيع مخاطبة القارئ في لغة وثقافة أخرى على نحو أسهل بكثير من الرواية الطويلة؛ كما أن هذه القصص القصيرة تتحدث عن الخبرة الأساسية التي أثرت عميقا في الأدب الألماني المعاصر، أعني خبرة الحرب.

بعد ذلك اتجهت إلى ترجمة الرواية. كان همي -ولا يزال- هو نقل أعمال متميزة من كافة اتجاهات الأدب الألماني اللغة المعاصر، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. أقول نقل أعمال متميزة، إما لأنها حققت شهرة في داخل المنطقة الألمانية (مثل "قصص بسيطة" لإنجو شولتسه)، أو لكون العمل لكاتب شهير له وزنه مثل رواية "جون جوان" لبيتر هاندكه (والتي اقترحتها على الناشر قبل حصول الكاتب على جائزة نوبل).

وقد أترجم عملا أرى أنه يثير اهتمام القارئ العربي، مثل مسرحية "مدرسة المستبدين" لإيريش كستنر، ومسرحية "99 في المئة" لبرشت، وهما مسرحيتان تتناولان موضوع القمع والاستبداد، وأنت تعلم راهنية هذا الموضوع في منطقتنا.

وأحيانا أود أن أنقل عملا لكاتب مهم لا يعرفه القارئ العربي، مثل الروائية النمساوية إلفريده يلينك في روايتها "عازفة البيانو" التي كانت أول عمل يترجم لها، وكذلك مواطنها توماس برنهارد في كتابه "صداقة". وأخيرا فأنا أترجم عملا ما لأنني -ببساطة- أحببته، واستمتعت بقراءته وأود أن يشاركني آخرون هذه المتعة، مثل "الكونترباص" لزوسكيند، و"الوعد" و"العطل" لدورنمات، و"الطباخ" لمارتين زوتر.

وهناك أعمال اقترحها عليّ الناشرون، ووجدتها بعد المطالعة جديرة بالترجمة، مثل "زمن مالر" لدانييل كيلمان، أو "حياة" لدافيد فاغنر، أو "العاصمة" لروبرت ميناسه والتي أعتبرها من الروايات المهمة لفهم آليات العمل في الاتحاد الأوروبي، ونوفيلا "حلم" لأرتور شنيتسلر الصادرة مؤخرا.

غلاف العاصمة
سمير جريس يرى أن رواية "العاصمة" لروبرت ميناسه من الروايات المهمة لفهم آليات العمل في الاتحاد الأوروبي (الجزيرة)

علاقة المترجم بالناشر

  • ماذا عن الأعمال الأدبية المقترحة؟

هناك أعمال يقترحها الناشر عليّ لاستثمار نجاح كاتب ما، لكني أرفضها إذا لم تعجبني أو تخاطب شيئا فيّ. ولأني غير متفرغ للترجمة الأدبية، فلدي رفاهية الاختيار، والرفض أيضا.

بعد نشر "عازفة البيانو" حدثني أكثر من ناشر لترجمة عمل آخر ليلينك، لكني رفضت، لأن العمل المعروض لم يثر حماسي. وتكرر الأمر بعد حصول هاندكه على جائزة نوبل، وكنت قد انتهيت لتوي من ترجمة "دون جوان".

لكني رفضت كل الأعمال المعروضة عليّ، لأن أعماله الأخرى -ببساطة- لم تخاطبني، ففضلت أن أكتفي بتجربة "دون جوان".

من ناحية أخرى اقترح على عديد من الناشرين أعمالا أراها مهمة، لكنها رفضت لأسباب تسويقية، منها مثلا رواية "شتيلر" الضخمة للكاتب السويسري ماكس فريش، وهي تقارب الـ500 صفحة، رفضها أحد الناشرين وقال لي بصراحة: لن أستطيع تسويقها ولن تجد عددا كافيا من القراء حتى تغطي تكاليفها.

وكان من حسن الحظ أن دار ممدوح عدوان تحمست لنشرها. مسرحية الألماني برشت "99 في المئة" ظللت أعواما طويلة أبحث لها عن ناشر، ليس فقط لتناولها السياسي، ولكن أيضا لأن معظم الناشرين يرفضون نشر المسرحيات لأنهم يفضلون نشر الروايات فحسب.

تضخم الترجمة الأدبية

  • لماذا في نظرك، تبدو الترجمة اليوم داخل العالم العربي حكرا على الأدب، مقارنة بالدراسات الفكرية والمؤلفات السينمائية والمونوغرافيات الفنية؟

هذا سؤال وجيه جدا، وأعتقد أن السبب هو إقبال القارئ العربي حاليا على الروايات. هناك نهم لقراءة الرواية في العالم العربي، والناشرون يحاولون إشباع هذا النهم. والنتيجة أنهم يهملون فروعا أخرى من فروع المعرفة، لا تقل أهمية عن الأدب. وللأسف الكفة مختلة، ومائلة بشدة لصالح الرواية.

جسر التواصل

  • يعرف سمير جريس اليوم داخل الثقافة العربية المعاصرة بكونه الوسيط الأكثر تجذرا ووعيا بالثقافة الألمانية. كيف تفهم طبيعة هذه العلاقة؟ وما مدى تأثير الثقافة الألمانية على نظيرتها العربية والعكس أيضا؟

أعتقد أن للثقافة الألمانية حضورا كبيرا في ثقافتنا العربية. ويكفي أن ننظر إلى أثر الفلسفة الألمانية، ولنتذكر أن نجيب محفوظ قال عن نفسه إنه تأثر بتوماس مان عندما كتب ثلاثيته بعد أن قرأ رواية "آل بودنبروك"، وهي أيضا رواية أجيال. بالرغم من ذلك أعتقد أن تأثير الآداب الإسبانية واللغة والأدب الناطقين بالإنجليزية والفرنسية أكبر على الثقافة العربية من تأثير الثقافة الألمانية.

أهمية المؤسسة

  • أمام كثرة المؤسسات التي غدت تهتم بالترجمة، مقارنة بسنوات السبعينيات والثمانينيات، هل تعتقد أن هذه الحركة على مستوى الترجمة، أثرت إيجابا في عملية بروز تجارب أدبية عربية رفيعة؟

الحقيقة ليست كما يأمل المرء أو يتمنى. ربما تنقص الرؤية أو الإستراتيجية، وربما ترتبط بعض المشروعات بمؤسسيها، فإذا انصرفوا عنها، فقد المشروع أهم محركيه، وأحيانا ينهار. وأزعم أن هذا ما حدث تحديدا للمشروع القومي للترجمة في مصر الذي أسسه وأشرف عليه الراحل جابر عصفور، وعندما تركه، بدأ المشروع يتدهور سريعا، سواء من ناحية عدد الإصدارات أو نوعيتها، وذلك لأن المشروع كان قائما على جهد فرد، ولم يكن "مؤسسة" بالمعنى الصحيح للكلمة. وللأسف، ينطبق هذا على عديد من المشروعات في عالمنا العربي.

المصدر : الجزيرة